بحث هذه المدونة الإلكترونية

الجمعة، 21 أكتوبر 2011

طفل في الثانية عشر... وأزمة هوية! بقلم: أحمد الملواني


هل بالفعل كان لفيلم ماتريكس، ورواية ـ وفيلم ـ نادي القتال، كل هذا التأثير ـ الذي يراه كثير من النقاد والمثقفين ـ على تأسيس كتابة جديدة، تعني بالذات الممزقة، والهوية المفقودة، والعلاقة المبهمة بالخارج، باستخدام ألاعيب علم النفس، من أمراض عقلية، وثورات للاوعي؟
هذا التيار الذي فجره أحمد العايدي في روايته (أن تكون عباس العبد)، وجد صدا وانتشارا، فتعددت الكتابات في أوساط الشباب على ذات النسق.. ولكن هل الأمر هو محض تأثر برواية وفيلم أمريكيين؟ شخصيا لا أظن الأمر بهذه البساطة، فحتى بعيدًا عن الأدب، أو أي فنون.. في حياتنا اليومية كثرت أسئلة الهوية، في جيل يعيش تمزقا نفسيا بين متناقضات اجتماعية، وسياسية، واقتصادية، رسخت مفاهيم التطرف، فكانت لها الغلبة على أي وسطية أو سواء.
وفي روايته الأولى (أنا لست شريف)  ـ الصادرة عن مشروع النشر الخاص لمنتدى التكية الأدبي ـ يقدم لنا الكاتب الصغير إسماعيل خالد وهدان نفسه ببطاقة تعارف تفيض بالموهبة، ودلائل النبوغ المبكر. مقتحما هذه المنطقة الروائية المفعمة بالاضطراب والتشتت.
إسماعيل وهدان ـ المولود في أغسطس عام 1996 ـ فاجأني في هذه الرواية ليس فقط بسنه الصغير، ولا باقتحامه للون من الكتابة يحتاج إلى الكثير من الدقة والإحكام ـ وللطزاجة كذلك، لتقديم طرح مختلف عما كتب من قبل في ذات السياق ـ وإنما فاجأني حقا عدم إعتماده على سنه لاجتذاب القارئ، أو لتقديم نفسه تحت إطار الوصف الشهير (الطفل المعجزة)، بما يحتويه من دلالات تقييمية تعاطفية. فمن يتصفح الكتاب ـ الذي يتضمن مع رواية إسماعيل نصًا روائيا آخر لوالدته، الكاتبة إيمان الدواخلي ـ لا يجد فيه أية إشارة من قريب أو من بعيد لعمر الكاتب. ولكن هل أفاد هذا الكاتب؟ هل ربح هذا الرهان الصعب؟ فعند تقييمنا لنص يكتبه ابن الثانية عشر ـ تقريبا عمر إسماعيل وقت كتابة الرواية ـ بالتأكيد لن نكون متشددين في تقييمنا لفنيات الكتابة، أو اختيارات الكاتب لأحداثه، وأبطاله. سيكون هناك بالتأكيد قدر ما من التسامح مع سلبيات النص، إذا ما نجح الكاتب في إثبات موهبته. فهل أفاد إسماعيل التخلي عن هذه الميزة؟ هل قراءة نصه بموضوعية، ضمن أطار من معايير عامة، دون النظر إلى سنوات عمره المبكرة، كان في مصلحته؟
أنا لست شريف
يقدم إسماعيل وهدان في هذه الرواية، حبكة تعتمد على الإثارة، وتسارع الإيقاع، فالراوي ـ ذلك الذي نجهل اسمه ـ ومنذ الصفحة الأولى، ندرك أنه يعيش مشكلة ما، ذلك الابهام، والنقص في معرفته بذاته يحرك أحداث النص، فتطل أزمة الهوية وإدراك الذات علينا منذ المقدمة التي يضعها الكاتب على لسان بطله بضمير المخاطب، في خطاب مباشر موجه للقارئ، والتي يختمها بـ :
(تأمل الناس من حولك؛ لتعرف كيف أن عالمك هش.
أنت فقط آخر، لا يفكرون بوجوده أصلا، وليس لديهم احتمال بهذا.. ربما أنت أصلا ـ مثل أحدهم أعرفه ـ لا شيء.
بعد هذا اكره البشر جميعا (بما فيهم نفسك لو كنت بشرا)..
لتستحق أن تقرأ السطور القادمة.)
وهكذا يبدأ إسماعيل بإشراك القارئ في اللعبة؛ البحث عن الهوية. أن يكتشف حقيقة نفسه، ليستحق قراءة الرواية!
ثم يقدم لنا من خلال عشرة فصول مرقمة ـ في 105 صفحة ـ بطلا يعيش أزمة هوية مركبة، داخلية وخارجية.. مفتقدا لعلاقته السليمة بذاته، التي يبدو طوال الأحداث جاهلا بكامل خباياها. ومفتقدا كذلك لعلاقات سليمة بالمدركات الخارجية من زمان ومكان وشخصيات.
منذ البداية تطل علينا علاقة الراوي بصديق طفولته حسام، ذلك الذي تشكل في وعيه كنوع من المثل الأعلى، منذ لحظة تعارفهما في سنوات الطفولة. وهي الفكرة التي رسخها الكاتب في صورة بليغة.. حين يقول الراوي عن حسام:
(هو يسكن في الدور الثامن. قال لي أنه اختار أن تكون شقته في هذا الدور العالي، حتى يبعد عن الناس قدر المستطاع. بينما كنت أظنه دومًا اختار هذا الدور، حتى يتعبني في الصعود إليه...
...وصلت وأنا ألهث.. رأيت أمامي المصعد، فأحسست بالبلاهة...) ص19
هذا الجهد الشاق في الصعود ثمانية طوابق إلى صديقه ناسيا وجود مصعد، ذلك الفعل العبثي، إنما يصور ـ في رأيي ـ عبث السعي وراء المثل العليا، أو أمنيات الكمال.
وكذلك يؤكد هذه النظرة الاسترجاع الدائم الذي يمارسه الراوي لأقوال حسام، مسبوقًا في الغالب بالفعل: يقول حسام.. وكأنما هو نبي يلقي تعاليمه..
(يقول حسام أن أشبه الناس بالعباقرة هم الأطفال...) ص17
(يقول حسام أن النفس البشرية أعقد شيء في الوجود...) ص 33
(مازلت أتذكر أن حسام قال:
"قدّر الشيء، يكن كنزا لك!") ص79
يعود الصديقان ليلتقيا في الكبر، فتتجدد صداقتهما، مع عرض صعب الرفض يقدمه حسام لصديقه في بداية الأحداث؛ وعدا بتحقيق كل أحلامه بطريقة ما، لا يخبرنا الكاتب عنها سوى أن حسام يسميها اختراعا، ويحكي عن قدرتها على اجتذاب النجاح إلى صاحبه كالمغناطيس.. هكذا يدور بنا الكاتب في أول فصلين في أجواء تمزق داخلي بين القبول والرفض...
(ومن أنا حتى أرفض ذلك العرض؟
الشيء الوحيد الذي منعني من قبول عرضه هو أنه غير ممكن. هو ـ على حد علمي ـ ليس بالساحر، ولا الخارق حتى يقوم بهذا.. قال أنه يستطيع، وبطريقة علمية بسيطة) ص30
وتنتهي تلك الحالة باكتشاف غرائبي، فلحظة أن يقرر الراوي الذهاب إلى صديقه معلنا قبول العرض، يكتشف أن شقة حسام مهجورة منذ أعوام، وأن حسام ذاته لا وجود له!.. لتبدأ بعدها رحلة الراوي الممزقة بين الداخل والخارج، في محاولة لاكتشاف هويته وماضيه، يصارع فيها لحظات فقدان للزمن، ودفتر يوميات من طفولته لا يتذكر شيئا من الأحداث المدونة فيه، وأصدقاء ومعارف يعاملونه على أنه شخص آخر اسمه شريف. لتبرز من هنا الصرخة اليائسة التي اختارها الكاتب عنوانًا للنص. (أنا لست شريف)، فنفي الهوية ـ كما يتضح من نهاية الرواية ـ لا يؤكد بالضرورة على هوية بديلة. ومن هنا تأتي مراوغة العنوان، فنبرته الواثقة الزاعقة، لا تقدم حلاً لسؤال الهوية المطروح طول الرواية.

جرأة الكاتب لم تكن فقط في اختيار موضوعه، وإنما كانت في اختيار أسلوبا صعبا للسرد.. فالزمن في النص يكاد يكون مفقودا.. واستدعاء الماضي يسير بطول النص متضافرا مع الأحداث الآنية، وقد استخدم فيه الكاتب أكثر من شكل للاستدعاء..
1 ـ شكل التذكر العادي، وهو الذي أفرد له الكاتب في البداية مساحات واضحة، ومباشرة. فنجده في الفصل الثالث، ومع أول حالة لعودة الراوي إلى ماضيه يقول:
(فلنعد بالذاكرة إلى زمن مضى.. وتحديدا منذ عشرين عاما)!
هذه المباشرة تختفي بعد ذلك، ليفاجئنا الكاتب الصغير بقدرة متميزة على خلط الأوراق واللعب بالزمن، متحركا بحرية للأمام والخلف، بإيقاع يتسارع مع تقدم الأحداث وتسارع إيقاعها.
2 ـ استخدم الكاتب الرؤى المبهمة القادمة من الماضي في الحلم، وهي الإشارات التي تزيد الراوي تشتتا وارتباكا، وتحفز القارئ وتثيره لترجمتها، واكتشاف معانيها، قبل أن يحقق الكاتب هذا في نهاية الرواية.
3 ـ العودة بالزمن عبر صفحات دفتر يوميات يعثر عليه الكاتب من طفولته، لتتبدى له علامات استفهام أكبر عن هويته المفقودة.
قدم الكاتب كذلك مهارة فائقة في اللعب بالإشارات لتوجيه القارئ بطول النص، فهو يعتمد لإثارة قارئه على نثر احتمالات إصابة الراوي بفقدان الذاكرة، أو آلزهايمر كما يسميه الراوي صراحة:
(بدأت أشفق على مرضى آلزهايمر، إذا لم أكن ذاتي منهم) ص70
ليكون التفسير الأسهل لأزمة البطل الذي يبدو وكأنه في حالة نسيان دائم. ولكن الحالة تبدو مع تقدم الأحداث أكثر تعقيدًا.. لنكتشف أن الكاتب كان يلوح لنا طوال النص بفكرة الجنون، وبشكل آراه ذو دلالة مقصودة...
(كيف أرفض عرضه؟ هذا هو الجنون بعينه...) ص10
(سألت حسام يوما:
ـ هل أنا مجنون؟
ابتسم.. قال لي أنه لم يحن الوقت بعد...) ص17
(هل أنا من أحضر هذا إلى هنا؟
إن كنت أنا، فعليّ أن أدرك شيئا هاما بالتأكيد: لقد اكتمل جنوني!) ص81
وحتى اللعب على دلالات أكثر عمقًا، واتساعا؛ فالراوي كلما ركب سيارة أو وسيلة مواصلات ينقطع عن الوجود تماما حتى لحظة وصوله. بما في هذا من دلالات ثنائية: نقطة الانطلاق ومحطة الوصول. والتي قد تكون معادلا لثنائية الحياة/ الموت، وما بينهما من وقت مسروق.. لتتحقق بمغزى أعمق فكرة ضياع البطل في الزمن.
كذلك قدم إسماعيل وهدان قدرة متميزة على الاختزال، وهو اختزال مطلوب في نص كهذا يعتمد على سرعة الإيقاع. سواء الاختزال في الوصف، أو في الحوار..
(سألته وأنا أتلفت حولي:
ـ أين السيدة التي تسكن هذه الفيلا؟
قال لي في رتابة:
ـ لا يوجد أحد يسكن في هذه الفيلا!
(تبا! هل أصبحت هذه وظيفة البوابين؟)
قلت: كيف؟
ـ هكذا..
ـ لكن...
قاطع:
ـ أقول: لا يوجد أحد..
صرخت في وجهه:
ـ لكن أمي تسكن هنا.)

بالتأكيد نجح إسماعيل وهدان ـ في مناطق كثيرة ـ في القفز فوق صغر سنه، وقلة خبرته الأدبية والحياتية، وتقديم نص محكم بدرجة كبيرة، يدل على موهبة ووعي وذكاء.. ولكن نقاط الضعف في الرواية، تعيدني إلى السؤال الذي طرحته في البداية: هل أفاد الكاتب الصغير أن يخفي عمره عن القارئ؟ فبين مباشرة في اللغة أحيانًا، ونقص في رسم الشخصيات، يتجلى صغر سن الكاتب ونقص خبرته. فبالتأكيد قراءة الرواية عن وعي بعمر كاتبها، أكثر فائدة للكاتب نفسه، فهو يمنحه جوازا بالعبور على تلك السلبيات دون أن يهتز إعجابنا بموهبته.. فمثلا قد يكون من الملحوظ ـ حتى في الأجزاء التي استشهدت بها على محاسن النص ـ شيء من البساطة في اللغة ـ لن أقول الركاكة ـ خاصة في تركيب الجمل، واختيار الألفاظ.. وإن كان الكاتب لا يسأل عن الأخطاء اللغوية الكثيرة والملحوظة ـ للأسف ـ في النص، وإنما هو نقص المراجعة اللغوية قبل طباعة الرواية.

نهاية..
أختتم بجملة وردت في سياق الراوية، لها في رأيي دلالة عميقة على وعي هذا الفتى بعناصر عالمه الروائي، ودقة صياغته، حيث يقول على لسان البطل..
(ورأيت طفلا في الثانية عشر من عمره)
فمن غير المعتاد أن نجد مراهقا يسمي من هم في ذات عمره بالأطفال، بل هو شيء أشبه بالعار في وعي هذه المرحلة العمرية. ولكن المتحدث هنا ليس المراهق ابن الرابعة عشر إسماعيل وهدان، وإنما هو بطل الرواية، الذي قد يكون شريف.


                                       عودة 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق