بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأربعاء، 19 أكتوبر 2011

شجرة العابد وسحر السرد العجائبى د.السعيد الورقى





الدكتور عمار على حسن كما تقول روايته الأخيرة "شجرة العابد" كاتب مثقف واع بالإنسان وتاريخه الثقافى، مدرك لقوانين المعرفة التى تفلسف وعى الإنسان بوجوده، ماهر فى فن الحكى بتلقائية تعرف جيدا سر الحكى وسحره.
الرواية هى الإصدار القصصى السابع فى إبداع الكاتب الذى صدرت له مؤلفات عديدة فى السياسة والفكر والتصوف والاقتصاد، وهى مؤلفات تؤكد اهتمام الكاتب بشكل خاص بالعلاقة بين الدين والسياسة والتاريخ والتصوف داخل وخارج وعى الإنسان ولا وعيه، وأثرها فى تشكيل مكوناته الثقافية التى تحكمه.
تقدم رواية "شجرة العابد" قصة الإنسان فى واقعيه الداخلى والخارجى، وحيرته أمام الأسئلة الكلية الهامة فى حياته من خلال علاقاته بالوعى الأسطورى والوعى التاريخى والوعى السياسى الاجتماعى، وهو ما جعل الفضاء السردى للرواية موزعا بين الشخصيات الأسطورية والشخصيات التاريخية والشخصيات الاجتماعية والسياسية والشخصيات المتصوفة العائشة فى الحقيقة والتائهة بين الحقيقة والشريعة.
فى هذا الفضاء المتنقل بين الأسطورى والتاريخى والاجتماعى السياسى والمعرفى يتحرك عاكف فى رحلة بحث أسطورية عن شجرة إلهية فى الأرض لها ما يماثلها فى عالم البحار وما يماثلها فى عالم السماء، ربما تكون شجرة المعرفة أو شجرة الحقيقة، وربما تكون الأمل المنتظر، أو ربما تكون شجرة المستقبل الذى يتطلع إليه الجميع، وقد كشف السرد عن هذه الاحتمالات فى غير موضع من الرواية، يقول:"أى شجرة هى.. شجرة الكنز، شجرة الدواء، شجرة العشق الإلهى.. شجرة الإنس.. شجرة الجن.. شجرة الكون الفسيح.. شجرة البداية والنهاية.. أى شجرة هى.. أى شجرة أنت؟".
وعاكف أو الإنسان التائه فى فضاء الكون، والمعلق بين الأرض والسماء، يحمل قدره بين يديه ويرحل فى الزمان والمكان بحثا عن الحقيقة، كما رحل أوديب الإنسان قبله أيضا باحثا عن الحقيقة، وبعد مغامرات التجوال والبحث يكتشف عاكف كما اكتشف أوديب أن الحقيقة فى داخله، وكما يساعد "ترسياس" الحكيم الأعمى أوديب على أن يبصر فى مقولته الشهيرة:"من سعى وراء الشئ ناله، ومن أهمل شيئا أفلته من يده" تقوم "نمار" العرافة بنفس الدور الذى لعبه ترسياس حيث تقول لعاكف:"اغمض عينيك وابحث عن الطاقة المطمورة داخلك فاستحضرها وستغنيك عنى، وستعرف بعد حين أن الإنسان هو خليفة الله فى أرضه، أعطاه من صفاته ومنحه من قدراته، لكن أكثر الناس لا يعلمون".
***
شجرة العابد هى نبؤة العرافة وحلم الإنسان العاكف منذ وجد وإلى نهاية الحياة فى عالم يموج بالقلاقل والصراعات، يحركه الطمع والجشع وفساد الذمم، ويفتقر إلى العدالة الاجتماعية.
قدم السرد مشاهد عديدة لهذا العالم من داخل الواقع الاجتماعى والواقع التاريخى والواقع الأسطورى والواقع الانفعالى، واستطاع أن يخرج هذه المشاهد فى رؤية متداخلة استطاع الكاتب أن يقدمها بنجاح من خلال إعادة تفكيك الواقع ثم بنائه من جديد على نحو يقدم شكلا مبهرا للفوضى الخلاقة، وأعنى بها أنها فوضى فى التشظى والجمع بين الواقعى والتاريخى والأسطورى، وبين المنطقى واللا منطقى، وبين الواعى واللا واعى، وبين الحسى والانفعالى.. الجمع بين كل هذه المتناقضات فى صيغة إبداعية تتقن سر الحكى وسحره، لقد توحدت الذات بالموضوع، فأصبحت رؤية الذات للواقع هنا رؤية شعورية انفعالية أقرب إلى أحوال المتصوفة فى مواقفهم.
ومن ثم اندمج السرد فيضا من الأحوال فى مواقف المعرفة والتجلى للإنسان العاكف فى الكون يبحث عن السر الحقيقى الكامن وراء الأسرار الزائفة فى رغبات وأمنيات سائر العباد الذين تطاردهم أطماعهمورغباتهم اليومية التعسة من مال وسلطان وشفاء وأمثالها.
***
عاكف هذا العصر وكل العصور هو أوديب الإنسان فى الميثولوجيا الإنسانية.. الإنسان فى مواجهة قدره، وإن اختلفت النظرتان؛ النظرة الوثنية التى كانت وراء أوديب والتى جعلت الحقيقة تفترسه، والنظرة ذات المرجعيات الإسلامية والصوفية المتداخلة بين الأديان السماوية والتى جعلت عاكف الإنسان يتوسل إلى أن المعرفة الحقيقية فى الجمع بين الحقيقة التى تشربها من الحاج حسين ومن حفصة ابنته، والشريعة التى أخذها عن شيخه الصاوى الذى علمه كيف يجاهد من أجل الحرية، ولكنه لم يعلمه كيف يحرر نفسه أولا، وهو ما توصل إليه بالتدريج من خلال رحلته مع الحاج حسين والجنية نمار ثم حفصة بعد ذلك التى قادته بالبصيرة إلى أن يرى الشجرة، شجرة المعرفة، حقيقة الحياة القائمة على الإيمان والعشق والعمل، وليكتشف معها أن الإنسان فى النهاية جاهل على علمه، ناقص على سعيه.
***
قدم السرد الافتراضى للحياة فى رواية شجرة العابد عددا من الشخصيات التى قامت بدور الرموز أو الأقنعة، فالشجرة التى نبتت كما يقول السرد اعتمادا على بدء الكون فى سفر التكوين حيث انهمرت المياه من الجهات الأربع وسالت بغزارة وجرفت أمامها كل شئ، وعندما انحسر الماء، وجف ريقه، وبعد مرور سنوات ليست بالقليلة نبتت فى هذا الكون الذى لا يعرف عنه الناس شيئا رغم كثرة ما يعرفون، لأن المعرفة الحقيقية لن تتأتى إلا حين يفرج الله عن الأرواح الحبيسة فى سجون الأجساد، فى اللحظة التى تذوب فيها الأرواح بين فجاج اللانهائى.
ويقدم السرد تفصيلات كثيرة لهذه الشجرة لتصبح معها كل شئ، لتصبح هى الوجود.
وعاكف هذا الإنسان الذى لا يشيخ بتجدده المستمر مع ثبات حيرته وأسئلته، والشيخ القناوى هو العبادة وعمارة الأرض والمجاهدة من أجل الحرية، والحاج حسين هو امتلاء الروح وسمو الأخلاق، ونمار الجنية هى العرافة التى تقود عاكف فى رحلة السمو والتى تواجهه بضعفه وحيرته والتى تطلب منه أن يسعى إلى اكتشاف القوة الكامنة فى داخله، فأصبح مستعدا وجاهزا للتواصل مع حفصة ابنة المحبة والعشق، ابنة الحاج حسين، وبها وعن طريقها وتجلياتها يصل عاكف إلى السر الحقيقى الذى أعيا سائر المخلوقات من أنس وجان، فجاءت أسماؤهم رموزا لمواقعهم الاجتماعية والتاريخية.
ومع أن الشخصيات هنا كانت أقنعة لأفكار وقضايا وقيم معرفية إلا أن الكاتب بمهارته فى السرد لم يعزلها عن الواقع الإنسانى، فتحركت فى واقع الحياة كما يتحرك الناس، حتى المخلوقات الأسطورية، فقد تحركت أيضا فى واقعها بمنطق الحياة البشرية، وهو ما أضفى على السرد مصداقية واقعية تجعل المتلقى متأكدا من أن ما يحدث مع ما فيه من أمور غير منطقية هو حياة واقعية مؤكدة تستحق الحكى وتستأهل الإنصات، وهو نفس ما يحدثه الحكى فى القصص الشعبى وفى حكايات ألف ليلة وليلة.
هكذا أعطى الكاتب للغرائبى قوة سحر الحكى عندما تملك أسراره.


                                           عودة 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق