بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأربعاء، 19 أكتوبر 2011

بين الذاتي، والأسطوري، والموروث"قراءة في رواية (الرَّقْ) لمحمد محمد نصر"


بين الذاتي، والأسطوري، والموروث
"قراءة في رواية (الرَّقْ) لمحمد محمد نصر"

"هو العمر لا يحتويه العمر. الطين جزء منه والنور بقيته.
 مليء بنا. يرثنا جميعا ولا نرثه"

تلتحم في رواية "الرَّقْ" لمحمد محمد نصر (الصادرة عن كتاب إفاقة الأدبي، لعام 2008) مستويات الوعي الذاتي الأسطوري، التي توغل في الموروث الشعبي والديني، بحيث تنبثق من كل من: الذات، والأسطورة، والموروث، مستويات أخرى من التعامل مع إشكالياتها على المستويين: الذاتي الخالص، والذاتي المرتبط بالواقع الخارجي والمحيط بكل متعلقاته المكانية والروحانية والطقوسية الضاربة في عمق الواقع والموروث الشعبي المتعلق بالشق العقيدي المتوارث والضارب بجذوره في متن الحياة بمختلف صورها التي تقترب إلى حد كبير من النموذج السحري أو الأسطوري، أو الميثولوجي الملتحم بمفردات المكان كمستوى أفقي منبسط، والمحتفظ بسحريته على مدار الزمان، كمستوى رأسي  دال على الاستمرارية ونمو تلك الإحداثيات، تلك التي تؤدي إلى إحداث ما يمكن أن نسميه انتصار الذات في تحقيق أطراف معادلتها الصعبة، أو رحلة بحثها عن ذاتها أو أسطورتها الحقيقية/ الجوهر المشع من الذات في فلسفة تجمع بين العقيدة ورحابة الفكر واتساع مدى خطوته، من خلال وعي خاص يستمد عنفوان قوته من كل تلك العناصر.. وحيث التجربة الصوفية الروحانية:
"... بحثاً عن عالم أكثر روحانية وشفافية وصفاءً، تنحسر فيه قوة المادة أو تذوب"[1]    
فالذات التي تطرق باب السرد الروائي حثيثا من باب الأسطورة/ الموروث الشعبي/ العمق الميثولوجي المتعاقب على مدى الزمن، ومتوازيا في ذات الوقت مع البعد الديني المتوارث المجبول على الاقتران بالحس الروحاني الشفيف.. وبلغة تتراوح بين اللغة الشفيفة الكاشفة، واللغة الدالة الرامزة، وبين لغة الحلم المحلّقة المتوثبة، وأحيانا المهوِّمة في فضاءات الذات والروح، وأحيانا كثيرة مقترنة بالمعجم القرآني المقدس..
 تلك الأبعاد التي تتمحور ـ بدايةً ـ  حول الجدة/ النموذج الدال على منبت الوعي وجذره القوي ميثولوجيا وحاضرا مستمرا، والذي يشيع في النفس والروح، تلك الرهبة وتلك الرغبة في ارتياد المجهول المكتوب في علم الغيب أو علم الروح على حد السواء، وذلك من خلال مفتتح سردي دال، ولكنه كاشف إلى حد بعيد، تلك هي الإشكالية التقنية الممتدة والمتوالدة التي يلعب عليها النص الروائي على مداره، من خلال الحكاية أو المنظور الحكائي للأسطورة، التي ترتقي بمراحلها نحو إدراك غايتها واستمرارها بوعي جديد مفارق هو وعي الذات وحضورها المتجدد، فالفرد/ الإنسان أساس الكون في تفرد عملية الخلق الأول، ومن ثم استوائه في أحسن تقويم:
"حين يرتدي وجه النهار، ذلك القناع اليومي المعتم.. تتسابق كل الأرجل الصغيرة إلى هذا الكوخ البعيد عن الأزقة والحارات لاهثة كي تصل إلى نهاية حلمها الأبدي.." ص7
بحيث يتحدد المكان/ المصدر الذي تنبثق منه الأسرار التي تنفتح من هذا المكان المحدد الضيق إلى رحابة المعنى، ورحابة الكون، ومدى الأبد، من خلال اعتماد صيغة آنية تشي باستمرار الحالة وديمومتها، وتكرار وجودها في هذا الحيز المكاني المرتبط بالأسطورة وبوجودها الفاعل المؤثر في تكوين المجتمع الذي تعيش فيه ومن خلاله، وتعتمدها على نحو من ديمومة البحث، وديمومة الرهبة والرغبة معا، في اختراق هذه الحجب الغيبية..
والبداية دائما، هي من خلال تلك البقعة السحرية التي تنطلق منها مرحلة الطفولة البريئة الغضة، أو الوعي الفطري المجبول ـ ربما ـ على تقبل الأشياء على علاتها، تلقينا واعتيادا، أو من منطلق واقعيتها السحرية الآخذة، من خلال سحر الحكاية وسحر المنطق والبيان الذي تشعله الجدة/الرمز/ ضمير التاريخ / ضمير الموروث/ الجذر الضارب بقوة في عمق الأرض، معراجا نحو آفاق أرحب وأقدر على إماطة اللثام عن سؤال الحياة والوجود.
"يد الجدة مبسوطة ولا تزال تهز رأسها كأنها إحدى العابدات أمام تمثال بوذا. الانتظار يأكل الأجساد، ويوافيخ الصغار ترسم مئات (الحواديت) التي سمعوها من قبل. تدخل الجدة يدها في حجرها، وعيون الصغار ملتصقة بها، تخرج بعض الوريقات الصغيرة المكومة، تعطي كل واحد منهم واحدة وتأخذ لنفسها واحدة تفتحها وتسِف ما بها." ص9
مع استمرار اعتماد صيغة حركة الفعل المضارع في رسم الصورة المحكية المنقولة بحرفية تنحو إلى استخدام المفردات الرامزة، لرصد تلك الطقوس المعتادة المتوارثة.. تمثل هنا الحواديت ضمير الحكي وضمير الوعي الإنساني المتشكل لهذه البيئة الحياتية والمشغولة بطقوس وجودها الروحاني، والمتشبثة بوعيها الديني الضارب في مفهوم موروثها الحكائي الذي يختزل كل شيء إلى حكاية، وإلى رمز، وإلى صور تتجمع لتشغل الخيال وتملك الجنان..
إلا أن عملية الاصطفاء/ الاختيار التي تقع على الموعود أو المنذور للغيب أو تلك الأسطورة ولتلك الروح الموغلة في النفس تدفعها نحو مراحل البحث المضني عن اليقين أو عن ملامح الأسطورة المختبئة في طيات الذات، تلك اللبنة التي تمثل ضمير الوعي الإنساني، المتمثل هنا في شخصية محمد، الراوي/ المنذور للغيب والمتشبث به، قدر نذره لعالم الأسرار الخفي:
" ـ ما اسمك؟
ـ محمد
ـ من باح راح
ـ أعلم جيدا
ـ قم إلى الصندوق فافتحه، تجد ما يؤنسك عندما تجلس وحيدا عند شجرة التوت في عتمة الليل.
أنا المالك الآن سري المجهول. ما هي إلا خطوات وأعرفه. دفء (الركية).. دفء الجدة لا يمنع تلك الرعشة التي أصابتني. الجسد الآن قد خار، والقلب قد استثار" ص15
يلعب رمز الشجرة دورا هاما، كرمز لقدسية الحياة، وكرمز للإثمار في أي من أحواله، حلوه ومره، ورطبه ويابسه، فالراوي/ الكاتب هنا، يتكيء على قدسية المكان، ويستمر معها ارتقاءً من حيز الكوخ الضيق، والذي بدأ ينفتح على رحابة الخارج/ الكون أو المظلة اللا متناهية التي تظلل الخلق وعاشقي البحث عن معنى الحياة والارتقاء، والهاربين من سطوتها على حد السواء، والشجرة هنا بداية، وهي التي دلت عليها الجدة/ الموروث الشعبي المقترن بالديني، كما وقرت في قلب الراوي/ الباحث عن ذاته في كونها، تمثل اتجاها فلسفيا عميقا يجمع بين تناقضات الشعور بمنطق الحكمة: "تلك الشجرة التي أحبها كثيرا، أمقتها كثيرا، تعذب من يحبها فيزداد حبا، وتسعد من يكرهها فيزداد كرها". فهي هنا تمثل الحياة بديمومتها وتعاقب دوراتها، وبفلسفتها المستعصية على التنميط، وهي أيضا الشجرة في معناها الصوفي/ الروحاني/ المتأمل، كمعنى آخر من معاني الحياة أو دال عليها، هي مرحلة من مراحل الارتقاء واعتلاء درجات الحقيقة نحو الوصول إليها، فهي الشجرة أيضا في وعي الجدة/ وعي الحياة العجوز، مرتبطة بمصائر الناس، أو هم المرتبطون بها على حد السواء، في علاقة جدلية من علاقات النص/ الحياة، والذي تؤكد عليه مقولة الجدة بحكمتها: "هي شجرة ليست كأي شجرة. في كل بلد واحدة مثلها وعقيم لا تثمر.. مكتوب على كل ورقة فيها اسم واحد من أبنائها".  
فالرهان على المكتوب دائما ملتبس، ومقترن في ذات الوقت بفعاليات الوجود يثير قلقا وجوديا، وألقا بالغين في النفس المجبولة على السؤال والتحري والتوثب نحو كل ما هو غامض وغيبي وموروث..

بين الشك واليقين
وهو الذي يقود الرحلة نحو مرحلة التأرجح بين الشك واليقين التي يسوقها النص كإحدى المراحل المفصلية الانتقالية على نحو من التسلسل والتدرجات حتى فعاليات اللقاء أو بدايات التحقق من الوعد، والاقتراب من وهم الأسطورة العامة أو حقيقتها على حد الالتباس وحد السواء، من خلال التجلي الجزئي أو الأصغر الذي يظهر جزءً من جزء من الحقيقة من خلال استلهام الموروث الديني من خلال التناص مع حادثة البراق في رحلة الإسراء والمعراج والمتمثل بها، والتي تبدأ بالسؤال والبشارة من خلال الحوار الدال والمتضمن على بدايات الحقيقة، مع البحث عن (ورقة)، ذاك الرمز الذي يوحي بالمكتوب أو المقدر أو الجزء من الجزء من أوراق الشجرة المقدسة التي ترتبط بها مصائر الخلق، من خلال سياق الحوار الكاشف، بدلالة رمزيته:
" ـ لم أصب بالرجفة التي قالت عنها العجوز؟!
ـ العجوز صادقة.. أنا لست ورقة
ـ فمن أنت؟
ـ خادمه
ـ أين هو؟ .. أريد رؤيته
ـ هو فيك.. قد اخترته أنت والاختيار جمر في يد صاحبه، فاعلم أن الرؤية لها مداها.. " ص21
يؤكد النص على قدرية الاختيار كملمح من ملامح الإيمان بالقدرة الإلهية التي تنير البصائر نحو طريق المصائر، وكسمة من سمات الاختبار أو الابتلاء بالجمر الذي يمسك عليه المؤمن الحق في قدرية اختياره لشق الإيمان والتصديق والتسليم، وهو من صميم العقيدة أيا كان توجهها بعيدا عن المسمى الديني للعقيدة، فهي الرحلة / المعراج للقابض على جمر اختياره بفلسفة وجوده/اكتوائه، نحو جوهر الذات، أو نحو القوة الهادرة التي تنساق نحوها النفس والروح وتنجذب، وتدور دوراتها حولها كقطب أعظم تدور كل الجوارح في فلكه، ويدور الكون في فلكه الداخلي كقوة مسيطرة، فربما يكون عبدا ربانيا يقول للشيء كن فيكون كما جاء في الحديث القدسي، وقد تتحقق له معجزاته المرئية كما تحققت أسطورته الذاتية غير المرئية..

معراج الذات
تلك هي بدايات تجلي الأسطورة الذاتية، أو تحققها الذي يبدأ من الذات العاشقة، لينتهي إليها كحقيقة/ يقين، لتكون رحلة المعراج نحو سماوات الذات تمثلا برحلة المعراج المقدسة، ولكن بصور واقعية يسجل لها الراوي ويربطها بأديم الأرض من خلال أنات الموجوعين وشكاوى المظلومين، كأناس تسعى على جحيم أرضي يلتمس فردوسا بعيد المنال، لا تحققه إلا الروح المتوثبة الثائرة المتمسكة بقوة إيمانها بقوة اليقين:
" يحاول الرجل أن يرفع وجهه إلىَّ فلا تطيعه رأسه، فيلعن تلك الرأس التي لم تعد ترفع
ـ أبحث عن نجاتي وعيالي.
ـ هي تحت قدميك..
ـ أخذ أرضي وطردني..
ـ دافع عن أرضك تأمن عرضك، واعلم أن الرب هو العبد، ولا يطرد عبد ربا من مملكته، فخذ هذا الفرع واطعنه طعنة ثائر وبعدها لن يملك لك ضرا ولا نفعا" ص25
هكذا يتماس النص مع الواقع، بقدر تماسه وانغماسه في الروح تجنيدا لها وتحريضا لها على الحق والثورة ومحاولة إلحاق العدالة بركب الحياة من منطلق الروح التي تستلهم قوتها من ذاتها، فالذات هنا، في تجليها، هي الرب، وهي القيم الحقيقي الذي ينبغي أن تدين له القوة، فمن هذا المنطق أنت رب نفسك، باستلهام قوة خالقك الذي بث فيك من روحه، وما خارج نفسك خارج سلطانه، خاضع لسلطان شهواته وعبد لظنونه وقوته الوهمية المصطنعة وتملكه، ذلك كصورة من صور استلهام قوة الروح كعلاج، لتبدو الأمور من خلال تلك الرحلة الغيب/ واقعية على نحو من التكشف أو الاقتراب من مصدر النور الذي يومض حتى يكاد وميضه يغشى العيون ويتلاشى ليتجه نحو بقعة أخرى أكثر اقترابا وأكثر تجليا، فلا قدرة للإبصار على اجتياز تخوم التجلي وروعتها الآسرة التي تؤدي إلى حالة من حالات الانبهار التي تأخذ الروح في طياتها، التي يعبر عنها النص برقة ورهافة الحالة التي يغيب فيها العقل لحساب أمور أخرى:
" والعقل أصبح مشدوها بما يقرأ حتى أنه لم يلحظ اختفاء النور وذهابه إلى مكان ربما يكون قريبا أكثر مما يتخيل.. " ص40

الموروث، وسؤال الاكتواء
"كيف تتحمل ولك جسم من الطين....؟؟.. "
يبدو السؤال مقترنا بطقوس الحياة / الواقع المحيط، من خلال الارتباط بعملية الخلق التي يرتكن إليها السارد ليميط اللثام عن بدايات المنذور للغيب مع الحياة المادية؛ فأيام الخلق الأول في الموروث الديني تلقي بظلالها اللصيقة على مثيلتها في الموروث الشعبي/ الميثولوجي، وٍهي الأيام التي تلي عملية الولادة، من خلال سيرة الطفل الفطرية وتعامله مع الحياة لأول مرة، من بعد علاقته الجنينية بالأم، المصدر/ الوسيط المباشر، بحيث ترتبط عملية الاستلهام على نحو ما من التناص، لتبدو من خلال صور الطقوس الشعبية ومفرداتها الضاربة في عمق الموروث الديني والمكملة لطقوسه في عرف البيئة الشعبية المتدينة:
"ها هي يد قد أحس بها في أيامه الستة الماضية تحمله وتضعه على فراشه، وأنفاس تلفح وجهه الذي لم يزل لينا، وصوت غليظ يخرق أذنه اليمنى.. يلقي فيها الشهادتين، ثم يخرق اليسرى ويلقي فيها الآذان.. لم يكن هذا الصوت يسمعه وحده. كان يسمع طقطقات الملح الذي كانت أمه تضعه في طبقها النحاس المملوء رملا، تعلوه أعواد من الحطب المشتعل عليه قطعتان من "الشبة"، و"الفاسوخة"، وحبات عين العفريت، وكمية من البخور تصل رائحتها إلى أخر البلد وورقة بيضاء مقطوعة على هيئة عروسة مثقوبة بثقوب كثيرة من عين الأهل والجيران وجيران الجيران، ومن شر حاسد إذا حسد" ص57
هنا يلتقي الموروثان العقيدي والشعبي على مائدة الطفل ومتنه، ارتباطا وثيقا بملمح رئيس من ملامح وجوده ووجود العالم من حوله، حيث يلتقي الروحاني المتمثل في التراتيل المرتبطة بالعقيدة، مع المادي المتمثل في مفردات الطقوس والعادات الشعبية بميثولوجيتها الضاربة بجذورها، والمستمرة بها الحياة..
ذلك المتسع من فضاءات الذات التي تتلون وتتأثر بموروثها الذي تحمل وشمه ومفارقات وجوده وغوايته، من خلال عوامل أخرى تشترك في الظهور على مسرح الحياة بغوايتها وعشقها المادي الآخر وهفواتها، والتي تعد خطا موازيا لعالم الروح، حيث يبرز عالم الجسد والشهوة كملمح إيروسي موازي للملمح الروحاني المتغلغل، فالاكتواء بنار الروح يمثل حجر زاوية في مشوار كل مريد ينزع إليه كلما شده الحنين إلى أديم الأرض الذي خلق منه وتشرب به وتعلق به، مكتويا بحرارة أخرى هي حرارة تكوينه المادي واشتعال جذوة نار الشهوة فيه، تلك التي أنضجته، متسقة مع صور موروثه الذي يرسم له خطوات قدره المحتوم:
"أعلم أن على يدي اليمنى مرسوم هذا المسجد ذو الأبواب الكثيرة، وأن على يدي اليسرى تلك المرأة العارية التي توحي بشهوة عاتية، لكن ما ذنبي حين أخذني أبي إلى هذا البدوي ليعبث بذراعي الصغيرة. الأسئلة في صدري جرح يود أن يندمل.. " ص67
يلعب السارد هنا على المقابلة بين المسجد ببعده الديني العقيدي المقدس، وبين المرأة/ الحياة / الغواية؛ فهو هنا واقع بين طرفي نقيض يتناوبان عليه، لتمثل تلك الأسئلة معبرا/ برزخا هاما يجتازه المريد بعدما يعترضه ويمكث به ردحا من الزمن، هنا يقترن المقدس بالمدنس على نحو ما يرى "جورج باتاي" من أن "التجربة الإيروسية (الشبقية) تتوازى مع التجربة الصوفية في كونهما فيضين لا تستوعبهما اللغة"[2]
تتحرك به خطوات السرد لتؤصل ذاك الإحساس المراود بفتنة الحياة والتي ينبغي له التخلص من شوائبها، إنضاجا للبدن المتسامي مع الروح، بمحاولة إماتة اللذة والاشتهاء، تطهرا بنار الاكتواء للمعراج نحو لذة أخرى سامية..
"جسدان ملتصقان وبعض من رجال يفتحون باب الحجرة ينتزعون جسدي المتعب، يحملون الجسد الآخر ـ وهو مستسلم لهم ـ يرفعونه بين أيديهم، ويخرجون مسرعين. أحس أن جسدي قد انسحب مع الجسد الآخر. دمعات عفوية تذكرني بأني أسير وسط هذا الزحام الذي لا أعرف متى حضر، وصوت يأتي من الزحام: ـ من التراب وإلى التراب نعود" ص81
ليأتي الخروج من الحالة/ البرزخ، تهيأً واستعدادا للالتقاء بالقرين الحق الذي ربما أنار له الطريق، ربما جلدا للذات واستلذاذا باكتوائها نحو الخلاص الذي تتدرج معه وترتقي مستويات إدراك النور المنبثق من الذات، والذي يدني الروح/ الذات من كينونتها ولذتها المشتهاة، والتي تصير لذة بديلة للذة تتلاشى هي لذة الجسد المادي:
"حين كان الرجل مازال يجلد ظهري كنت مازلت أستعذب جلده حتى أني تمنيت ألا ينتهي منه، وحين كنت أستعذب الجلد كان يظهر في المدى البعيد كوة من النور لم أر لها مثيلا من قبل.. تمنيت ساعتها أن تقترب مني، أو تكون بداخلي. عندما أحس الرجل بذلك أطلق يدي، وألبسني بيده إزاري ونعلي، وقال لي: ـ هذا هو طريقنا الوعر.... " ص96

صناعة المريد، وأسطورة الذات
تلتحم الذات بموروثها الديني، مرارا وتكرارا، على مدار النص؛ ليتكيء السرد مرة أخرى عليه، استحضارا واقترابا، في نهاية المطاف، وربما تناصا مع حادثة الخضر، وبلغة أكثر اقترابا من لغة الحلم/ الرؤية، التي يضع لها النص/ السارد، معالجا مغايرا يتسق مع الحالة الوجدانية والروحانية والجسدية المتفردة للنص، وبشخص المريد، حيث تظاهر المريد بداية بقايا من تعلقه بالحياة المادية للجسد أو الرمز المتمثل في المرأة التي تخرج من البحر لتراود نفسه عن ماهية إنفاذ المكتوب الجبري عليه من ناحية ضرورة قتل الغلام، ليأتي الصراع بين المشيئة الخاصة، والمشيئة العليا الأسمى:
" كانت تخرج من البحر امرأة يغطيها نور فضي لقمر مكتمل.. تقترب مني.. أنظر للغلام، فأجد علامات السعادة بارزة على وجهه، فأدير وجهي إلى المرأة ثم إلى الغلام. الخوف من هذا الموقف يزيدني عجزا" ص100
يعكس هذا الموقف التردد الذي يغلف نفس المريد ويوترها، وليبرز النزعة الداخلية الكامنة للذات، في قوله المقابل والمضاد للأثر الموروث: " قلت له؟؟ " هذا فراق بيني وبينك".. لكن المشيئة الأعلى قد نفذت.. لكن الاتكاء على تيمة الجدار وتحويلها إلى الدلالة العكسية، بتحويل التيمة القرآنية القدرية إلى عكسها لتوائم الموقف الواقعي / الحياتي، تبرز مشيئة المريد في بناء الجدار استثارة أو تأثرا، والولي ينفذ المشيئة الأعلى بهدمه، على عكس ما جاء بالنص القرآني المقدس، ليتسق المفهوم مرة أخرى مع معنى الاختبار والاختيار، وتنفيذ المشيئة العليا/ المكتوبة على مستوى هذه الحالة / المستوى الذاتي الخاص:
"يرفع عصاه ويضرب الجدار ضربة واحدة يسقط على أثرها، فأحس بأن أعضائي تسقط واحدا بعد الآخر، والدمعات التي سقطت من عيني ربما أرادت أن تلعن الرجل فينظر لي بابتسامة خبيثة تخرج من بينها كلمات:
ـ انهض يا محمد.. الله الله.. الناس الناس.. لكل ولي حجاب وحجابنا الأسباب" ص108
 كذلك تأتي عملية تحويل مسار السفينة التي تماست مع سفينة نوح الصحراوية، التي لاحت في أحد مراحل النص من خلال الإشارة إلى معاناة السارد وأمثاله في العمل في دولة صحراوية، لتتحول هنا التيمة الصحراوية الجافة الدالة في ضمير السارد/ المريد على الوقوع في الجدب والمتاهة والاغتراب المادي والمعنوي، إلى سفينة تمخر عباب الماء، تتحقق بها معجزته/ أسطورته الذاتية التي بها خلاصه ونجاته المرجوة:
" ـ خذ فيها من كل شيء زوجين، من فقرك لغناه، ومن ذلك لعزه، ومن ضعفك لقوته، ومن نقصك لكماله، وأعلم أن في ذلك نجاتك وخلاصك.. ص 112
ـ سفينتك بمجدافين: خوف ورجاء، فامسك بهما لنرى هل يوصلانا أم لا؟ ص114 "
ليبرز النص/ سارده صوت الذات المنتصرة لإرادتها الكامنة التي تؤيدها الإرادة الأعلى، متلازما ومتداخلا ومتكاملا مع صوت الولي / الرجل الذي يلقي بأخر أمارات الوصول إلى جوهر الذات وقوتها الكامنة التي تسيطر:
" كانت كلمات الرجل تخرج حين كانت يده ترمي بعصاه، فأمد يدي لآخذها وأضعها تحت إبطي مسرعا الخطو ناحية الماء.. أنظر إلى الماء ممعنا، والصرخة التي خرجت لم أستطع أن أمنعها: ـ إنه أنت.. أنا..
كانت كلماتي تخرج حين كانت العين تبحث عن رجل ربما تحول إلى هالة من نور ربما استقرت داخلي.. " ص118
وصولا إلى حقيقة الذات التي تحققت من أسطورتها المقترنة بوعيها وموروثها العقيدي الذي انتصر ضمنيا وجوهريا على موروثها الشعبي المادي المخاتل، وإن لم ينفصل عنه.. وكما أنشد العز بن عبد السلام
إن السماع صفاء نـــور صفوته /يخفي ويحجـــــــب عمن قلبه قـــــاسي
               نور لمن قلبه بالنور منشــــــــرح/ نار لمن صــــــــدره ناووس وسواس
              راح وكاساتها الأرواح، فهي على /قدر الكؤوس تريك الصفو في الكاس!

محمد عطية محمود
 الإسكندرية
20/9/2011   



[1] صلاح عبد الصبور ـ (حياتي في الشعر) دار العودة، بيروت، ط1، 1969، ص119
[2] جورج باتاي ـ الموت والشهوانية  والتابو ـ نيويورك ـ 1962 (كاتب وفيلسوف فرنسي ـ ( 1897ـ 1962م ) ، من أعماله: الأدب والشر)






                          عودة 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق