بحث هذه المدونة الإلكترونية

الخميس، 30 يونيو 2011

رواية " السيد مر من هنا " جزء 2



حلم

1

الساعة تقترب من الثالثة فجرا..
الحلم والرحلة، وأنا الصاعد في أنجمها الساقط في قيعانها، الملتبس، المتلبّس، الهاوي من تلال الحكايات، في فمي رمل.. في عيني رمل.. وجهي وجسدي، آه لو أعرف أن ما يزحف إلى روحي رمل أيضا!!
وضعت الأوراق جانبا، ظهري متصلب لساعات من قراءة حلم الرحلة، الطبيب ينظر نحوي من بقعة في الفراغ أمامي، يبتسم، ينتظر كلمات تبدو مترقّبة مني، لماذا أعطاني هذه الأوراق ولم يكد يعرفني جيدا؟ أسئلتي تتراقص في سرابات الضوء، تزيدني حيرة، في العتمة تقبع الإجابات، لا نور يفتت أحجارها ولا نار الحقيقة تتقد، وحده الطبيب يعرف الكلمة السحرية لإراحتي من عذاب حيرتي، هل قلت عذابا؟ سخرت من ذاتي التي تحاول خداعي أيضا، انه هروبي على نحو ما، خشية مواجهة ذاتي ومساءلتها عن واقعها.
الكيس الأسود يطل بفم ساخر أيضا، أوراقه البيضاء كأسنان تتغير في إطلالتها بين ابتسامات، مرة ماكرة، أخرى طيبة، أحيانا مفزعة، الطبيب ومريضه، دوران متوزعان بعناية، هل يشارك الطبيب مريضه أحلامه؟! أم هي أحلام الطبيب يسقطها على شاب قادته الأقدار إليه؟!
نهضت أغلق إضاءة الغرفة، شمعة صغيرة واحدة بقيت في مصباح أحرق شموعه ولم يجد من يبدلها، شعرت بالأوراق تنهض من مكانها، تتطاير فوقي، المشهد يقودني بمخاوفه، عدت إلى الزر الكهربائي للمصباح، وجمعت كل الأوراق، أدخلتها في الدولاب، واضعا عليها زجاجة عطر شبه فارغة، وماكينة حلاقة تكاد الحياة فيها أن تجف.
يا إلهي!!
بعد كل ذلك، ولا حلم يغزوني!!
نومي بدا فارغا.
كسلي يتصاعد إلى قمة رأسي، سعيت للنوم فلم أجد بقايا منه، أيقنت أنه لا ملجأ إلا الخروج، ألقيت الدشداشة على جسدي، تحسست ما تبقى من ريالات في محفظتي، ألغيت كل حسابات حياتي، سيأتي الزمن بحلّ ما.. تناولت الأوراق بنية نسخها، مبعدا عن نفسي فكرة خيانتي للأمانة، الكيس الأسود في مهجعه، أخذته باشتياق غريب، واقفا انتزعت ورقة من آخر أوراقه، كأني أجد الملاذ هناك ..
"عبرت الدرب الترابي العابر لمساحة تقع خلف بيت الساحل، لم ار خولة، كانت العبدات السوداوات يتضاحكن من مرآي، غمزتني إحداهن بطرف عينها، فيما تجرأت أخرى وهزت مؤخرتها كأن إيقاعا إفريقيا تصاعد فجأة، وسمعته لوحدها دون رفيقات لعبها فاهتز كل ما فيها.
ترقبت خروجها ذات يوم، أخذتني فكرة أن أصعد شجرة نارجيل قريبة من ممشاها داخل البيت، وهي تمرق في زحام النساء رأيت عقد الذهب، كبيرا، مبهرا، لمعته تناوش فصوصه، يبدو كتابا صغيرا معلقا من سلاسله الذهبية ليصل إلى وسط لابسته، أي ريح كشفت عنه فتمادى في إغوائي بالأنثى الحاملة له.
كأن شجرة النارجيل تزلزلت أرض تشمخ عليها..
مشيت..
وجدت يدي مشبوكة في يد ضخمة، نظرت إلى صاحبها مع يقيني بأنه ليس إلاه، جوهر، في عينيه ما يقلق، ريح تعبث بروحه، عضلات وجهه مرتبكة، سرنا مسافة من الصمت، بدأت ملامحه تنبسط، في الطريق رأيت امرأة تكاد تهذي، سألت جوهر عنها، قال: تلك ابنة من جاء بشجرة القرنفل للسلطان فحقق بعمله الخير الوفير لغيره، وعاشت ابنته في فقر كالذي تراه، تبعت صدمتي، وأسندت ظهري إلى شجرة ضخمة، لكن جوهر سحبني من يدي بقوة، أسرع بي.. وقال: السلطان سيغادر منزله، وعليك أن تكون معه.
السلطان يدعوني!!
توهمت أنه سأل عني، لكن بأي مسمى وصل إلى مسامع جوهر؟!
قطعت الطريق الواصل بين مزارع القرنفل ومقر إقامة السلطان ركضا، قيل لي: إنه تحرك للتو باتجاه بيت الساحل، ركضت مرة أخرى وكأن الريح تحملني، رأيت السلطان على البعد، في غمضة عين رأيتني أركب ظهر جواد ضمن حاشيته، أخذني سيدي السلطان إلى إحدى استراحاته، وحدثني عن بقيتها.
أخبرني أنها متفرقة في خمسة وأربعين مقاطعة، أولها في زنجبار، وثانيها في كيزيمباني حيث المباني الفاخرة وأشجار القرنفل، وثالثة في مقاطعة كيجيتشي، وتشتركان بالحمامات الفاخرة المقامة خلال زواجه من زوجته الفارسية، ويفصل المقاطعتين مصنع سكر لفرنسي يدعى كلوسون، زنجبار تصدر السكر إلى خارجها، أسرّ مستر جوهر في أذني، ولا أعلم أي ريح جاءت بجوهر، قال أن السلطان خصص مقاطعة شويني للجواري اللاتي لا أبناء لهن، أو ممن مات أبناؤهن، و لمن كان لديهن أطفال صغار.
وفيما كان يمضي في حديثه عن سيدي السلطان، هامسا في أذني ولا أكاد أراه، جاء رجل ووقف بشموخ أمام باب المكان، أذن له سيدي السلطان بالدخول، وفي المسافة بيننا وبينه حدثني جوهر أن الرجل القادم هو موسى نياسا، قائد الحرس الخاص به.
رأيت السلطان يوميء لي بالاقتراب، سألني عن الرجل الضخم شديد السواد الذي رآني أتحدث إليه، قال أنه اشتبه في أن يكون واحدا من عبيده القدامى..
ارتدى الوجود لونا أسودا، فقدت الرؤية، السلطان يعرف جوهر أو لا يعرفه؟!، رآه ولم يره، احتسبت الكلمات على لساني، كيف أرد على السلطان، والسلطان يغرز عينيه في وجهي، يترقب إجابة تبدو مستحيلة الجريان على اللسان؟!.
لم أعد أرى السلطان..
غبت في سواد معتم، لا أعلم كم مضى من الوقت عليه"..
في المستطيل المرسوم بشكل رأسي على زاوية الورقة: "خرج المصلون من مسجد طالب، رأوه يسند ظهره على الجدار، يهذي كمحموم، نظر بعضهم باتجاهه كأي مشهد يومي عادي، اقترب منه رجل في الخمسينيات من عمره، لكزه بعصاه في خاصرته، فتح عينيه في اتجاهه، كمن لم يصدق أنه رأى غير ما كان يتوقع، نهض بسرعة، رأوه يركض باتجاه البعيد، نحو البحر، قفز في الماء، نفر طائر نورس مخلفا خبزته عائمة فوق الماء، عينان ترصدان قلعة الجبل بثبات، منفصلتان عما يوصلهما بما حولهما، ممتلئتان بالكلام".
أخذت كل الأوراق، وأغلقت باب الشقة بلا مبالاة، أسفله أكثر من ورقة لفواتير الماء والكهرباء، الختم الأحمر باد للعين بمخاطر لا تستقر إلا في قعر القلب، الدفع أو القطع..
مهوّما في صحرائي، ورائي سباع وضوار، وأمامي تلال رمل لا نهاية لها، يتناقص الماء من زوّادتي، ولا نبع يبدو في أفقي، أفق الأشياء من حولي.

2

طرقت باب الطبيب، ودخلت..
عيناي في عينيه، انتفض جسده فجأة برؤيتي، أصابتني رعشة تبدو أكبر منه، وجدتني أخرج غالقا الباب بهدوء، منسحبا إلى خارج المستشفى، سيارة الأجرة تبدو غير بعيدة، تحركت فور أن ظهر جسدي للشارع، وجدته ذات الرجل الذي جئت معه..
- لم تتأخر!.
- وأنت لم تذهب.
- شغلتني مكالمة طويلة، وأنت؟
- شغلتني رحلة طويلة؟
لم أنظر إلى عينيه، تجنبت الاصطدام بما فيهما من كلمات لم يجرؤ على قولها لسانه، مضى في دربه، وجدت وقتا لأقرأ قليلا، أخرجت ورقتين من الكيس الأسود، وتشاغلت عمّا حولي..
"السلطان يقلّب هداياه، أعجبت الهدايا سيدي السلطان، وتأمل كثيرا المرايا والأسلحة والشمعدانات، لا أدري لماذا لم ينل الزورق البخاري الفاخر إعجاب السيد، فجأة أمسك سيدي السلطان بيدي وقادني إلى مجلسه، المكان عامر ببشر مختلفين أحجاما وألوانا، لكني في لمحة عين رأيتني وحيدا معه، اختفى الجمع من حولنا، وقال أرو لي ما رأيت، إن البحر موح، والسفر معلم، والأشرعة صبورة..
وجلست أروي لسيدي السلطان، عيناي في عينيه أستجيب لشعاع غريب يأخذني إليهما كلما أردت النظر إلى غيرهما، في تينك العينين لمحت خولة، عينان مورقتان بصفاء لا تأخذه حدّة النظرات، الغور البعيد يمسك بيدي أن اقترب، وأمضي، يدعوني أكثر فأكثر وأمضي، والسلطان يترقب الحكاية، يترك لي مساحة المضي فيما أفكّر فيه، لا يستعجلني على الحكايات، بين رؤية ورؤيا أمضي شاقا محيطي الممتد زرقة وعتمة وغموضا.
قلت له: إن البحر لعجيب وأن الموج لهادر، وسلطانة لا تنحني إلا لك سيدي السلطان، لم أر في البحر دواره، إنما حضورك طاغ، وأحمد بن النعمان سفيرك الذي لا ينطق إلا بما تحب..
تراني سيدي السلطان أمسك على السارية كبحّار، وأسمع محمد بن جمعة ينادي بالبحّارة أن يصمدوا في وجه العاصفة، وأن يهزموها كما يفعلون في كل مرة، لا بحر بدون عواصف، ولا إبحار دون مشقة.
بالحكايات نتسلى، وبالأدعية والقرآن نواجه غضب البحر، ونتحدث عن أمريكا البعيدة كأنها آخر الدنيا، وعمّا ينتظرنا هناك، إن سلمنا مما هنا بين جبال الصخر والموج.
كنت سيدي السلطان بيننا، بعد كل صلاة نبتهل إلى الله أن يحفظك ويحفظنا، وحينما نفطر بعد صوم كل يوم من شهر رمضان ندعو لك، وفي صبيحة العيد دعونا الله كثيرا أن ينصرك ويحفظك.
حينا أمضي الساعات أتأمل في ملكوت بالغ في اتساعاته، لا يحد بزرقته، سماء وبحر، زرقاوان في نهارات الصفاء، أسودان في تقلبات الأحوال، عتمة في عتمة، نحن وخالق كل شيء من حولنا، ندعوه بأمل، ونتضرع برجاء، نقترب إلى الموت حيث لا نشعر أن الحياة ممكنة، وبعد أن تنقشع الغمّة نرى أن الحياة أشد اتساعا مما توهمنا فقد غالبنا الموت حتى غلبناه.
يتصاعد صوت سعدون بالهزيج، يضرب بحّار آخر على ما يتسر له من آنية جالبة لصوت كأنه الطبل، مرات.. غناء كأنه البهجة، ومرة يأتي الصوت كأنه يدعونا للبكاء، تخرج من السواعد قوة يخفيها التعب فتعمل فوق المعتاد.
حينا أهبط إلى قاع السفينة، ألمح طيفك،أحدثك كأني أراك، وتسمعني كأنك تراني، لا يأتي النوم إلى العينين المرهقتين بنهاراتهما إليّ.. وأراني أقص عليك ما أرى في صحوي ومنامي، مغمض العينين أتخيلني أقف أمامك سيدي السلطان أروي لك أوهى التفاصيل، وأراك وأنت تبتسم، كيف نطارد الجرذان بعيدا عن طعامنا، والصراصير المتكاثرة دون الوصول إلى الأرز، وكيف أخفى صالح زجاجة الخمر عن القبطان وليام سليمان، ولولا أن صاحبها قائد سفينتك لكسرها علانية..
- مرات يأتيني جوهر..
- جوهر؟!
يعييني سؤال السيد وأتلفت بحثا عن معين لأجيبه، أغمض عيني كأني أستعيد جوهر أسأله من أنت، وأفتحهما، فلا أجد لا جوهر، ولا سيدي السلطان.. وجدت يقيني يغالب شكي، ولا أحد إلا وحدي، أنهض متمردا على الأرض التي أقعي عليها، وغير بعيد كلاب تتراص تحت ظل تريد نصيبها منه".
هامش بلون وردي باهت: " ذات يوم حمل عدد من أسرة السلطان فانقلب بهم، قالوا أنه عيب في الزورق لا في بحارته، أمر السيد بوضعه على سفينة راسية تسمى شاه غلام.
أشفقت كثيرا على الزورق، تداعت ملامح الجمال فيه، أكلت الرطوبة زخارفه، حاول السلطان إهداءه لووترز فرفض، كانت لغة رفضه الرافضة ما لم يتوقعها أحد، عرضه السيد للبيع فبقي علية القوم والتجار في منأى عن القبول به، وقع أخير في يد القنصل البريطاني، بادله السيد سعيد بقارب ذي مجاديف ستة، سرى في المدينة أن هدية الرئيس الأمريكي الغالية لم تساو أكثر من قارب لا تبلغ قيمته مائتي دولار.
تعرفت اليوم على ناصر اللمكي، يفتش عن رزقه بين مزارع أبيه، في ساعة افتخار يضرب يده على صدره معتزا بأصله الهناوي.. شاب آخر يخطو من البعيد باتجاهنا، يسير الهوينى بجانب السور الشرقي لمزرعة والد ناصر، أخبرني ان هذا صاحبه خالد بن صالح الحارثي، القبيلة التي لها صوت وجاه في الساحل الإفريقي، ألمح ناصر إلى أن خالدا ربما سيكون صهره قريبا، سألني قبل أن يصل صاحبه: أهناوي أنت أم غافري؟ قلت له لا أعرف.. ربما لا هذا ولا ذاك، سألني: ألست من عرب عمان؟ قلت له: نعم، رفع من حدة صوته، وهو يسألني: هل خوفك يدفعك لعدم القول بأنك من الغافرية؟.. كأنك لا تريد القول بأنك من اليمن أو جزر القمر.
اقترب خالد كثيرا، وهو يمد يده يسألني عن اسمي كان سؤاله التالي فورا: من أيّ العرب أنت؟
قلت لا أعرف.. سحبت يدي من يده، ومضيت، أبحث عن سعيد، بين اخوته وأبنائه وأبناء عمومته، يحملون البضائع في الميناء، يعملون لدى رجل الجمارك الهندي.
قلت لرشيد: كأنك من عمان.
أطلت ابتسامته الهادئة، حدثني عن حكايته: جئت تابعا أخي، من جزر القمر جئنا، نعمل على القوارب، ننقل عليها البضائع من السفن الراسية بعيدا عن الميناء إلى الشاطئ، أخي يعمل في منزل رجل إنجليزي، نحن من المخاديمو.
أثار إعجابي التدين البادي في ملامحه وصوته، حدثني عن أمر انتسابهم إلى قريش، احترت في أمر تصديقه".
في وسط الصفحة سهم غليظ يشير إلى ما في أسفلها من بقية.. مكتوب بحبر بدا أغمق..
"اصطادني من حيث لا أدري..
- رآك اليوم مع واحد من الشيها..
- الشيها؟! لا زلت غريبا على البلاد، من يكون؟.
- المسؤول عن قرية يسكنها المخاديمو.
رأيت سرورا باديا على ملامحه من جهلي اسم آخر، نقلني خالد سريعا من ورطتي، قال أن المخاديمو سكان زنجبار الأصليين، لديهم عشرات القرى يسكنوها، وعلى كل قرية مسئول يسمونه شيها يكون مسئولا أيضا أمام سلطان المخاديمو موني مكو، ستراهم كثيرا يعملون في مزارعنا، يقطعون الأخشاب ويقطفون القرنفل ويصيدون الأسماك لأنهم جيران البحر، ولديهم أبناء عمومة يسمون الوتمباتو، قلت له: أليست هذه جزيرة على طرف زنجبار؟ ضحك من معرفتي المتواضعة، قال: نعم، ويحكم الجزيرة موني مكو.
سألت ناصر اللمكي: هل صحيح أنكم لا تعطون الرقيق أجرا عن عملهم؟!
انفجر طوفان من الضحك على ناصر وخالد، شعرت بالحرج، أغرتهما حالتي بمواصلة الضحك ورفع الصوت أكثر فأكثر، خرج من البيت رجل خمسيني يبدو أكبر من عمره، لحية طويلة غزاها الشيب بقوة، تماسك الضاحكان قليلا، خمنت أنه والد أحدهما، اقترب ناصر مصافحا القادم، مقبّلا يده، أيقنت أنه والد خالد.
- لماذا هذا الضحك؟
- هذا الفتى يسألنا عن الرقيق.
بدت الحيرة على الرجل الخمسيني، لم يمهلاه في حيرته كما فعلا معي، أجبت فورا: الذين يعملون معكم في المزارع.
قال الرجل: يا ولدي هؤلاء خدم، اشتريناهم بأموالنا، ونطعمهم ونسقيهم ونكسوهم، فهل يريدون ذلك بدون عمل؟ على أية حال لا يوجد لدي الكثير منهم، أعتقد 300 أو أكثر قليلا يعملون في مزارعي، والمخلصون منهم أعطيتهم قطعة أرض يبنون عليها بيوتا لعائلاتهم، وفيها يزرعون ما يحتاجه من خضروات وفواكه.
أكثر من 300 عبد في مزرعة واحدة!!
باغتني الرقم، كررته بيني ونفسي، وكأنهم سمعوه، أضاف خالد معلومة أخرى لما قاله والده: في مزرعة عمي ألفان، بعضهم وازالا والآخر واكالا.
استعذب تعذيبي بهذه الأسماء التي أجهلها، قال والده: بين العبيد من ولد في زنجبار، والنوع الثاني جاءوا من خارجها، ومن يعملون في المزارع لهم أشغالهم المختلفة عمّن يعلمون على السفن، من أين سمعت كلمة الرقيق؟
أخبرت الرجل: قرأتها في كتاب.
قال: ذلك ما يتهمنا به الإنجليز لمصالحهم، كيف يفكر الكافر فينا!! هؤلاء أعداء المسلمين ومستحيل يعملون لمصلحتنا شيئا، نحن نعين من لدينا من العبيد على الحياة، لكنهم يفعلون بعبيدهم ما لا يجوز في ديننا، نحن نعينهم على العمل، يعملون لدينا خمسة أيام في الأسبوع ولديهم يومان لأعمالهم الخاصة، أما الإنجليز وأصحابهم فيذهبون بهم إلى الحروب ليقتلوا بالنيابة عنهم.
عجبت من منطق الرجل ومعرفته، لم أنتبه إلا لاقتراح قاله الرجل لولده: اذهبا به إلى حي ماليندي وحي نجامبو، وبعد أن يرى حياتهم هناك ادخلوا به مزارعنا ليعرف بنفسه كيف يعيشون هناك وهنا".
رنّ هاتف السائق، بدت سمرته طافحة بالرطوبة، تحدث بلغة لا أفهمها، أعرف أنها سواحيلية، عجبت من مصادفات القدر، أقرأ عن أحوال زنجبار فيكون بجانبي أحد الذين ولدوا هناك، أحد حفدة الذين أقرأ عنهم في أوراق الكيس الأسود، تأملت الكلمات في حديثه، حملتني إلى هناك، كأن أطياف الحلم الذي أقرأ تدفعني لركوب أمواجها والسير إلى.. هناك.
تعجزني مفاصل التاريخ، تبعدني مجاهل الجغرافيا، ربما سأبدأ هناك من جديد، حياة أخرى باسم آخر، واتتني الفكرة.. تلاقت أعيننا، أنا وسائق سيارة الأجرة..
- هل زنجبار بعيدة؟
- لا، ساعات بالطائرة.
- أفكر بالذهاب إليها.
- بلاد جميلة، هل لك أهل هناك؟
- لا، إنما أفكر في الرحلة.
- أي رحلة؟
- لا شيء.. لا شيء.. انتبه، هناك أشغال في الطريق.
هربت للمرة الثانية من التصادم بعينيه، قادم من مستشفى ابن سينا، يتحدث بما يشبه الاختلال واللاتوازن، ماذا سيظن بي؟!
عدت للأوراق..
"أسندت ظهري على سور أحد المزارع منتظرا ناصر اللمكي، وعدني هذا الصباح ليذهب بي إلى السوق،
- ما رأيك أن أذهب بك إلى سليمان.
- من عمان؟
- لا.. انه هندي.
- هندي!!
- هل تظن أن كل هندي هو من البانيان؟البانيان هم التجار الكبار والأثرياء، لكن الهنود المسلمين بينهم صغار التجار، ويعملون مع زوجاتهم في الدكاكين، سليمان من طائفة الخوجه، وهم أناس طيبون يتعاملون معنا وكأننا منهم.
- وأنتم منهم فعلا.. مسلمون.
- أعني أنهم قريبون جدا من جميع الناس، لديهم اجتماع كل يوم جمعه، وينتخبون رئيسا لهم كل سنة، يختلطون معنا كثيرا وليسوا مثل طائفة البهرة، أما طائفة الميمن فعددهم قليل جدا.
- تعرف كثيرا عن أحوال هذه البلاد.
- والدي تاجر كبير جدا، ولا أعمل شيئا إلا متابعة أحوال المكان هنا، بما يساعدنا على توسيع أعمالنا، سأضيف إليك معلومة مهمة، هل تعرف أن الهنود المسلمين يستقرون هنا في زنجبار أما الهندوس أو البانيان فإنهم يأتون فرادى وعندما يشعرون بالاكتفاء من الثروة يعودون إلى بلادهم.. هل تصدق بأن الهنود تحميهم قنصلية بريطانيا وكأنهم مواطنون إنجليز؟.
- البانياااان، إنهم أذكياء جدا.
- فعلا، لو ترى ماذا يفعلون في الموانيء، يستأجرونها ويدفعون للسلطان مبالغ بينما يأخذون أضعافها إلى خزائنهم، هذه زنجبار يا أخي، كأنها الدنيا في جزيرة صغيرة، كل الأديان هنا، وكل المذاهب، وكل ألوان الناس، أباضية وسنة وشيعة ومسيحيين ومجوسا، والبشر متعايشون بفضل حكمة السلطان سعيد.
سرت واللمكي من جانب سور مزرعة إلى أخرى، وصلنا مزرعة ضخمة، قال هنا بيتنا، سألته عن بيت سابق قال: إنه بيتنا أيضا، قال: هناك تعيش زوجة أبي الزنجبارية، أما هنا فتقيم والدتي، لمكية من الرستاق، ابنة عم والدي، سألته ضاحكا: هل اكتفى والدك بزوجتين فقط؟
رأيت ما يشبه أسى خافيا في وجه ناصر، قال: خليها على الله.
دخلنا باب المزرعة، صادفنا شابين لما يبلغا العشرين بعد، معهما ثلاثة أطفال صغار، سألته: هل هؤلاء من ابناء العبيد في مزرعتكم؟ صمت ناصر، بدا غاضبا، لم يستطع إخفاء الحنق بعيدا عن ملامح وجهه، حدثهما بالسواحلية، لم أفهم ما قالا، سرنا باتجاه منزله الواقع وسط غابة من الأشجار، أغلبها من النوع المثمر، حبات النارجيل متساقطة في بقع كثيرة، بيت بلون أبيض مزخرفة حوافه كأنه حصن أنيق، حدثني عن أكواخ الطين والخشب التي وجدوها عندما اشترى والده المزرعة قبل خمسة أعوام، لم تكن زنجبار تعرف إلا هذا النوع من البناء، أقام والدهم بيتا كبيرا، ونقل إليه زوجته ابنة عمه.
في طريق الخروج صادفنا والده داخلا، معه الشابان اللذان رأيناهما أثناء دخولنا، قال والده: أخبرني اخوانك أنك هنا.
اخوانه؟.. كأن جبلا تساقط دفعة واحدة في أعماقي، أدركت سر غضب ناصر، أراد مداراة الأمر، جاء والده فكشف السواتر، تجنّب ناصر النظر إليّ مباشرة، انسحبت من بينهم كأني أرمق جمال المكان، الهواء الذي يضرب أغصان الأشجار بقوة، بدت السماء كئيبة، تنذر بمطر شديد هذا المساء".
هل انتبهت متأخرا للسائق وهو يدعوني للنزول بجانب المكان الذي أخذني منه؟!
رأيت يلوّح برأسه، نظرت إليه، أطلت نظرتي، في لحظة لا أعرف اتساعها أمعنت النظر في عينيه مباشرة، متخيلا عالما جاء منه هذا الرجل، حفيد من هو سيكون؟! هل يعرف جده ناصر اللمكي أو خالد بن صالح الحارثي، أو ربما خدم جده في بيت الساحل!.

3

غرفتي تزداد ضيقا، أشعر باقتراب جدرانها يوما بعد آخر.. الحياة تمنحني فرصة واسعة للسير في طرقاتها أكثر فأكثر، كأني خارج عن وجودي السابق، لا أحد يصل إليّ من عالم يفتّش عني عبر المحاكم والقضايا الرافعة أصابع الاتهام في وجهي..
- أين أموال الناس؟.
- لا أعرف.
- هل تعرف أن أحدهم عجز عن شراء دفاتر المدرسة لأطفاله؟
- ربما، لكن هذا ما حدث.
- والأموال؟.
- تبخّرت.
لا يصدق سائلي أجوبتي، ولا أحتمل أسئلة متشابهة تكررت على سمعي أشهر فترة التحقيق، مجرد شريك صغير جاء بمشتركين جدد، هم من ألحّوا، هم من جاؤوا بعشرات الآلاف حتى منزلي، آآآه، هل قلت منزلي؟! لا أريد أن أعلم شيئا، عليّ بالأوراق، أمضي فيها ليلي، لا أريد أن أنظر إلا إلى الكيس الأسود يفتح فمه عن أوراق بيضاء، أسير مع رحلة الرجل، كيف سأراه بعد أن شاهدني أدخل على طبيبه، سيعتقد أن مؤامرة حتّمت سرقتي للأوراق، وزيارتي للطبيب في مستشفى ابن سينا.. قلّبت الأمر في رأسي فوق قدرتي على إغواء الأوراق الساخرة من حيرتي، المتكدسة على طرف فراشي.. تناولتها جميعا، وبدأت القراءة..
"مضى السلطان، وقد وجدتني معه، إلى البنجلة، ساعة أخرى وأخرى تأتي، قام كعادته يذرع المكان، كأنه يدخل حالة عميقة من الغياب، ... فجأة دخلت زوجته الشركسية جيليفدان تتبعها ابنها سالمة، لا أدري كيف انتبه لدخولهما البنجلة وهو الغارق في التفكير، ابتسم وتوجه نحوها، كأنهما وحدهما في المكان انطلقا في حديث هامس، وانشغلت سالمة بما احضره لها أحد الخدم بأمر من والدها، عصير وشيكولاته، ربما ليلهيها عن مشاغباتها وتعطليها لحديث أبيها وأمها.
قادتني أقدامي إلى بيت المتوني، حركة غير عادية، أناس كثر يخرجون من غرف ويدخلون أخرى، السلالم كخلية نحل، سالمة تتنقل بخفة جميلة باسمة، تتقبل هدايا الوداع وقبلاته، أخذتها والدتها من يدها قاطعة عليها فرحة الطفل بهداياه، قالت لها: علينا أن نودع السيدة عزة.
بوغتت سالمة، لا تريد في هذا الانتشاء أن ترى المرأة المتمحور فرحها بالبعد عنها، دخلت غرفتها، للمرة الأولى رأت السيدة عزة تنهض من جلستها لتصافحهم، وخصت سالمة بالسماح لها بتقبيل أصابع يدها، لم يكن في خلد سالمة إلا الخروج على حلم ألا ترى هذه السيدة مرة أخرى.
قبل أن تخطو سالمة خطوتها الأخيرة بعيدا عن بيت الموتني اقتربت منها امرأة زنجية كبيرة في السن، وناولتها صرة صغيرة ملفوفة بورق الموز: "إنها لك يا سيدتي الصغيرة، أول شيء ينضج في مزرعتي"، أزاحت سالمة اللفافة سريعا، كان بداخلها رأس ذرة، فرحت سالمة كثيرا بالهدية الدالة على المحبة، ابتهجت الزنجية مستديرة لسيدتها جيليفدان، ابتسمت السيدة الأم لخادمتها، وعبر الموكب الصغير باب بيت الموتني.
وفي تيارات الحلم المتسارعة بلا منطقية، الحلم دائما خارج حدود المنطق ورغباتنا، وجدتني أقف على الشاطيء أراقب رحيل سالمة وأمها، وما يتبعهما من خدم وحشم إلى بيت الواتورو، على الحافة بين الرمل والماء وقف قبطان المركب السلطاني (الرحماني) ينتظر القادمين، أعد مركبين شراعيين، أحدهما للركوب، والثاني للحراسة ونقل حاشية سالمة وأمها مع المتاع وما تكاثر فيه من هدايا الوداع.
وقفت على الساحل أراقب المشهد، امتد لوح خشبي بين رمل الشاطئ والمركب الذي أجبرته ضحالة الماء على الرسو بعيدا، رفع خادم سالمة بين ذراعيه فوق الماء حاملا جسدها بين الرمل والمركب، لمحت جوهر، كان مشغولا بالإشراف على رحلة الانتقال.. سيدي السلطان هناك في البنجلة يبعث من يطمئنه على ترتيبات السفر".

4

شعرت بالعطش، نهضت أفتش عن جرعة ماء في بقايا الزجاجات البلاستيكية الحاملة لأسماء مختلفة، لا أثر في بطونها لقطرة.. فتحت باب الحمام، رائحته مقززة، حياة البؤس كما أصفها دائما، ها هي تسوّرني بمقبرتها المكشوفة على جثث متعفنة، فتحت حنفية الماء فانهمر السائل بلون بني انتظرت صفائه نحو دقيقة، محتملا عفونة المكان، ملأت زجاجة وخرجت بها إلى الغرفة، بدت رائحتها لطيفة، طرقات على الباب، لم أهتم، جلبة صوت حادّة لم أتبيّن إلا غضبتها من الباب المغلق في وجه الطارق دائما، وضعت في رأسي نيّة الخروج بعد الحادية عشر ليلا فقط، شربت نحو نصفها محتملا سخونتها، مؤملا النفس أن ذلك صحّي وأفضل، تناولت الأوراق..
"أخذني إلى بلاط السلطان، كان يوم جمعة، قبل التاسعة صباحا كنّا أمام باب بيت الساحل، دخلنا قاعة كبرى في الطابق الأرضي، وصلنا ضمن جموع من الناس، أدركت لماذا ألح عليّ أن أرتدي ملابس بيضاء، الجميع كانوا كذلك، هناك من وصل لوحده، ومنهم من احتشد وراءه أتباع كثر، أحرار وعبيد، دخل الأحرار وبقي العبيد ينتظرون أسيادهم.
أخذت مكانا على السجاد الفخم، الساعة التاسعة هبط السلطان من جناحه يرافقه حشد من أولاده، وقفنا جميعا، وانحنينا على إيقاع واحد، ولامست يدي يد السلطان مصافحة، وفعلت ذلك مع جميع أولاده، صمت الحضور ليتحدث السلطان، فتدفق صوته حانيا لا يخلو من هيبته، وبعدها تكلم من أراد الكلام، لم أسمعهم وبقيت شفاه السيد وحدها تتحرك حديثا أمام عيني وسائر كياني، وهبط علينا ماء الورد يرشه الخدم إعلانا بانتهاء جلسة البلاط، رأيت السلطان يقف فوقفت، كما فعل الجميع، وانصرفوا إلا من أراد السلطان لأمر خاص، بقيت ضمنهم ريثما يعود السلطان من جناحه الخاص بعد مناقشة أمور قيل إنها سرية، انفضّ الجمع، بقيت وحدي.
وفيما سيدي السلطان منشغل بوداعيات أبنائه وأفراد رعيته المقربين، التفت يمينا فألفيت جوهر يقترب بفمه من أذني، قال اسمع ولا تلتفت، لا يوجد بن أولاد السيد سعيد شقيقان، كان يخشى ذلك، إنما شقيقات فقط.. عشرات الأبناء والبنات، أجهل كيف واتته رياح النسل كما يشتهي، ولا أدري كيف رأيته ذات الحصان الذي كان عليه السيد بدر متلقيا الرمح في ظهره، سألني رفيقي عمّا طاف على وجهي من تقلصات التذكر، لم أشأ إلا الصمت، خلته فطن إلى ما فكرت فيه، فمضي يخبرني: بعد مقتل ابن عمه بدر وجد السلطان نفسه وحيدا على عرش السلطة، أخاه سالم الذي شاركه الحكم مات بالشلل عام 1821 للميلاد، وسبقه السيد حمد حين مات في معركة البحرين عام 1816 للميلاد.
ما الذي دعا جوهر ليقول لي هذا الآن، وفي حضرة السلطان؟!
التفت إليه لأسأله الخبر اليقين، لم يكن إلا الفراغ المتبقي بيني وآخر حرس السلطان الملتفين بأحزمة الرصاص قابضين على بنادقهم كأنهم آخر ضمانة لهم في الحياة.
مضيت كأنه لا أحد يراني، أو كأني من أبناء السلطان، آخذا طريقي إلى داخل بيت الساحل، قلت لعبد صادفته برغبتي في رؤية خولة، فجأة حطّ جوهر طائرا خرافيا كغراب بالغ الضخامة، جاحظ العينين محمرّ الحدقتين، غاضبا من تصرّفي..
- لكنني من خاصة السلطان.
- أنت غريب في بلاد غريبة.
- لكن سيدي السلطان...
- أنت مجرد حالم لا أكثر، اخرج من القصر خير لك.
- ليس قبل أن أرى خولة.
- خولة فتاة بالغة لا يجوز أن يراها أحد إلا أفراد بيت السلطان.
هدأ روع جوهر، طال صمته، حرته دهرا، تكدّس في لحظات بيني وهذا الكائن الخرافي، تناول يدي بإحساس الرضا، ومضى بي نحو بيت الواتورو ، كأننا من سكّانه دخلناه بحميمية لم ننتظر إذنا، استدرنا من الباب الخارجي يمينا ثم إلى أقصى اليسار حيث الإسطبلات، تتفرع منها طرقات تحدّدها أشجار متكاثفة، هناك رأيتها، الطفلة التي خمنت أنها في الرابعة عشر أو أكثر تتقافز ضاحكة، وجهها الحاد الشبيه بملامح والدها، اقتربت منها لأحدّثها، مكثت برهة سمعت فيها ردّ التحيّة، وغادرتني على ظهر حصان يليق بحمل ابنة السلطان، ثم آبت، بين الحلم واللاحلم سمعت أنها حدّثتني، قالت: منذ أن كنا أطفالا في الخامسة علمونا ركوب الخيل، مرتان في اليوم، أول الصباح وبدايات المساء، يرافقنا أحد الخدم، نسير بما يحفظ صداقتنا مع حيوانات المكان، ومن يبرز يعطى مطية خاصة به، الفتى من حقه اختيار واحدة من الخيل العربية العتاق، وما أكثرها في إسطبلات والدي، أما البنت فلها بغل عماني أبيض مزركش بالزينة الغالية ومثقلا سرجه بالحلي النفيس، ذات يوم سابقت أخي حمدان، لكن جذعا طويلا بارزا لشجرة سدّ عليّ الطريق فجأة، قفزت من الحصان مفزوعة، بعض الإصابات القابلة للتداوي أفضل من موت محقق لو اصطدم رأسي بالجذع مباشرة.
بصوت الأنثى البالغة الناضجة تمضي سالمة في حديثها العذب، وددت لو أنها لا تتوقف، وأن تعبها من ركوب الخيل لا يهدأ حتى تجلس في ثرثرة الأطفال حينما يستمع إليهم أحد، قالت إن أمها غير راغبة في تعلّمها ركوب الخيل، لكن أخيها ماجد أصرّ منذ انتقالها إلى بيت الواترلو فعل ما تريد، سألتها: هل أمك من عمان؟
أجابت الطفلة بضحكة أرادت أن تبدي بها تميّزها: جاءت أمي إلى هنا منذ سنوات طويلة، شركسية لم تعرف من الدنيا سوى قصة هجوم الغزاة على قبو التجؤوا إليه حينما نشبت الحرب في بلادها، اكتشف الغزاة المخبأ، قتلوا والديها، وحملوها طفلة لمّا تبلغ الرابعة من العمر، مع أخيها وأختها، ثلاثة أطفال تفرقت بهم السبل، سمعت أنها وصلت إلى هنا وعمرها سبع سنوات، عاشت ضمن أطفال البيت، أبناء السلطان.
مرقت أمها فجأة، رأيتها ببياض وجهها وطول قامتها، قوية بنيان الجسم، في عينيها السوداوين يطل حزن معتّق، بدا أنه جمّلهما، مرّت، كأنها لم تر أحدا، صمتت سالمة، ترقبت مرور والدتها، قالت: لا تفكر إلا في عمل الخير، تعالج مرضى البيت الكبير، بيدها دائما مصحف وعطاء.. بتقواها وورعها وطيبتها كسبت قلب أبي، لا تطلب إلا لغيرها، وكان أبي لا يبخل عليها بما تطلبه، يقدّرها حتى أنه إذا دخلت عليه ينهض من مقعده ويتقدم من أجلها خطوتين، وذلك شرف لا يمنحه أبي إلا لقليلات من زوجاته الكثيرات.
- زوجاته؟
- قل سراريه، أو جواريه، أو إيمائه، بالعشرات.. فليس له زوجة سوى..
- عزة بنت سيف.. ابنة عمه.
- وحدها السيدة.
- كأنك تكرهينها.
- لست وحدي، كل من في البيت البيت يكرهها، متعالية، مغرورة، علينا جميعا واجب السلام عليها كل صباح، لا أتذكر مرة ابتسمت، الحمد لله على أنها لم تنجب.
- لماذاا؟
- هكذا نكون جميعا أبناء السلطان متساوين.. حتى في الشيكولاته الفرنسية التي يوزعها علينا كل صباح، تعلم أنه لا يمكن لأحد من عائلته الدخول عليه إلا بكامل أناقته وزينته؟! حتى أبنائه الصغار، ذات مرة غافلت مربيتي وذهبت إليه، لكنه أمر أحد خدمه وأخرجني من غرفة أبي لأعود مرتدية ما يستوجب المثول أمام حضرة السلطان والأب.
ندت تنهيدة قوية من صدر السيدة، ونهضت غائبة في ردهات البيت، جاءني صوت جوهر: انهض.. وعد.
سألني جوهر: كم قدّرت عمرها؟
أجبته: الرابعة عشر، وعندما تحدثت قلت إنها تختزن سنوات أخرى في جسدها الضئيل.
صوّب لي جوهر نظرة لم أميّز معناها، كانت حمرة الغضب في عينيه لا تزال.
خرجت من المدينة أسير على غير هدى، أراود نفسي بمزيد من المتعة، مشيت كثيرا، خارجا من عمران المدينة لا شيء إلا الدروب، أخذتني متعة تسكعي للسير قريبا من نهر المتوني، رأيت السيدة عزة تجلس في شرفة المنزل ويحييها أطفال القصر ووصيفاته، معتزة بنفسها، سمعت أنه لا أحب إليها من ابن أكبر أبناء السيد هلال ابن السلطان سعيد، حتى اعتقد البعض أنه ابنها.
كان قصر سيدي السلطان مهيبا يجاور اخضرار المكان، سماه باسم النهر، ليس بيتا، بل حارة واسعة الامتداد.. مجموعة أبنية داخل سور واحد، تذكرت حينما أخذني سيدي السلطان إلى داخله، للمرة الأولى في حياتي أشاهد الحيوانات رؤيا العين.. أسود وغزلان .. طواويس تختال.. وحمام يتطاير من شجرة إلى أخرى، ونعامات تتهادى بأعناقها الطويلة محدثة الصوت الغريب، يهوى سيدي هذا المكان كثيرا، يقيم فيه أكثر أوقاته، لا أدري كيف سيكون بعد أن ينتهي من بناء بيت الرأس، يريده سيدي تحفته الأجمل في سلطنته الأفريقية.
"وفي مسافة لا أتبيّنها بين صحوي وغيابي.. رأيت السيد وفي يديه أوراق، ينظر إليها بفتور، كمن أحبط من شيء، وضعها جانبا، تناولها مجالسه، بدت عليه الحيرة أيضا، عرف أن القرنفل لم يجد سوقا له في أمريكا، قال لي الشخص الذي جالس السيد ولا أعرفه أن تكاليف الرحلة بلغت 6179 دولارا، وليس من ضمنها الطعام الذي حملته السفينة معها مبحرة إلى الميناء البعيدة، قال: إن الربح أقل بكثير مما يمكن أن يكون من تجارة المحيط الهندي، بدا السيد ممتعضا من الضرائب التي فرضت على تجارته في ميناء نيويورك، قال أنه لن يجد ما يدفعه لتكرار التجربة مرة أخرى، منعه قانون الحماية الجمركية المفروض في الولايات المتحدة من فعل ذلك.
أعادني بصري إلى حيث أقف، ضائعا في دروب زنجبار، انهمر المطر بشدة لم أحتملها، أخذت من الشاطئ دربا إلى بيت الساحل، سرت بجوار الجدار العالي للوصول إلى بوابته الرئيسية، للمرة التي لا أعرف كم رمقت المدافع التسعة، في كل مرة أحسبها ثلاثة ثلاثة، المنزل يشمخ بطابقيه وقرميد سقفه الأحمر يتوسط بستانا من الرمان، رفعت عيني إلى الشرفات الطويلة، تمنيت أن أراها، حظي عثر هذا اليوم، المطر طردني من الشاطئ، ووجه خولة لا يبين لي باستدارة قمرية على شرفة البيت، خطرت لي فكرة أن أذهب لقاعة الاجتماعات، ربما أرى سيدي فيها على غير موعد، أوقفني أحد الخدم، نصحني بالخروج، بدا لي محذرا أكثر من ناصحا، قال إن سيده يأتي هنا ثلاثة أيام في الأسبوع، ولن أراه لا اليوم ولا ما بعده، أخذت نفسي نافذا من البوابة الرئيسية مستديرا خلف البيت، كانت هناك الإسطبلات الضامة لخيول سيدي السلطان، كل شيء كان ساكنا، وحده المطر يقرع الأشياء بشدة، لا صوت إلا صوته، احتميت بسقف يحميني منه، ولذت بإغماضة عيني".
أغمضت عيني أيضا، أداوي بالنوم ما مسّني من نصب، الشمس لا تزال في الخارج تلسع المكان بحرارتها مع أن الوقت وصل إلى بداية الربع الأخير من العام.. في إغماضتي توهمت أن سقف الغرفة هبط أكثر، يكاد يلمس وجهي.

5

المقهى على فم سوق مطرح شبه خاو، الصباح لم يكتمل بعد على جبال المدينة، الشمس تراود قمم الجبال بخجل، تحسست بضع أوراق انتزعتها من الكيس الأسود لأقرأها بعيدا عن اختناق غرفتي، مبتعدا عن مفاجآت صاحب الشقة الباحث عني، الأوراق في جيبي، أحاذر عليها، أخشى إخراجها فيباغتني صاحبها.
خطرت لي فكرة الذهاب إلى الطبيب في مستشفى ابن سينا، شعرت بنفسي تتحاشى ذلك، منذ أن رأيت النظرة في عيني الشاب الجالس أمامه أحسست بشيء أعجز عن إدراكه، هناك يرتمي في قاع روحي فيعذبني كلما تذكرته، العينان المتسعتان ترميان بشررهما في وجهي، لم أرهما مرة أخرى، السوق جاف وأحجاره متوترة، زخارفه لا معنى لها، مرارة تتصاعد إلى حلقي، بضعة عمّال يتحركون بجلجلة لغتهم، أبواب السوق تتصاعد واحدا بعد آخر نحو السقف القابض على الباب، طلبت كوب الشاي بالحليب، مداريا بالطاولة ما بين يدي بدأت أقرأ:
"التقيت سعيد، العربي الحضرمي، رأيته يعمل كثيرا.. يرمقني بعين متوهجة، ينادي بصوت عال على أسماء عمّال فيلتفون حوله مسرعين كأنه يدعوهم للنجاة، سواعد محروقة تتوهج بالحرارة تحت شمس زنجبار، سألته عن داره التي جاء منها، قال: أتى بي جوعي إلى هنا، أعمل وأبنائي وأخوتي في حاميات السلطان، ومن يوفر لنا الطعام من أرز وخبز وسمن بالعمل معه، أغلبنا فقراء، نأخذ في العام ما يقارب الخمسة والثلاثين دولارا، سترانا عمالا في أصغر المهن، وفي الموانيء حمالين، وبيننا من عرف سكة الحكومة فعمل في القضاء والفرضة والجيش.
- هل رأيت السلطان؟
- من بعيد حتى أن بصري لا يصل إليه لأتبيّنه.
- حدثني عنه.
- كيف أحدثك عمّن لا أكاد أراه بين حاشيته الكبيرة؟!
- وهل رأيت خولة؟!
في غمضة عين وانتباهتها رأيت بجواره يقف جوهر، ما الذي جاء به في هذه اللحظة؟! رجل الحلم المارق بيني ونفسي، لم يكمل الحضرمي حديثه، كانت يد جوهر تقبض على ذراعي وتشدّني شدا، بعد أن غصنا في الطريق المحفوف بأشجار النارجيل في جهته اليمنى وأشجار لا أتبيّن أسماءها من جهة أخرى جاء صوت جوهر هادرا..
- لقد بلغ السيد ماجد اليوم مرتبة الرجال.
- لم أفهم.
- اعتاد سيدي السلطان أن يحتفل وبمراسم تقليدية يترأسها بحضور كبار القوم من وزراء وقضاة ليعلن وصول أحد أبنائه إلى مرحلة البلوغ.
- وكيف؟
- ليست محددة بعمر معين، قد تكون ثمانية عشرة عاما أو عشرين، أمّا ماجد فلم يبلغها بعد، وإنما بلغها بما رآه والده فيه من صلاح رأي ودماثة خلق.
- وماذا يعني ذلك؟
- أن يكون له داره الخاصة، ويعطيه والده خدما وحشما وجيادا ومكافأة شهرية تجري عليه طوال حياته.
وصلنا البنجلة، يدي في يد جوهر، وحينا أجدها معلقة في الفراغ، خلق كثيرون كأنه يوم عيد، السلطان في صدر المكان بمهابة كأني أراها للمرة الأولى، صفوف من حملة البنادق يجلسون وراءه حراسة على مبعدة أمتار قليلة، قلة منهم يجلسون وراءه مباشرة، أبناء السلطان الكبار يجلسون قريبا منه، الصغار في شقاواتهم يحدثون جلبة فتحاول أمهاتهم إسكاتهم، تحدّث السلطان فألقى الصمت في المكان مع كلمته الأولى، كان ماجد يبهر الحضور بعلو قامته ومكانته، بدا فارسا يتقلّد نياشين النصر".
هوى تعب بالغ الضخامة على وجهي.. حرقة تفصدت في عيني.
أصابني قرف غريب من عالمي، وددت لو غصت في عالم أوراقي من جديد، لكن قرفي أحاطني بقوة، أذرعته اخطبوطية سدّت المنافذ من حولي.
تطلعت إلى الشارع البحري، لا حلّ سواه.
وضعت المائة بيسة على الطاولة، آخذا دربي إلى الجهة الأقرب للبحر، أغوتني روح المغامرة بالسير نحو القلعة، سرت خطواتي .. عين على البحر وأخرى صوب القلعة الواقفة بكبرياء على الجبل، الشمس تلقي ضوءها الحارق صوب بصري، وبصري غارق في مشهدي البحر والقلعة.
كمن توهّم رأيت ما حسبته أنه واقف هناك، يتحدث إلى حارس القلعة، يترقب سفينة السلطان تتأهب للإبحار نحو البلاد اللابعيدة، عجزت قدماي عن صعود الجبل، فأبت متخذا طريقي عائدا إلى غرفتي، محتملا جموح جدرانها وصخب بابها.

6

كيس خبز واستدارة صندوق صغير تصطف فيه أجبان مثلثة، وزجاجة ماء كبيرة، وأمامي باب شقة تحتوي على غرفة تضمني كمأوى دنيوي أخير، عدت إلى تسليتي الوحيدة، كيس أسود يقبض على أوراق بيضاء عليها خطوط ملونة يبدو لعبة يتلهّى بها طفل أضجره كل شيء من حوله، لم يبق الكثير من الأوراق، ماذا سأفعل حينما تنتهي؟
فاجأني سؤالي، ندمت على سماحي له بالتصاعد من داخلي، وددت لو قمعته قبل أن يقهرني بإجابته الغائبة، لكنه صعد وألقى مرارته في دمي، بحثت في الأوراق حيث انتهيت، وصلت إلى بداية أخرى لرحلة مجهول راسم خطوط خرائطها.. طاف على رأسي الطبيب، القابض على إجابة أحتاجها، لكني أعجز أن أسأله، النظرة تحرقني منذ أن ألقاها الجالس أمامه في عيني، أشعر بجمرهما مشتعلا في جميع شراييني، صفحة تترقبني بأعين مفتوحة:
"عرفت طريقي إلى بيت الواتورو ، يمينا من الباب الخارجي ثم إلى أقصى الشمال، وصولا إلى الإسطبلات، كأنها على الموعد، تجلس متعبة، مهمومة كما يحلو لأميرة أن تخطّط، جلست قريبا وأمضيت بالصمت حديث البدايات، قذّرت أن إقامتها بعيدا عن بقية اخوتها الصغار سبب همومها، ذكّرتها أنني شاهدتها تنتقل مع أمها إلى هذا البيت.
- لو انتقلتم إلى بيت الساحل، كنتم في طريقكم إليه.
- إنما رسونا قريبا منه، ولم ندخله، كانت أختي خديجه، شقيقة ماجد تنتظرنا في البيت الجديد، قريبا من بيت الساحل، أحببت دخوله لكن أمي منعتني، وعدتني بزيارته عندما يعود أبي إليه من بيت المتوني.. آآه على هذا البيت، افتقدته كثيرا، افتقدت اخواني واخواتي، الحركة التي لا تهدأ ليل نهار، افتقدت نهر المتوني أدفع في سواقيه زورقي الشراعي الجميل، لقد أهديته إلى أحد اخوتي قبل مغادرتنا، وجدت بيت الواتورو مملا، أصابني ضيق وضجر كبيرين، سألت أمي متى سنعود إلى بيتنا القديم، لكنها لا تملك الإجابة، هي تنفذ وصيتها لساره، أم أخي ماجد، تعاهدتا أن من تموت أولا على الأخرى أن تراعي أبناء المتوفية وكأنهم أولادها.. هي هنا لتبر بالعهد.
استمعت إليها، تحدثت سالمة كثيرا، بعود صغير كانت ترسم على الأرض تصاوير وحروف، لم تصمت: أتدري أنني وجدت ضالتي في صراعات الديوك المتكاثرة في بيت أخي؟! كل يوم كنا نأمر العبيد بإطلاق هذه الديوك لنمضي الوقت مستمتعين بنزالاتها.. حاولت ألا أقع أسيرة الضجر إنما أستنهض همتي في التميز، كان أخي ماجد يأخذني إلى أحد المزارع ليعلمني الرمي بالبندقية والمسدس، لم ترض والدتي كثيرا عن هذا الفعل، بل قبلته على مضض، وفي الأوقات التي لا يكون فيها ماجد معي يعلمني الخادم سرور على دروس الفروسية.
قاطعتها: وهل خولة تجيد الفروسية أيضا؟
ردت بغضب صغير: خولة؟ .. ما الذي جعلك تسأل عن أختي خولة؟ لدي أخوات أخريات فلماذا تسأل عنها هي؟
- لم أكن أعني..
- إنما تعني، أدرك أنك تعني، خولة أمر مختلف في هذه الجزيرة، ليس في هذه الجزيرة فقط، بل في كل الساحل الأفريقي وربما عمان، ذاع وصفها.
- رأيتها..
- رايتها حقا؟!
- نعم، لكني..
- لم تستطيع محادثتها، أعرف ذلك، خولة تدرك ما هي عليه من جمال أخاذ، منذ أن رأيتها في بيت الساحل وقد صارت معبودتي ومثالي، كانت فريدة عائلتنا في الحسن والجمال، والابنة المفضلة لوالدي السلطان، لا يقول غير ذلك إلا حاسد أو حاقد، فهي مضرب المثل في فتنة الوجه الجميل وسحر العيون النجل، مرة شاهدها قادم من عمان وقد كان يلعب بالسيف، وحينما أطلت خولة..
- وضع السيف على قدمه ولولا أن نبهه أحد أن قدمه تنزف بشدة لمات..
- إذن تعرف الحكاية.
- ومن منا لا يعرفها في الجزيرة وما جاورها من ممالك أبيك السلطان، إنما أردت معرفة أكثر عن الحكاية، فقد تنطوي على مبالغة.
- خولة ساحرة الرجال والنساء على السواء.
- نعم، نعم، خولة، زيديني أخبارا عنها.
- يكفيك يا هذا، إنها أسرار بيوت أبي السلطان، فامض بعيدا.
وتركت سالمة، الصبية المتدفقة بالحياة تفتّش عن طريقها بين دروب الحياة.
وتركتها ليهبّ ريح الحلم عليّ بقوّة، يد تمسك بيدي، يد السلطان بقوتها وحنوّها، بصمتي تدثرت أحاذر اللاحلم غائصا في الحلم بكل ما أوتيت من قدرة، أخذني سيدي السلطان إلى طريق يتلوى بين مزارع، حدثني كثيرا..
كان عبيد، أحد خدم السلطان القدامى ينتظر أمام بيته المزاوج في بنائه بين طين وأخشاب، بدا لي أن لديه مناسبة ما، خلته ينتظر قدوم سيدي السلطان أمام بيته ليحييه، عرفت لاحقا أن الأخبار وصلته باتجاه السيد لهذا الدرب، وقف ليرى ولي نعمته، أخذته الدهشة أكثر مني، جاء السلطان ليهنئه بمناسبة زواج ولده.. الدمع يملأ عيني عبيد، انكب على قدمي السلطان يشكره منفجرا في بكاء شديد، رفعه سيدي السلطان من ثوب دشداشته برفق، أوقفه على قدميه، بارك له سريعا ومضى آيبا، في ارتباكة الموقف أطلت مكوثي أمام عبيد، خرج سكان البيت واحدا بعد آخر، قدم آخرون من معارف عبيد، في انتحابه الصامت لا يجد قوة ليشرح.
أووووه، انتبهت فجأة إلى أن سيدي السلطان مضى دوني.. ركضت في الدروب الملتوية، متشابهة، كلما قلت أن الدرب هذه التي جئنا منها قالت درب أخرى أنها المسلك الصحيح، حلّ عليّ الليل وكأنه هوى فجأة، حينما داعب عيني النعاس استيقظت مخاوفي من زواحف تمرح بين المزارع وداخلها، حشرات أخشاها كثيرا، رأيت ولا أدري في صحوي أو منامي أن الماء يخرج من نهر المتوني بغزارة، يزعزع أسيجة المزارع وجدرانها، وأنا أصيح بسيدي السلطان أن يأتي لينقذني من الغرق، خنقتني المخاوف، مرة أشعر أنه مجرد كابوس شديد الرعب فاقرأ ما استطعت من القرآن، ومرة أراه حقيقة هائلة أمامي فأصرخ".
في مستطيل بخطوط أربعة ملونة بثقل بيّن ظهر من جانبها الآخر: "على مدخل سوق مطرح، قريبا من البحر، رأى العامل الهندي، جامع القمامة، شابا يهذي، حينا يقرأ آيات من القرآن، وحينا يستغيث، تجمّع عمّال يعرفهم السوق بعد كل فجر، رطانتهم لها صوت مجلجل، يرتفع شيئا فشيئا كلما زاد آخر.. فجأة فتح عينيه، تجول فيهم جميعا، واحدا واحدا، أصلح من جلسته، تمدد تحت السلم الموصل بين الشارع والسوق، ونام".

7

شعرت بالجوع..
مزقت بتوتر كيس الخبز، وسحبت ترتجف بخفة الخيط الأحمر المستدير حول صندوق الجبن، هرست بأصابعي الجبنة على استدارة الخبزة، أكلت واحدة، ثم أغرتني الثانية، يد تقبض على الخبزة المدوّرة، أخرى تمسك بورقة منبسطة.. عين تتبع الأسطر المتناثرة ..
"اتجهنا لبيت الساحل، حينما رأى الحارس سيده قادما من بعيد تقافز كظبي، كأنه غالب كبر سنّه فجأة، لحيته بيضاء تكاد تغطي كامل وجهه الأسود لولا فسحة للعينين والجبين، فمه شبه فارغ من الأسنان، سلمت عليه فلم يرد التحية، اكتفى بابتسامة السلطان، وكان وراءنا جمع من حشم السلطان وعبيده وحراسه، رأيت وجه الحارس مستعيدا بسرعة ملامح الغلظة والعبوس، ما إن عبرنا بوابة المنزل حتى جاءني صوت السلطان:
- هذا سعيد.. النوبي الوفي، خدمنا طويلا، قربناه لسبب آخر أيضا.
- ما هو سيدي السلطان؟.
- في لحظة غضب كدت أهوي بسيفي على أحد أصدقائي لولا جرأة سعيد وشهامته لكان من بين الأموات، ولندمت على ذلك ندما ما بعده ندم.. يا بني اذهب فانظر بيت الساحل وسأذهب لبعض أمري.
وكالمغمض العينين أخذني جوهر من يدي، وقال: تعال معي..
كأنني فتحت عيني فجأة، فلم يعد أمامي جوهر، سعيد النوبي يحرس بيت الساحل، رآني أو لم يرني، لم أتبيّن في غياب صحوي شيئا، رأيته أصغر من بيت المتوني، لكنه أكثر حركة، صعدت إلى الطابق الثاني، غرف جلوس عديدة تنفتح على شرفة واسعة ترتكز على أعمدة مرتفعة من أرض القصر إليها فتتعداها إلى السقف العالي لها، في الشرفة رأيت مصابيح لا يحصى عددها، بها جمع كبير من ساكني المنزل، بعضهم يجلس على كراسي وثيرة تتكاثر لتجمع أكبر عدد ممكن من القوم، لم يكن مشهد الميناء بعيدا، هناك رأيت سفنا كثيرا تستوي على البحر، سفن السلطان ومراكبه.
وجهت بصري نحو ساحة القصر من خلال الدرابزين، رأيت جمعا كبيرا من البشر، على المرأى سلّمان كبيران صاعدان إلى الطابق الثاني، وعليهما الحركة لا تهدأ صعودا أو نزولا، والواقفون تحتهما ينتظرون فرصتهم للصعود، والمنتظرون أعلاهما يتحينان فرصة للنزول.
نزلت باتجاه بقعة أخرى من القصر، أغنام وأبقار لا تحصى يعمل على ذبحها جزارون، ويتولى عبيد نقل كميات هائلة من اللحم للمطبخ القريب، يقال إن أكثر من ألف شخص يسكنون المنزل، أسياد كثيرون وعبيد يفوقونهم عددا، مجموعة ضخمة من العبيد حليقي الرؤوس يجلسون بجانب جرار الماء بكسل واسترخاء، لا يأبهون كثيرا لطلبات الاستعجال، يطل عليهم شخص ضخم الجثة يتطاير الشرر من عينيه، وفي يده سوط جلدي غليظ، عرفت أنه رئيس الخصيان، لا أثر لهم في لحظة، وفي لحظة تالية يعودون وعلى ظهورهم حمولة الماء، ليس ببعيد تجمع عدد كبير من الخدم أمام مراجل الطعام.. فوضى وصخب ومشاجرات لا يردع استمراريتها سوى ظهور شخص آخر ضخم الجثة ينهال بالشتائم والصفعات على كل ما تطاله يده من وجوه العبيد، تهدأ الفوضي قليلا، وتعاود كرّتها كلما غاب الرجل الضخم عن المكان، أثارتني الحركة.. دخان وضجيج ولحوم تلقى في بطون المراجل، وآخرون يتذوقون الطعام.
رأيت الرجل الضخم المشرف على المطبخ فهرعت إليه، قلت له أنني جئت مع السلطان، رمقني بغضب كأني به غير مصدق..
- هل يحتاج القصر إلى كل هذه الأطنان من اللحوم يوميا؟.
- هذا إن كنا نطبخ لحما، أما في يوم السمك فإن عشرات السلال تأتي به، والسمكة الكبيرة لا يستطيع حملها اثنان أو ثلاثة.
أدار وجهه بعيدا عني، رأيت طابورا من الرجال يتجه من ناحية باب القصر، لا أعرف كم كانوا على وجه التحديد.. ثلاثون.. أربعون.. خمسون.. على رؤوسهم سلال فيها فاكهة كثيرة، يلقيها الخدم المتعبون من الحمل غير آبهين بما يصيبها من تلف، يأتي رجل ضخم بعصاه الجلدية فيضرب من يتأخر في الهروب.
زوجات السلطان الشركسيات يمشين بخيلاء بين ضراتهن الزنجيات، يتفاخرن بنبل أصلهن، نظرات حاسدة كانها الشرر تنطلق من الحبشيات اللاتي يرين في لون أجسادهن نقيصة، تقاطيع أجسادهن جميلة، أدركت أن السلطان يجد في هذه الأجساد الملتهبة ما يغريه لاتخاذهن زوجات وجواري.
خليط غريب في القصر، ألوان وأشكال، أجساد ووجوه وعيون متباينة اللون والشكل، همس جوهر يأتيني.. جمشيد، بشرة بيضاء وعينان زرقاوان.. وشريفة، الجميلة والرزينة، شركسية الأم القريبة من السلطان، حصيفة الرأي، تزوجت من رآه والدها لا يليق بها، لكنه أدرك سعة أفقها فأعادها إلى قربه، تلك نونو، الطفلة التي تبحث عن عيون الأطفال لتفقأها، أمها تاج الحسن التي لجمالها سميت بتاجا، رزقها الله هذه الطفلة المحرومة من نعمة البصر، فكانت تسأل عن كل طفل يولد هل يرى، وكيف هي أهدابه، في العاشرة عاد إليها يقينها بأن القدر قال كلمته فتغيّرت، ترتدي زيها الأنيق وكأنها ترى نفسها في المرآة، تدور حول نفسها كما تفعل المبصرات إذ ارتدين المدهش من الأزياء".
عدة صفحات مضت دون مربعات أو مستطيلات أو هوامش، بحثت متعمدا عنها في الصفحات التالية حتى وجدته:
"هل عرفني حارس بيت الساحل حينما دخلت البيت؟
سألتها، لم أرها طفلة، كانت كبيرة، أكبر من الجسد الصغير الذي أراه.
أجابتني السيدة سالمة: آآه، سعيد النوبي، إنه رجل المفاتيح، نرهقه دوما، نخبىء مفاتيح القصر، وهي مجموعة كبيرة مؤتمن عليها، في زاوية بالقصر فينقلب حال المسكين باحثا عنها ساعات طوال وكأن مصيبة عظيمة حلّت عليه، مهما حاولت إخفاءها فلا أمتلك قدرة أخي الصغير جمشيد في ذلك، لديه قدرة فائقة، إنما سعيد يفرح بأنه عثر عليها ولا يستطيع المسكين فعل شيء ضدنا".
هامش في نهاية الصفحة تكاد حروف سطره الأخيرة تضيع على طرفها: "مضيت في التواءات دروب مطرح لا ألوي على شيء، يأخذني الدرب للدرب، عبرت دكان سالمين، ناداني بصوته المبحوح، تكرر مرات، التفت إليه على عجل، كأني رأيت فيه وجه جوهر، الوجه الأسود المستدير والعيون الواسعة ببياضها البيّن.. جوهر، مستر جوهر".
في الصفحة التالية بدا لي أن الخطّ مهتز بما يشي باختلاف كاتبه عمّا سبقه أو أنها حالة مزاجية صعبة المقاومة..
"سالمين أمام دكانه، رآه العابرون بين يدين متشنجتين تهزه، يناديه بجوهر، مأخوذا سالمين لا يجد كلمة أمام الاندفاعة الصادمة، جوهر، جوهر، جوهر..
أطلق صوته أخيرا، أنا عمك سالمين.. أنا عمك سالمين، أنا لست جوهر.
فجأة حطّت اليدان عنه، أصابهما خذلان مباغت، ومضى صاحبهما عنه يغمغم بما استطاع من قدرة على الكلمات.
رأى عابرون سالمين يسأل أحدهم عن جوهر الذي تشبّه به قبل قليل، ضحك من ضحك، واكتفى بعضهم بهز رؤوسهم، وقال آخرون كلمات من نوع مسكين.
أصلح سالمين ما أصاب دشداشته، محاذرا المزيد من الأعين المصوّبة إليه، انشغل بترتيب ما في دكانه، يتلفت على مهل كأنه يخشى أن تعود اليدان المتشنجتان صوبه ثانية.
هزّ سالمين رأسه بضيق واضح، تابع ببصره الدرب حيث تلاشى ذلك الكائن في آخر مدى، غاب بين زحام العمّال الباكستانيين والهنود المتحاورين بصوت كثيف، يتلقفون الأكواب البلاستكية يمتصون رشفات الشاي.
مضى نحو بيت تآكلت أسس جدرانه، هناك لمحوه.
على الباب المغلق يمسك مغلاقه..
كان بإمكانه تحطيمه بيد غاضبة..
يكتفي بوهم ما، يخشى شيئا ما.
تمدد أمام الباب.
بالكاد، التفت إليه عابر".
أحاول مع نفسي الكفّ عن الأسئلة.. الطبيب ومريضه، سالمين، اليد الواضعة لأسطر الحكاية، العقل المتسوّر موانع ممتدة بين عصرين، بين مكانين، هل هي يد واحدة ألقت بالكلمات مكتوبة؟ هل هو عقل واحد تسوّر تلك المسافات والسنوات؟!
انتبهت إلى أن الخبزة انتهت من بين يدي اليمني، وقد ألفيتها لا تقبض على شيء، تاركة لشقيقتها الانتقال من ورقة إلى أخرى، تخيلت جوهر يأتي إليّ متسورا نافذة غرفتي، يأكل معي خبزة ملتوية على جبنة، فجأة جاءتني رائحة حلوى، خطر لي أن أزور شعبان، ليس ببعيد عن مسجد طالب، في درب ما يمرّ هناك.

8

ألقمت الكيس الأسود نثار الأوراق من حولي، أبقيت قليلها المتبقي في يدي، شارفت رحلتي معها على الوصول للحافة الأخيرة، هي حافتي أيضا، سأفتقد هذه العزلة الباذخة وستأتيني أخرى باردة بحرقة الصقيع المرهق للروح فوق كل شيء.
صوّبتني فكرة إلى وجهتها، ألحّت عليّ أن أؤجل قراءة ما تبقى، شعاع أمل أعود إليه في أقسى أوقات الروح صقيعا، أتدفأ به، أوراق أخشى نهاياتها، بدايات لا أتبيّنها والمسار أمامي متعرّج حد الدوار، انكشاف الذات على عريها أمام سطوة العالم من حولها، هارب بمعنى ما، هارب مني، منهم، أحلم بأوراق أخرى من هارب أيضا، تعرفه أحجار سوق مطرح، بائعوها، المفتشون عن لقمة عيش بنكهة رطوبة البحر في صيف المدينة، بالبخور الدائر كدوامة يصافح أنوفا تمزج روائح البشر بروائح العطر، مزيج أسطوري ينفذ إلى الرئات المتكاثرة، القادمة من وراء الجبال ومن خلف البحار.
إلى أين أمضي؟
لا شيء إلا اللاشيء.
ومقهى في سوق مطرح يقبض على عنق المكان، وآخر يتفيأ السكينة يطل من الأعلى كتباين البشر الجالسين في المقهى السفلي وذلك الساكن فوقه.
السيد سعيد بن سلطان.. تهجيت الاسم كثيرا، انزلق على لساني طويلا، الحاكم الحكيم، ذاكرتي لا تسعفني بالوافر عنه، عنوان عريض في رأسي جاء من الأمس طاف عرضيا على هذه الذاكرة المثقلة بأكثر مما ينبغي.
تحركت عيناي صوب الأوراق المتبقية، سطر أول يتبع للآخر..
"لم يكن لي إلا الوداع، أنظر إلى سلطانة تبحر إلى انجلترا، حملت هدايا وخيولا عربية إلى ملكة انجلترا فيكتوريا، اختار السيد سعيد قبطانا أمريكيا أيضا يسمى ويلسون.. عامان مرّا منذ أن ذهبت إلى أقصى الدنيا، الولايات المتحدة.
جلت قليلا في طريقي إلى بيت أحمد بن النعمان لأخبره بما رأيت، حدّثني عابر سبيل صادفته أن ابن النعمان خرج للتو من منزله، تتبعت خطى أقدامي سائرة بين المزارع، كانت أقداري تأخذني إلى درب يمشي فيه ابن النعمان، صحت فيه من بعيد، التفت حيث الصوت يلاحقه، ملامحه موسومة بحزن عميق، تحاول العينان إبعاده عن المارّة..
- لم الكدر وأنت ابن النعمان، المقرب من سيدي السلطان.
- كدر دنيوي لا مناص منه، أردت شراء مزرعة لأولادي فعجزت عن تدبير سبعين دولارا أحتاجها لإكمال البيع.
- وأنت القادم من رحلة بعدها ما بعدها؟
- لم أعد من الرحلة إلا بنحو 242 دولارا فقط.
- ظننت أنكم تأخذون مرتبات ضخمة.
- ذلك ظنكم، أما نحن فيهمنا ظن سيدنا السلطان فينا.
ومضى ابن النعمان في طريقه، وأخذني ما يشبه الحلم في درب هبطت عليّ كسماء، أو نزلت عليها كأرض، رأيتني أبكي بحرقة، حدثني أحدهم، وكأنه الحلم بأن السفينة سلطانة غرقت حيثما كانت عائدة من الهند، جنحت مقابل جزيرة وارين القريبة من جزيرة بمبا، لم يكن إنقاذها ممكنا، شعرت أن جزءا غاليا مني مات فجأة، استعدت ذكريات أشهرا من حياتي على السفينة سلطانة، كيف يحرق الحلم السنوات في لحظة؟!، كيف تختزل أشباه الأحلام الأشياء في عيّنة زمنية قصيرة؟!.
اقترب مني جوهر، في ذهنه حكاية ما، حدثني عن خالد الذي قاد المعارك في ممباسا عام 1837 للميلاد وفي سيوى عام 1844 للميلاد.. سألت جوهر عن معنى تلك المعلومة وما وراءها، ذكّرني بأن السيد سعيد في عمان، قلت له: أعرف، قال إنه ولّى حكم إفريقيا لابنه خالد إلا أنه مات بمرض رئوي.. صحت كأني أدرك مدى حزن سيدي السلطان على ابنه: ماااات.
كان عمر السيد خالد 35 عاما.
عرفت أن سيدي السلطان حزن كثيرا، وأخبرني جوهر أن ما أحزن السيد حزنا آخر موت ابنه هلال وهو في طريقه إلى مكة.
يا لهذا الموت، أخذ مقربا آخر من سيدي السلطان، مات الشيخ حسن بن ابراهيم الفارسي، أمر سيدي السلطان أن يكون أحمد بن النعمان وزيرا لوزارة التجارة ووزارة الخارجية، في نفس منزلة الشيخ الطيب.
همست في أذن جوهر.. أصدقني القول يا جوهر، أين توفي السيد هلال؟
كأنه ألقى بضعة أفكار في رأسي، وقال: عليك بأحلامك إن أردت أن تصدقها دون غيرها..
.. رأيتني أتبعه في عدن، يترقب وصول بقية عائلته حيث اختار تلك المدينة مستقرا له، كانت ضمن القادمين زوجته الشركسية وابنه فيصل وكان عمره 12 عاما، ورأيت معهم نحو عشر نساء و22 رجلا من الخدم وستة خيول، وفي ضبابية المشهد قيل بأن السيد هلال قد مات، وبعد أيام رأيت السيدين سعود وفيصل ومعهم بقية الحاشية يركبون سفينة والدهم البغلة متجهين إلى مسقط، ورأيت السلطان يستقبلهم، كان حزن السيد على ابنه كبيرا..
سمعت ألمه يتصاعد: آه لو تدري حزني على هلال.. أأتوني بأبنائه سعود وفيصل ومحمد.
قال أحدهم لسيدي السلطان: كان من الممكن أن يفقد عقله.
هدأ حزن السلطان.. إلا قليلا.
- أين ذهب بك الحلم.
- أراني السلطان.
- السلطان في عمان، إنما تعال معي.
خرجت ممّا يشبه القرب من الحلم، ممّا يشبه البعد عن الغيبوبة، يدي في يد جوهر، قال: سأعرفك اليوم على الشيخ ناصر بن جاعد بن خميس الخروصي.
في الطريق إلى منزله حدثني عنه، يقال انه يجنّد الجن لخدمته، ذات ليل حمل رسالة من السلطان إلى ابنه ثويني في عمان، وأعاد له الرد في اليوم التالي، بما خفّف القلق عن السلطان، لم يشك لحظة في أن العالم الكبير حمل الخطاب في الليلة نفسها مسلما الابن الرسالة يدا بيد، وتسلم جوابه عليه يدا بيد، وفي الصباح حمل البشرى إلى السلطان القلق، وقال له اطمئن.
باب البيت لا يختلف كثيرا عن بيوت خاصة السلطان، خشبي يقاوم الرطوبة والأمطار، لم تمتد يد لتدق على الباب، وجوه سبقتنا وأخرى وراءنا تقصد بيت الشيخ، وقور يجلس في آخر مجلسه المستطيل والممتد بصفين من المخدات البسيطة على يمين وشمال يلتقيان بصف آخر حيث الشيخ يستمع إلى أحد ضيوفه، هيبته بادية وبلحيته البيضاء الكثيفة على وجه مشرق بصفاء الإيمان يعطي رائيه الثقة وسكون النفس.
حديث هامس لا يصل إلينا، الضيف يسأل والشيخ يجيب، ينهض الأول ويبقى الثاني منتظرا من يتقدم إليه، كتب بان عليها كثرة ما لمستها الأيادي، أخرى مدسوسة في جراب قماشي وضعها الشيخ فوق بعضها البعض، كاد أن يخلو المجلس من جالسيه فدفعني جوهر إلى الشيخ فتقدمت، صافحته فكأنما روحي كادت أن تحملني كريح، حلّقت بي فوق جنان ذات أنهار، وكان يتحدث وروحي تصعد بي نحو سماوات علا، ورأيت يدي الشيخ تضغط عليّ، وعيناي مثبتتان في عينيه، انزلقت يدي من بين يديه وانسحبت من مجلسه، جاءني صوت جوهر ورائي يقول: لا أسألك عمّا جرى لك بل أخبرك بأن القاضي هنا يحكم في بيته، ومن لا يريد البت في قضيته في منازل القضاة عليه أن يتوجه لبيت الساحل.
في طريق عودتنا عدّد جوهر بعضا منهم: الشيخ عبدالله بن مبارك النزوي والشيخ محمد بن علي المنذري والشيخ هلال بن سعيد بني عرابة والشيح محيي الدين ابن الشيخ القحطاني.والشيخ عبدالعزيز بن عبدالغني الأموي، وأخرون لم أعد أتذكر أسماءهم جيدا".
هامش شعرت باهتزازات اليد التي كتبته، ملقى في وسط الصفحة بلون أزرق: "لا يعرفون له بيت، يأتي فجأة، يغيب فجاءات.
لا يعلمون من أين تلقي به الحياة في أزقتهم، اعتادوا على الرؤية وعدمها، الحضور ونقيضه.
يرونه في أمكنة مختلفة، يقولون إنهم يلاحظون وجوده في أمكنة متعددة وفي الوقت نفسه، يحاولون تخيّل حياة أخرى له، يتسلون حينا بنسيج خيالاتهم إذ يتذكرونه، تزحف الحكايات إلى أمسيات مطرح في الليلة نفسها، تتناسل منه أخرى في الليالي التالية، والقادمون من خارجها قد يعودون إلى قراهم وفي بقعة ما داخلهم التصقت ذرات حكاية سمعوها من بائع أو مشتر.
يشيرون إليه بوصف ما، لا اسم له، لم يسألوه يوما عن اسمه، ماذا سيفعلون بالاسم وله صفات كثيرة.. المجنون، المخبول، أو ما شابه ذلك في اللغة واللهجات".
أكملت بقية الورقة:
"سألت جوهر عن سيدي التاجر لا سيدي السلطان، يبدو أني أضحكت جوهر حتى أنه لم يخف انفعال تقاطيع وجهه وحركات عضلات شفاهه مجلجلة بالضحك، قال: السلطان ليس بتاجر، تأتي السفن بالبضاعة فيقسمها بين عدد من التجار الهنود، كل حسب قدرته التجارية، وكان يفرض عليهم البضائع، كان هناك طلب عليها أم لم يكن، ويأخذ نسبة ربح منهم 20 أو 25 بالمائة، قلت بحدة: إن في ذلك ما لا يليق بسيدي السلطان، تجمّعت خطوط على وجه جوهر، زمجر بالقول: ذلك يحدث في الشرق كله.
رأيت السفن الأمريكية تحمل إلى زنجبار المنسوجات القطنية والأواني الفخارية والبنادق والبارود ومستلزمات بناء السفن والساعات والأحذية وصناعات لم تر زنجبار مثلها، وحينما تعود تحمل الصمغ والقرنفل والعاج.
وصل إلى مسامعي ما يفيد بأن سفينة تدعى غزالة ستكرر فعلة سلطانة، حاملة الصمغ العربي إلى أمريكا، عامان مرّا عن رحلتي تلك، ليتني أعود إلى هناك على ظهر غزالة، لكن أثار أمرها غضب القنصل الأمريكي ووترز، فاشترى شحنة الصمغ التي يريد السلطان بيعها في أمريكا.
وفيما أتأرجح في حبال رؤياي جاءني جوهر مسرعا وغاضبا:
- اركض أيها الفتي.
- وماذا هناك؟
- أحد أبناء السيد سيبلغ السابعة؟
- وماذا يعني ذلك؟
- سيتم ختانه، وستقام احتفالات كبيرة ستراها ثلاثة أيام.
استدرنا حول بيت الواتورو الذي أقام فيه السيد ماجد مع والدته وأخته السيدة خديجه (وينطقونها حينا خدوجي)، على مبعدة خمسة أميال عن المدينة رأينا بيت الراس، بدأت جدرانه في النهوض، يريده السلطان لإقامة بناته.
في الطريق إلى مكان الاحتفال حدثني جوهر عن سالمة: ألقت الرعب في القلوب هذا اليوم، تسلقت شجرة نارجيل عالية بدون حبل البنتكو، يا لهذه الصغيرة الماكرة، إنها تحب لفت الأنظار إليها، هي فرحة تشير إليهم من منتصف الشجرة، وهم في أشد حالات الخوف عليها، آآه لو رأيتهم في المساء يأتون إليها بالهدايا لأنها هبطت بسلام.
سالت جوهر عن البناء الملحق ببيت الساحل، قال: إنهم يسمونه البيت الثاني، آه لو رأيته في عزه ذلك البيت، كانت هناك الأميرة الفارسية شيزاده، إذا شئت سمّها الزوجة الشرعية الثانية بعد السيدة عزة بنت سيف، سكنت الطابق الثاني تاركة الأول لنحو مائة وخمسين فارسا من بني قومها جاءوا معها يوم أن تزوجها السلطان، لو رأيتها وهي تخرج في وضح النهار راكبة الخيل، فرس على فرس، تحب الترف والسرف، محبة لأبناء زوجها جميعهم، كنا نراها في حاشيتها جميلة فوق الوصف، مرتدية ملابس ليس من هذه البلاد، مطرزة باللؤلؤ الطبيعي، سمعت أن اللؤلؤ المتساقط من ملابسها تعطيه لخدمها.
- لماذا طلقها سيدي السلطان؟
- كانت تريد الثروة والجاه من السلطان، وقلبها مع غيره، وكاد عنقها يسقط بيد سيدي السلطان لولا...
- سعيد النوبي.
- نعم، سعيد النوبي..
- أمسك يدي السلطان.
- كيف عرفت؟
- هو المنقذ كما تروي الحكايات، أيمسك يد السلطان الهاوية بالسيف القاضي على المذنب.
- لا أجادلك، اكتفي بطلاقها وعودتها إلى بلادها.
سألت جوهر بما حسبته بريئا:
- وأولادها؟
- إنها لا تنجب.
- وزوجته الشرعية الأولى لا تنجب أيضا!
- ماذا تعني؟
- يا لحظ هذا السلطان، أبناءه من جواريه لا من نسائه الشرعيات.
- إنهن زوجاته أيضا.
.. ولم أجد سوى الصمت، عاجزا عن الفهم".
مربع يسكن منتصف الصفحة بأضلاع مستطيلة كأنها قيست باتزان مريب، وبحبر أخضر غامق: "في بندر عباس قاتل السلطان أعداءه الفرس، كأنه شاهد شيزاده مع الأعداء تقاتل، وتخبر جنود قومها بأفراد السلطان ليقتلوهم، قال جوهر الحكاية، بضع كلمات، وتوارى".
تعود الصفحة إلى الخط السابق الأزرق قبل أن يقطع تواصله المربع: "حدثتني نفسي أن أرى البيت الثاني، متصلا بالجسم ببيت الساحل، منفصلا بالاسم عنه، عبر رواق قصير يمر على حمام تركي اتجهت إليه، تخيلت الأميرة الفارسية تختال بين ما أصبح اليوم أطلال مجد، كأني رأيتها محاذرة الوقوع ترفع أثوابها تصعد السلم على الزاوية هناك، اللؤلؤ يتساقط، حبة تتدحرج نحو خادم يقف بذلّ، لا ينحني ليلتقط اللؤلؤ، ينتظر غيابها في غرفتها بالطابق الثاني، يزاحمه عبد آخر على اللؤلؤة، باحثا عن أخرى اندست وراء صندوق خشبي مزخرف، لكنها هناك لا تسمع سوى صوت أنوثتها فقط وهي تتأمل صناديق اللؤلؤ والمجوهرات.
اقتربت منّي فتاة لم أتبيّن وجهها جيدا في العتمة المضلّة، قالت: أنا سالمة، ألا تتذكرني أيها الغريب.
كبرت الطفلة، كبر جسدها، أصبحت امرأة في فورة شبابها تختال كطاووس يبين حسنها كلما عبرت بين خدمها، بلا مقدمات أشارت إلى بيت الساحل وملحقه البيت الثاني، راوية قصة الطاووس الذي كان يتجرأ عليهم حينما يتنقلون بين البيتين، ذات مرة هاجم الطاووس أخيها جمشيد، أصرت ورفاقها على الانتقام منه، تقول بفرح طفولي: نتفنا ريشه الجميل حتى جعلناه بشع المنظر مكسور الخاطر.
كأن العمر لم يجر بها سنوات تقارب العشر حكت عن الطفولة البعيدة، ذكرياتها الأثيرة في قلبها، قالت: ذات مرة جيء إلى القصر بفتاتين شركسيتين، حاولت إحداهما الاستعلاء علينا، تولت أختي شيوان خطة الانتقام منها، دخلنا غرفتها وكانت تغني أغنية بلهجة بلادها، حملناها من أرجوحتها السواحلية وألقيناها أرضا، ضحكنا بقوة ونحن نرى الفزع والدهشة في وجهها، ظلت تبكي وهي تتحسس جسدها المصاب برضوض في أكثر من بقعة.
قلت لها أخبريني أكثر عن سيدي السلطان، الأب الذي يعطي أبنائه لا السلطان الذي يهب خاصته وعامّته، قالت: إن أبواب الخزائن لا تنفتح إلا عندما يريد والدي السلطان، إن زادت العائلة فردا جديدا، مولودا جديدا أو زوجة أخرى التي حالما تصل تعطى ذهبا وجواهر ومالا.. في اليوم السابع للمولود الجديد يحمل السلطان هداياه ذاهبا إلى زيارته، يعطيه أكثر مما يعطي أمه، صمتت، عيناها في البعيد، تجنبت خدش مسارات تيهها بكلمة، عادت عيناها نحوي، كأنها تسترجع ما تريد البوح عنه: في بيت الواتورو كنت وحيدة، كرهت حياة الأديرة في بيت المتوني، عزة بنت سيف حوّلت حياتنا إلى حياة خالية من المتعة، إنما بيت الساحل حركة لا تهدأ، سألني والدي السلطان ذات يوم: هل وجدت في بيت الواتورو من يعطيك حساء الحليب؟، في هذا البيت عشت حالات القلق على أخي ماجد، لم يكن بمأمن عن نوبات الصرع، كانت أمي وخديجة تتناوبان ليل نهار لمراقبته خاصة وقت استحمامه، ينادينه كل بضعة دقائق ويرد من داخل الحمام: نعم، مازلت حيا، اليوم زرت ابنتي أخي خالد، شومبو وفارشو، ملتصقتان ببعضهما رغم أن أم كل منهما لها رأي مختلف".
كعاصفة حلّت فجأة، من ملامحها أدركت أنها مرأة شركسية، تشبه حد التطابق أم السيدة سالمة، لها قامة مهيبة لا يضاهيها أحد في المدينة، نظرت في عيني مباشرة، كم أدركت في لحظات قوتها، ونفاذ عيونها، ارتبكت، تسمرت في مكاني، سألتني السيدة خولة عن ارتباكي، وقبل أن أجيبها عرفت إجابتي، قالت: إنها خورشيد، زوجة أبيها السلطان، والدة خالد، والمتحكمة به، نصحتني: احذرها، فإنها ذات شخصية خارقة، مقامها في العائلة عال، لكنني لا أحبها.
أخذني جوهر من يدي وقال: أسرع، اقتربنا من بيت الساحل، سمعنا صوت غناء شجي وحنون، قال: إنه صوت عامرة، رأى في ملامحي عدم فهم، قال: هي فتاة عربية عمياء تغني في حضرة السلطان، لم يترك لي فرصة أسئلة أخرى، ذهب بي إلى الشرفة الواسعة، رايت السلطان بين عشرات من نسائه وعائلته، وتدور القهوة والعصائر، على مسافة رأيت الجنود السود بأسلحتهم كأنهم قطع ديكور في مشهد عائلي، همس جوهر في أذني وقال أنها طقوس السلطان بعد انتهائه من الطعام، يسمع أحيانا صوت تلك الآلة وتسمى الأرغن، لكن الجميع يحبون صوت عامرة.
في لحظة وجدت المشهد مختلفا، في الطريق خروجا نبتعد عن بيت الساحل، ناولني جوهر نبتة، وقال هذه تسمى البيتل فامضغها إن شئت، لكن إياك أن يراك السلطان تلوكها في فمك، شيئا فشيئا ستشعر بالخدر في جسدك، ولن تجد أفريقيّا لا يضعها في فمه.
- إنني لست من هذه البلاد.
- عليك أن تكون منهم، لماذا لا تطلب من السلطان أن يمنحك خدما؟
- وماذا سأفعل بهم وأنا كما تعرف من أنا.. الحالم لا يحتاج عبيدا؟
- في بيت السلطان وعلية القوم يبدأ الطفل بمربية، وبعد بضعة أشهر يمنح خادمين، وكلما كبر أكثر استحق خدما أكثر، ومن يموت لديه خادم يعطى بديلا عنه، أو مبلغا من المال مجزيا".
في هامش على صفحة قرأت: "رأيت في قصور السلطان الكراسي والأرائك والطاولات وخزانات الملابس وخزائن المال، والسجاد من كل شكل ولون، زخارف لا أجمل للعين منها، وتحف لا يحيد الناظر عنها".
أغرتني لعبة الهوامش، قلبت عددا من الأوراق لا همّ لي سوى هوامشها، وجدت عبارة زيّنت بخبر حولها، لم تكن واضحة كثيرا، حاولت تتبع كلماتها: "رأيت عربة من النوع الذي يجره حصان، لم أر السلطان عليه ذات يوم، سألت رجل الحلم عن ذلك، قالوا: إنه لا طريق تتسع لمرور العربة، وقد أهدتها الملكة فكتوريا للسلطان.
وضع دائرة على بضعة اسطر كتبها في الورقة بالطول: "رأيت اليوم سيدي السلطان من بعيد، راكبا حصانه، لم يرني، همس في أذني صوت جوهر، قال أنه ذاهب لمعايدة أحد الشخصيات المعروفة، يا لعظمة سيدي".
وضع خطوطا ثقيلة تحت الجملة الأخيرة، من وراء الصفحة بدا الحبر مخترقا الورقة.
هامش آخر: "اليوم توفي الشيخ ناصر بن جاعد الخروصي ورأسه على حجر السلطان، عن واحد وسبعين عاما".
مربع أخير في الورقة الأخيرة الباقية بين يدي، قرأتها بتمعن كبير، حرفا حرفا، أحاول أن أطيل من الزمن، كمحكوم عليه بالإعدام يسير خطوته الأخيرة إلى حبل المشنقة، النهاية الحارقة والباردة في آن واحد:
"تصل الكلمات إلى حلقي، أحاول قتلها بإخراجها من فمي، لكن لساني لا يساعدني للتخلص منها، الطفلة الشقية لم تعد طفلة، لكنها بقيت بشقاوة الباحث عن ذاته بين وجوه لا حصر لها، قاومت عجزي، وأطلقت رصاص الكلمات كما استشعر مخاوف انكشافها:
- لولا ظنك في عقلي لسألتك عن جوهر.
- جوهر؟! كيف تعرفت عليه؟!
- أعرف أنه ليس موجودا إلا في عقلي.
- لا أيها الغريب، إنه من قدامى الرجال الذين كانوا في خدمة أبي، حتى إنه أشرف على أمر انتقالنا..
- أمر انتقالكم من بيت المتوني إلى بيت الواتورو؟.
- نعم، كان ذلك هو جوهر.
- جوهر؟! حسبته رجلا لا يعيش إلا في خيالي فقط..
غبشت الصورة في عيني كثيرا، كأني ما رأيت جوهرا، ولا سالمة..
انتبهت إلى أنها تناديني..
- أيها الغريب، انتبه، سأقول لك إنه كان هناك، أمره أبي بالإشراف على ترتيبات الرحلة لثقته في إخلاصه لنا، إنما لا أعرف هل صعد إلى المركب معنا أم بقي في مكانه ليذهب ويطمئن أبي على نبأ مغادرتنا، لقد أخذتني نومة منذ أن غادرنا الشاطئ وحتى وصولنا المرسى قريبا من بيت الساحل".
وضعت آخر ورقة من يدي، تبعت سابقاتها على فراشي الباهت، واتتني حالة من البكاء، سعيت أن أمنع نفسي، بدت كآخر ورقة في دفتر أيامي.

8

المقهى العلوي يقاوم كسله الرطب، لا أثر له، أوراقي احترقت بانتهائي من حروفها، المدينة باردة، باردة جدا، الرطوبة تكتسح الملابس فتلصقها على الأجساد، تلهيت بمجلات وصحف اكتشفت وجودها على طاولة صغيرة داخل المقهى قريبا من المحاسب، قلبتها بسرعة، شدني موضوع عنوانه الحصان العربي الأسود، قصيدة كتبها مستشرق إنجليزي عن حصان للسيد سعيد، قرأتها بتشوق كأنها ورقة مستلة من الكيس الأسود الراقد في غرفتي، أو الهاجع على صدر صاحبه الغائب.
استأذنت أحد العاملين في المقهى وأخذت المجلة معي.. أغوتني فكرة البحث عن الشاب.. هبطت من السلم بوهم أنه ينتظرني في بقعة ما.. سرت من فم السوق المطلة على البحر نحو نهاياته في الجهة الأخرى، أجساد تصطدم بي، أتلافى غيرها، روائح البخور تلح على رأسي كأنها تصل إليه للمرة الأولى، آخذا دربي إلى مسجد طالب أتلفت برأسي في كل اتجاه، لعله يخرج من سكة صغيرة حاملا العصا في يده، أو دفتر إذ يأتيه صحوه، الخباز الباكستاني يضرب بيده داخل الفرن ملصقا الرغيف في بطنه، الطرقات ملآى، لا شيء سوى الوجوه التي لا أريدها، أخذت دربا ترابيا نحو حارة جيدان، وصلت إلى المقبرة، استدرت عائدا بخواء مقيت.
صعدت إلى المقهى مرة أخرى، تلقي المصادفات في أتونها كل شيء، جالس على ذات الطاولة التي كنت أجلس عليها، سرت نحوه بجرأة لا تحد، وضعت المجلة أمامه على الصفحة ذات القصيدة، رفع رأسه نحوي وكأنه لم يرني، غادرته مسرعا، لا أعرف ماذا يعتمل في ذاته، حرارة ذاتي متصاعدة، هويت إلى سيارة الأجرة، بدا لي أنه استوعب جيدا مقاطع صوتي تصل إليه رغم ضجيج سيارته الهرمة: وادي حطاط، مستشفى ابن سينا.
- تعمل هناك؟
- لا.
- تراجع المستشفى؟
- لا.
- سلامات؟
- هل تعرف السيد سعيد؟
- لا.
- هل تعرف شعبان بائع الحلوى؟
- لا.
- هل تعرف سعيد النوبي؟
- لا.
- سلامات؟
كانت طريق وادي عدي غاصة بالزحام، الظهيرة تلفحنا بشمسها التي تكاد تذيب الصخر من حولنا في الوادي المتسع حينا والضائق بأنفاس السائرين على دربه أحيانا.
نظرات السائق بطرف عينه لا تحتاج إلى تفسير، أشعر به يفكر في السيد سعيد وشعبان بائع الحلوى وسعيد النوبي، وددت لو ألقمته أسماء أخرى يتسلى بها المسافة المتبقية على وادي حطاط، التقت عينانا في اللحظة ذاتها التي كنا نحاول استكشاف بعضنا البعض بنظرة خاطفة دون أن يفطن أحدنا لما يحدث من الآخر.
- هل تذهب دائما إلى المستشفى؟
- لأراجع؟
- لا، أو بالأحرى لا أعرف.
- هل تبدو على وجهي علامات أنني...
- يا رجل، كلنا مجانين، من في هذه الحياة يمكنه التمسك بعقله؟! لو هناك فائدة لقلت لك أنني أريد موعدا مع طبيب هناك.
- لماذا؟ ما هي مشكلتك؟
- أعمل ليل نهار لأسدد دينا كبيرا للبنك؟
- ولماذا استدنت؟
- لأشارك في محفظة، لعنة الله عليهم، أكلوا أموالنا، وماذا نالوا من جزاء؟ أقصد ماذا يهمنا أن يسجنوا طالما أن أموالنا لم تعد إلينا؟! لعنة الله عليهم، عسى جهنم تحرقهم.
أحس السائق بطلبي، لم يناقشني، أوقف سيارته قبل الدخول في دوار وادي حطاط الذي بدا لي بعيدا تحت وهج الشمس، لم يمهلني لأفتش له عن أجرته، أبقاني واقفا على الرصيف، تبعته بعيني، استدار عائدا من الدوار، مرق جانبي وهو ينظر إليّ، لم أتبيّن ما يقوله وجهه.

9

المساء يعود بي، مرهقة روحي، مرهق جسدي، أرتق وجع أحدهما بآلام الآخر، بي قرف بالغ الحدة من الأوبة للغرفة الخانقة لروحي وجسدي، عدت إلى الشارع البحري، النوارس قبل الغروب تطلق جناحيها للريح، وودت لو أكون نورسة هائمة في هذا الفضاء، تعيش بين زرقتي الماء والسماء، أكثيرة عليّ هذه الأمنية؟!
استعدت الأمكنة الصاهدة في هجير الأوراق، البحر الممتد حيث ارتحلت السفن بالسلطان وبالأحلام، هناك غاص في حلمه حدّ الغيبوبة، من بقعة ما جاءه جوهر، نحو بقعة متناهية البعد حمله كضوء من الحلم.
يد تمتد إلى كتفي لتيقظني من سبات أحلامي، كانت يده، المجلة التي أعطيته إياها، في برهة غاب، اختفى الوجود الذي أدفن فيه وجودي، شعرت أن بين صفحات المجلة أوراق ليست منها، فتحتها، كان بها أوراق بدت لي كقطعة خشب أخيرة لغارق، بين الكثير من العتمة والقليل من ضوء المكان تلمست الحروف عليها:
"سألني سيدي السلطان: هل ستتبعني مرة أخرى في ذهابي لتلك البلاد اللابعيدة؟، مركبي النجمات الثلاث يروح ويغدو إليها، حاملا أخباري وهداياي إلى هناك، وعائدا إليّ بأخبار مملكتي الأفريقية، إن أردت الإسراع فاذهب معه، أو لتترقبني بعض الوقت.
جاءتني كلمات سيدي السلطان من حيث لا أدري، وشعرت بألمه من إصابة قديمة في رجله لحقته في معركة، ويا لكثر حروبه!.
وركبت معه بعد حين من الزمان..
يا بني هيّا، البلاد هناك تنتظرني، وعمان لا يقرّ لها قرار، وابني ثويني مجرب للحروب عارف بأخبارها، وسيكفيني شرور الفرس وفتن القبائل.
الكلمات تئن، حزينة لكنها لا تشي بانكسار العظيم..
قال إنه ودّع أمه بحزن من يخشى ألا يكتب الله لها عمرا فيراها مرة أخرى، رأيت على ظهر السفينة ألواح توابيت لا أدري سرها، شعرت بهمسه في أذني: أخبرتهم أنه من يمت على السفينة لا ترموه في البحر، احملوه إلى زنجبار، وادفنوه في تربتها، لها رائحة الزعفران والأرض المبتلة بالمطر.
وركبت حيث أمرني، وسرنا حين شاء وكيفما شاء، رأيت ألمه ظاهرا، وخشيت مقاديره وأقداري تلحقني في حله وترحاله.
ومع كل صعود لشمس من فم الماء كان ألم سيدي السلطان يشتد، وفي كل هجوع لشمس يوم أشعر أنه يزداد توجعا، خذلته قدمه فلم يعد يستطيع المشي، في زاوية من السفينة يمضي وقته جالسا، عين على اليابسة التي وراءه كأنه لا يزال يراها، وأخرى صوب يابسة تبدو أبعد من الاعتياد، سمعت أسماء أولاده وخاصته لكنني لا أكاد أرى إلا إياه، لا أشعر إلا بألم يبتغي إخفائه إلا أن الألم يصرخ بصوت ليس هو صوت السلطان، والبحر بدا أشد قتامة حتى في أشد ساعات النهار شمسا، والليل ليس هو الليل في سكينته الهانئة ونسماته التي يحبها سيدي السلطان.
السفينة قارّة من الحزن تمشي فوق دمع لا تكف ملوحته عن التصاعد باتجاه حلوقنا.
أنام فأرى نفسي أهذي، وأصحو فأرى روحي تقاوم هذياني.. ينسل الألم من جسد السلطان فيحل في أرواح متكاثرة حوله، نظرات السيد برغش حائرة بين الجسد المضنى والماء.
بين دوار البحر ودوار الذات ودوار التوجع تتقاذف روحي، ألم سيدي السلطان يأتيني كانفجارات تتساقط في عمقي، أذهب إليه، أقترب منه، الكبرياء في الوجه الممتحن، يقول يا بني اقترب مني لأحدثك عن بلاد ستتيتم إن فقدت أباها، أنا أباها فصدق ما أقول، ألمي قاتل، والدواء محال، والأجل يدنو، وفي الألسن أدعية لا تتشابه، منها يريد مني العودة لبيت الساحل، وأخرى لأحد التوابيت التي جئت بها من عمان، كأني بجسدي يهوي إلى قاع البحر في المسافة بين جناحي مملكتي، ستبكيني أعين أقوام وتبتهج أخرى، وستختلف البلاد عن البلاد.
يذهب في غيبوبة من الألم، وأدافع عن روحي غيبوبة قاتمة، أراني أتمعن في الجسد المبلل بالعرق أمامي، تدفعني الأيادي عنه، يدافعون عن أنفسهم عجزهم دون الموت المحلق كطائر بغيض فوق رأس سيدي السلطان، تدفعني غيبوبتي نحوها، ورأيتني أقف تحت المطر أواجه العاصفة أستمع لصياد عجوز يقسم أنه رأى أسطولا يقترب من اليابسة لولا أن المطر والريح حجبته عنه.
.. ومرة أراني على قارب تعصف به الريح بجانب السيد ماجد نرجو البحر أن يبين عن أسطول يحمل السلطان ومن معه.
.. وحينا أقف على رأس السلطان ينازع الموت، وجرحه يدفع إلينا بألم قاتل، فكيف بحامله؟!
ورأيت برغش ينظر ذات اليمين وذات الشمال، عين على العاصفة والمطر، وأخرى باتجاه السلطان الغائب في موته، وفكرة تطلب من القبطان انتظار حلول الليل أكثر فأكثر، ربما لييأس المنتظرون على الساحل المقابل والمستقبل، فجأة على يساري رأيت مستر جوهر، أسرّ إليّ بألا أصدّق كل ما سأسمعه، ألا أكذّب كل ما سأراه، لم أفهم، فقال: الرؤيا ستقودك حتما.
أغيب في ضبابية الرؤية، في لحظات أرى نفسي في سفينة السلطان تناور العواصف كي ترسو، وفي لحظة من غيبوبة الحلم وحلم الغيبوبة رأيت السفينة على الساحل، السيد ملفوفا بكفنه، وابنه السيد برغش يحمله سرا إلى مقبرة المدينة، رأيت جنودا تضرب حصارها على بيت الساحل، وآخرين يحاصرون بيت السيد ماجد، والمدينة تنتظر ماجد.. خرج تابعا أسطول والده بين المطر والريح، لم يعد حتى الآن، وقيل أن برغش لا يدري أن البيت الذي يحاصره قد غاب عنه سيده.
باغتني جوهر بالحضور، وسألني إلى أين قادتني الرؤيا؟ استوضحته الأمر، سألني مرة أخرى:
- هل تصدق أن السلطان مات؟
- لكنني رأيتهم يدفنونه.
غاب جوهر..
تتبعت غيابه طويلا..
ذهبت إلى بيت الرأس، وحده الوحيد هنا في هذه الجزيرة، لم يكتمل بعد، بقي حلما مبتورا، البيوت الأخرى غارقة في فوضاها، فوضى اكتشاف أن السلطان الموحّد لها جميعا يمكنه أن يغادر هكذا فجأة، دون مقدمات فيستعدون، نساء وحرائر وأطفال وسادة وسيدات، نحو ألف في بيت المتوني، آخرون في بيت الساحل، في بيوت المقاطعات الأخرى، يبكون سيدا مات، محور حياتهم، كسائرين في صحراء يتتبعون نجما يهديهم فأفل فجأة، صعدت إلى ما تكوّن بنيانه في بيت الرأس، متخيلا السيد يرافقني، يقول أنه سيضع في هذه الغرفة كذا وكذا، وفي هذا المجلس سيكون له مجالس.
عجزت قدرتي على المضي في التواطؤ معي، أسندت رأسي إلى حائط، كانت الأشجار وماء المطر المنهمر بقوة والرياح تعصف بكل ما فوق الأرض، والحزن يتجول كشيطان بليد، ما عدت أقوى على النظر، وجدتني مغمض العينين كأنني أرى حلما ثقيلا، وفجأة انسحبت الأشياء من رأسي، حل فراغ قاس، قاس جدا، حاولت أن أبكي، أن أحرك لساني الذي بدا قطعة لحم ميتة في فم من جليد.
على البعد لمحت ناصر اللمكي، يحوم حول سور مزرعة والده، تبعه عدد من الخدم، الخوف استيقظ في المدينة، المجهول يبسط رداءه الأسود على المساحة الخضراء، وددت لو أسأله عن صاحبه خالد، كل الاتجاهات حولي مغلقة.

ما حكاه الحلم:

"فتح عينيه فجأة.. اقترب الخبّاز منه، ناوله رغيفا ساخنا أخرجه للتو من التنّور، قبض على الخبزة بقوة..
بدأ ببكاء مكتوم..
ارتفعت حدته، أخذ صوت البكاء يعلو، بدا نحيبا مرّا، كمن أدرك للتو موتا أحاق بمن يحب.
يا الهي.. ماذا يحدث؟
لا أعي من أمره شيئا، ولا من أمري..
وقف، اتجه إلى جسر الشارع البحري، حيث يمكن للبحر المروق إلى مدخل سوق مطرح، أخرج الكيس الأسود من صدارته، كان يملؤه من ماء البحر، يدخل يده إلى داخل الكيس يهرس الأوراق بيديه، يعجنها بالماء المالح".

ما قاله اللاحلم:
عندما عدت إلى غرفتي البائسة نهايات الليل عاندني بابها على الفتح، تذكرت بغتة نسختي من أوراق الكيس الأسود، من حيث لا أدري خرج من قال بأنه من مكتب عقاري يتولى أمر هذه الغرفة، أشار إلى كرتون ضم ملابسي، وإلى أن الغرفة نظفت بشكل نهائي من أدراني.. ومخلفاتي الورقية.
قبل أن يهبط السلم خروجا ناولني ورقة عليها استدعاء من محكمة، بضعة أشهر لم أدفع إيجارها، وفواتير عليها كلمات الإنذار بالقطع مكتوبة بحبر أحمر.
وفيما كانت السلالم تأخذه هبوطا أومأ إلى عداد الكهرباء الفارغ مكانه، وبصوته أوضح أن الأمر ذاته مع الماء..
قرأت الرسالة من المحكمة، قرأت فيها اسم صاحب البناية، لأول مرة أعرف اسمه: ناصر اللمكي.
لم يكن يعنيني شيء، وضعت الكيس الأسود في صدارتي، واتجهت إلى سوق مطرح، قريبا من الساحل، بعيدا عن.. كل شيء.
أنظر إلى قلعة الجبل، وإلى البحر، كأن المياه ودّعت للتو سفينة النجمات الثلاث، صعدت سلالم المقهى أنتفض من شيء ما، اخترت آخر طاولة كالتي جلس عليها آخر مرة، في طاولتي رأيت ما حسبته أنا، وقد شعرت أنني.. هو.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الإحالات:
مقال: عمان في الصحافة الأمريكية في القرن التاسع عشر للدكتور عبدالله الحراصي.
كتاب ألبوسعيديون حكام زنجبار (ألفه بالانجليزية الشيخ عبدالله بن صالح الفارسي قاضي قضاة كينيا).
تقسيم الامبراطورية العمانية: الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي.
سلطانه في نيويورك (أولى رحلات الأسطول العماني لأمريكا عام 1840) لهرمان فردريك أليتس.
مذكرات أميرة عربية (السيدة سالمة بنت السلطان سعيد بن سلطان – طبعة وزارة التراث والثقافة).
الأسطورة والتاريخ الموازي لمحمد الخليفة.
جهينية الأخبار في تاريخ زنجبار للشيخ سعيد بن على المغيري.
زنجبار في ظل الحكم العربي (1832 – 1890) لمصطفى إبراهيم الجبو.
مواقع على شبكة المعلومات العالمية (الانترنت).




                                                  عودة  






















ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق