بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأحد، 30 أكتوبر 2011

الثلاثاء 25 أكتوبر 2011م.



اللبنانية لنا عبد الرحمن وحرب تموز فى مختبر السرديات بمكتبة الإسكندرية

استضاف مختبر السرديات بمكتبة الإسكندرية يوم الثلاثاء 25 أكتوبر الروائية اللبنانية لنا عبد الرحمن، حيث ناقش الناقدان د.لبنى إسماعيل وشوقى بدر يوسف روايتها "أغنية لمارغريت".
وقد أكدت الروائية اللبنانية لنا عبد الرحمن أنها تكتب عن الإنسان ومشاعره العميقة بصرف النظر عن جنسيته أو نوعه أو دينه، كما أنها تكتب عن الحرب اللبنانية للمرة الثانية فى أعمالها الروائية بالإضافة إلى عدد من القصص القصيرة نظرا لما لهذه الحرب من تأثير كبير على الحياة والتاريخ اللبنانى، ولما لها من تأثيرات اجتماعية ونفسية تستحق الرصد الإبداعى، وأنها حريصة فى كتابتها على إدانة الحرب بكل ما فيها من عنف ودمار لأنه حتى المنتصر فى الحرب مهزوم، مشيرة إلى أنها اختارت مارغريت دوراس الكاتبة الفرنسية لتكون شخصية أساسية تتشابك مع أبطال روايتها لما لمارغريت من بعد إنسانى عميق ككاتبة ولما لحياتها من الثراء بحيث كان هناك تقاطعات ما بين بطلة رواية أغنية لمارغريت (زينب) وحياة مارغريت دوراس من حيث فكرة الحرب وخذلان الجسد، كما أشارت إلى سعادتها بلقاء مبدعى ومثقفى الإسكندرية الذين كانت تعليقاتهم ومداخلاتهم إضاءة جديدة حول الرواية بالنسبة لها.
أشار الأديب منير عتيبة المشرف على المختبر أن لنا عبد الرحمن قاصة وروائية لبنانية تقيم بالقاهرة، وهى حاصلة على درجة الدكتوراة عن موضوع السيرة الذاتية في الرواية النسائية اللبنانية، وتعمل حاليا نائب رئيس التحرير  بجريدة "صوت البلد" المصرية، ومسئولة عن تحرير موقع ثقافي إلكتروني بعنوان "نقطة ضوء" www.n-dawa.com، صدر لها مجموعتان قصصيتان هما "أوهام شرقية" و"الموتى لا يكذبون"، كما أصدرت ثلاث روايات هى "حدائق السراب" و"تلامس" و"أغنية لمارغريت"، بالإضافة إلى كتاب "شاطئ آخر" الذى يشمل قراءات نقدية في الرواية العربية. وأضاف عتيبة أن رواية لنا عبد الرحمن الجديدة "أغنية لمارغريت" لعبة روائية بديعة تعيد الكاتبة من خلالها تشكيل الزمان بانتقالات محسوبة بدقة وإن بدت غير ذلك بين الماضى والحاضر، حيث يوجد داخل الماضى حاضر متخفٍ، وفى الحاضر ماض يطل برأسه، وكذلك انتقالات فى المكان بين لبنان وفرنسا وأماكن أخرى داخل كل منهما، والأهم ذلك التماهى والتضاد فى الوقت نفسه بين بطلة الشخصية وذاتها، وبينها وبين الكاتبة الفرنسية الشهيرة مارغريت دوراس، وذلك التداخل بين السيرة الذاتية للكاتبة والجزء الروائى من عملها وبين السيرة التى كتبها حبيب مارغريت دوراس عنها والمتخيل الروائى للنا عبد الرحمن عن هذه العلاقة، كما تستخدم الكاتبة تقنيات سردية عديدة منحت عملها جمالية خاصة ربما أهمها الرسائل (الإميل) وتيار الوعى المتمثل فى صيغة الاعتراف التى تتحدث بها الراوية، بالإضافة إلى الراوى الذى يبدو محايدا فى بعض فصول الرواية، مما جعل حكى الرواية موزعا على أكثر من سارد بما يوحى بالتعددية وإن كان فى التحليل النهائى تشظى ذات تعانى فى ظل حياة تنهار بسبب الحرب فى لبنان وتداعياتها على المجتمع وناسه.
وفى درستها المعنونة "حلقات العزلة والوجود في ”أغنية لمارغريت“:  الكاتب و القارئ ولعبة الاستغناء" قالت د.لبنى إسماعيل: في رواية "أغنية لمارجريت" تشارك لنا عبد الرحمن القارئ في انبهارها بفكرة الهوية أو التكوين: كيف ينسلخ المرء من دوائر التشكيل الأولي لكيانه الإنساني في رحلة استكشافية لذاته وسر وجوده في صخب حياتي تملؤه الأماكن والوجوه و... الأحلام، ليحقق في النهاية ذلك الشعور المنعش بالاستغناء؟ كيف تحتفظ الذاكرة بأسفار تكوينها وما سجلته الذاكرة عبر الزمن وتنتقل بحرية من دائرة حياتية لأخري دون الوقوع في هوة الخوف من العزلة، والتهميش، والتلاشي وفقدان الاتجاه التي تهدد رحلات الاستكشاف الأولي للذات من ناحية، و أسر الرغبة العارمة في الانفصال عن زخم الواقع الذي يهدد رحلات التقييم النهائية من ناحية أخري؟ كيف يقف المرء في البداية والنهاية علي حدود التماس بين الدوائر دون أن يقع في أسر دائرة بعينها؟ ليس هناك إجابة واضحة، بل وعد بإجابة لا تتحقق إلا بممارسة القارئ لعبة الاستغناء. تلك اللعبة التي يتقاسم أدوارها القارئ وبطلة الرواية في فعل قراءة إبداعي مواز يعاد فيه بناء النص المقروء تارة (الحكايات المتداخلة في النص وعلاقة الواحدة بالأخري)، و بناء النص المكتوب تارة أخري (الاستمتاع بحنكة السرد وجماليات البناء الفني للنص). تتطلب اللعبة؛ كما رسمتها لنا عبد الرحمن ثلاثة مستويات من السرد، أو ثالوث سردي يتكون أولا من خطابات أدبية الأسلوب والصور توجهها زينب بطلة الرواية عبر أوراق مبعثرة وملفات رقمية تخفيها في حاسوبها الآلي لشخص يان أندرية عشيق مارجريت ديوراس (الكاتبة الفرنسية الشهيرة التي أحبت يان وهي في الخامسة والستين وكان هو حينها في الثامنة والعشرين واستمرت علاقتهما لمدة خمسة عشر سنة حتي موت الكاتبة في 1996)، ثانيا عالم زينب اللبنانية الذي يقدمة لنا راو عليم يتجول معنا في مكنون نفس زينب وعلاقتها بأسرتها المكونة من أم وأخين يغلف التجاهل والانفصال والتحقير علاقتهم بزينب، ومعانتها الشخصية وأسئلتها الوجودية أثناء الحرب الأهلية بلبنان 2006 (حرب تموز)، ثالثا عالم مارغريت ديوراس في الشهور الأخيرة قبل موتها بالسرطان، و يقدمه لنا أيضا راو عليم يطلعنا علي عذابات مارجريت الشخصية ومحاولاتها التحكم في الزمن ومقاومة خذلان الجسد وتراكم الذكريات. و في محاولة للإمساك بتلابيب هذا الثالوث، والبحث عن فضاءات التلاقي، وجمع أشلاء المتشابهات، والنظر المتلاحق للعوالم السردية المختلفة من خلال العدسات السردية المتتالية (يان ثم زينب ثم مارجريت، ثم يان وزينب ومارجريت، وهكذا) يدخل القارئ لعبة الاستغناء: تتشرذم وتتفتت (مؤقتا) هويته وكينونته وألفته مع الزمن الحاضر (زمن القراءة) ليجد نفسه -في نفس الوقت– داخل وعلي التماس مع الدوائر المختلفة لشخوص الرواية. تتوازي رحلة الاستكشاف والبحث عن الإجابات تساؤلات المنثورة هنا وهناك حتي تتضح الرؤية، وينتقل القارئ والبطلة معا من حيز الخوف من العزله التي يفجرها -عادة- انعدام البصيرة، وحيرة الرؤي والأفكار إلي حيز التوقع، توقع تجسد ما تشبح من رؤي وأفكار. وتصبح أزمة التكوين والتشكيل (زينب) والتعامل مع تراكم التفاصل وطغيان الزمن (مارجريت) رحلة اكتشاف وفرحة الفهم بتجسد الغامض من المعاني والدلالات. ويكتشف القارئ وزينب كما اكتشفت مارجريت من قبلهما أنه لا عزلة بالكتابة (أو ما حدث هنا، إعادة الكتابة) ولا عزلة بوجود الآخر، أو بالأحري حلول الآخر في نسيج أفكارنا. قد تبدأ لعبة الاستغناء بالغرق المؤقت في التفاصيل، ثم الاحتراق في محنة الفهم، ولكنها دائما ما تنتهي، كما أرادت الكاتبة، بـ"نوع من المشاعر لم تعرفه من قبل... تورد جلدها مثل رغيف خبز خرج توا من الفرن وكما لو كان الذبول والحيرة، و الخوف، جلد متهرئ تقشر عن طبقاتها السطحية وظهر لها جلد جديد.. نضر ومشدود"
كما أشار الناقد شوقى بدر يوسف إلى أن (يمثل العنوان فى رواية "أغنية لمارغريت" شفرة وعلامة مهمة لها دلالاتها الخاصة تسكن جسم النص وتعبّر عن واقع ما تمثله الإيحاءات الأولية والتأويل فى أسم كبير كأسم مارجريت دوراس فى الساحة الأدبية الفرنسية، وفى حدث غرائبى وغير مألوف كما هو حادث فى صلب ونسيج هذه الرواية، كما يعتبر الإيحاء الوارد بمضمون العنوان فى حد ذاته نصا مختزلا يحوى قراءة مقطرة لواقع النص قبل الدخول إلى حيز التفاصيل، وقد جاء النص منذ الاستهلال الأول على هيئة مستويات سردية تحمل داخلها بنية فنية ثلاثية الأبعاد متداخلة ومتقاطعة، كل بعد فيها له توجهه الخاص، وله رؤيته، وأفكاره، وله طريقته ونسقه الخاص، استهلت الكاتبة النص بهذه الخطابات التى كانت ترسلها الكاتبة الساردة، أو زينب الشخصية الراوية فى الرواية إلى "يان أندريا" عشيق مارجريت دوراس الشاب، تسرد فيه تداعى خواطرها وهواجسها الذاتية نحو هذه التجربة، تجربة الكتابة عن مارجريت دوراس فاتنتها الأثيرة، وكاتبتها المفضلة، لقد رحلت مارجريت دوراس فى الثالث من  مارس 1996، وكان بجانبها وقت الرحيل عشيقها الشاب، ويتوزع الزمن بعد ذلك فى نسيج الرواية بين زمن الرحيل إلى زمن نشوب الحرب فى الجنوب اللبنانى بعد ذلك بأربعة أشهر، فى تموز من نفس العام، إلى زمن الساعة الآنية، إلى الزمن الداخلى فى شخصية زينب، وتبدأ الأسئلة تتلاحق فى ذهن وخواطر وهواجس الساردة حول هذه العلاقة الملتبسة التى قرأت عنها زينب خاصة فى كتاب يان  أندريا الذى كتبه عن علاقته بمارجريت دوراس والذى جاء تحت عنوان "هذا هو الحب" وهى المعنية بكل ما يدور حول مارجريت دوراس من أمور وأحوال وأدب وقراءات وغير ذلك، هذا بخلاف ما تفرضه وشائج المشاعر المتقاطعة والمتداخلة بين كاتبة مشهورة تعيش أواخر أيامها فى عزلة تامة مع عاشق شاب مبهور بها فى سن أبناءها، ارتبط بها فى علاقة غرائبية غير واضحة المعالم، وشابة تعيش أجواء الحرب فى زمن أخر تمنح هذه العلاقة اهتماماتها الذاتية كطرف مشارك فى عزلة الكاتبة الفرنسية وعشيقها الشاب "يان أندريا"، هى تستدعى من الذاكرة مارجريت دوراس الفتاة الصغيرة التى عاشت جزء كبير من حياتها فى كمبوديا، كما تستدعى أسرتها التى كانت معها فى ذلك الوقت والمكونة من الأم المتسلطة والتى تعمل معلمة فى إحدى المدارس وشقيقها الأكبر المنحرف والذى كان كثيرا ما يضربها ويعتدى عليها لأتفه الأسباب، وشقيقها الصغير الذى مات فى ظروف غامضة، وعشيقها الفتى الصينى الثرى فى رومانسيته المفرطة، وكأن الكاتبة الساردة هنا كانت تتقمص شخصية مارجريت دوراس فى هذه العلاقة، حيث ثمة تشابه بين شخصية زينب وشخصية الكاتبة الفرنسية، فى جوانب كثيرة لذلك هى تقول ل "يان أندريا" فى رسالتها الأولى التى جاءت فى الاستهلال الأول للنص ": أكتب بحثا عنك، وعن مارغريت دوراس التى وجدت مكانها فى الكتاب.. أكتب كى اكتشف ماهية علاقتى بها، وبك، إذ كثيرا ما فكرت: لماذا أحبتك مارغريت دوراس وعاشت معك حتى لحظاتها الأخيرة؟ ظللت قربها، تساعدها على الرحيل بهدوء، وظلت تحبك. ( الرواية ص 5)، أما البعد الثانى من النص فيكمن فى هذه المتواليات النصية المتضمنة لمشاهد واقعية لوقائع ما يجرى عن الحرب وأهوالها فى هذا الجزء، المتضمنة قصف العدو الأسرائيلى للضاحية الجنوبية والشرقية من بيروت، ومحاولة انتقال الأسرة من منزلها فى بئر العبد إلى مكان آمن فلم تجد سوى شقة الخال الذى لا يجئ إليها إلا أياما قليلة خلال العام، وتشاهد زينب نزوج عدد كبير من السكان من أماكن القتال، إلى أماكن جديدة تكون أكثر أمنا، خاصة فى الحدائق الواقعة أمام البناية التى يسكنها خالها، وتبدأ الأسرة فى التعامل مع الوضع الجديد، كل بطريقته،الأم وسطوتها الخاصة فى التحكم فى كل شئ، الأخ الكبير وسام، المنحرف هو الأخر، والأخ الأصغر سامر، الذى كانت زينب تعطيه عطفها واهتمامها الشئ الكثير، وتنشط الذاكرة عند زينب فى هذا المناخ المأزوم ، فكانت ما تراه زينب أمامها من النافذة، هى أجواء الحرب الفعلية، ومشاهد الناس الهاربين والمهجرين من مساكنهم والقابعين فى الطرقات والحدائق وأفنية المدارس فى خيام أقاموها فى هذا المناخ المأزوم والعالق به كل البشر فى هذه المنطقة ": حين فتحت زينب زجاج النافذة صباحا، كانت تراقب استمرار الحياة عن كثب. أبصرت خيام النازحين، وقطعا من ثيابهم معلقة على أغصان الشجر، امرأة تطبخ على بابور الكاز، وبنت صغيرة تبكى لأنها صارت ترى العالم بعين واحدة، ولا تقدر على لمسه لأن الحروق تملأ يديها". (الرواية ص 25).
وفى مداخلتها حول الرواية أشارت الأديبة منى عارف إلى أن تختلف خطوط الرواية: بااختلاف التنقلات السريعة بها تقاطعات ثلاث بنى عيها هذا النص: التقاطع الأول كان الرسائل... التقاطع الثانى هو الأحداث المعاصرة، المكان  فى بيت الصنايع، مع الأم .. والأخ... وتضفيرة  رائعة مع بطلة الرواية الآخرى "مارغريت"، فيأتى التقاطع الثالث، مكملاً لحالة إنسانية فريدة فى عزلتها تعرف الصمت تقترب من السكون ترى وجه الله شفافاً... مثل غلاله غيم، نقياً وبريئاً... فرحاً كما يكون الفرح، وهل يكفى الحلم فى زمن الحرب؟ 


الجمعة، 21 أكتوبر 2011

الثلاثاء 11/10/2011


العذارى فى مختبر السرديات: المستقبل للأدب الرقمى




الثلاثاء 11/10/2011: نظم مختبر السرديات بمكتبة الإسكندرية لقاءً مع الناقد العراقى د.ثائر العذارى حول "الأدب الرقمي وتقنيات السرد الرقمية"، أدار اللقاء الأديب منير عتيبة المشرف على المختبر. تحدث د.ثائر العذاري  في محاور عدة تخص الموضوع مستهلا الحديث بقراءة ظاهرة الأدب الرقمي من خلال وضعها في سياقها التاريخي فيما يتعلق بالأدب العربي، مبينا المشاكل التي تواجه هذه الظاهرة الثقافية بالنظر إلى العادات القرائية المتأصلة في خبرة القارئ العربي وذائقته  المستندة إلى التراث الضارب في أعماق التاريخ.
ثم تناول الحديث مفهوم الأدب الرقمي من خلال النظر إلى تاريخ الأدب وتقسيمه على مراحل ثلاث؛ شفاهية وكتابية ورقمية، فالأدب الشفاهي هو الأدب الذي يكون الصوت عنصرا بنائيا في تكوينه. والأدب الكتابي هو الأدب الذي تكون تقنيات الكتابة من علامات ترقيم ومساحات السواد والبياض ونوع الخط وحجمه العنصر البنائي الأبرز فيه، أما الأدب الرقمي فهو ذلك الإنشاء الذي يتخذ من الوسائط المتعددة (الصو والصورة والفيديو) والروابط الألكترونية عناصر أساسية في بنيته بحيث لا يمكن نشره ورقيا.
وتحدث د.العذاري بالتفصيل عن فكرة أفق التلقي وكيف ستتغير في الفضاء الرقمي والحاجة إلى مدة من الزمن حتى يتمكن المتلقي من بناء عادات جديدة للتلقي تمكنه من تذوق هذا النوع من الأدب كما ينبغي.
وكان هناك تركيز واضح على وضع مفاهيم محددة للمنظومة الاصطلاحية التي تساعد على التعاطي مع الظاهرة الرقمية. إذ لابد من التمييز بين النشر الرقمي الذي لا يختلف عن النشر الورقي في شيء  والأدب الرقمي الذي لا يمكن نشره ورقيا على الاطلاق. كما أن هناك أدبا رقميا وأدبا رقميا تفاعليا يعطي القارئ فرصة المشاركة في بناء النص من خلال التحكم بالروابط التي تتيح ترتيب كتل النص باحتمالات متعددة.
وميز د.العذاري بين البناء الخطي للكتابة الورقية والبناء الكتلي للعمل الأدبي الرقمي، ففي الكتابة يكون القارئ مضطرا لأن يبدأ من الكلمة الأولى للنص وينتهي بالكلمة الأخيرة، بينما يتكون العمل الرقمي من مجموعة من الكتل النصية المرتبط فيما بينها بالروابط الألكترونية بحيث تكون للقارئ حرية التنقل داخل تلك الكتل بالطريقة التي يقررها هو.
وفي إحد محاور الندوة كان الحديث عن ما يمكن أن تضيفه الوسائظ المتعددة للعمل السردي متخذا من الترابط بين صورة ونص قصير مثالا على ذلك لبيان الحقول الدلالية لكل من العنصرين وكيفية تعاضدهما لبيان دلالة واحدة.
ثم عرض د. العذاري ثلاثة نماذج رقمية مع حديث موجز عن التقنيات المستخدمة في كل منها. تلك النماذج هب رواية صقيع للأديب الأردني محمد سناجلة وترنيمة من على شفة الفجر للكاتبة العراقية فاطمة الفلاحي وتباريح رقمية لسيرة بعضها أزرق للأديب العراقي د.مشتاق عباس معن.
وختم العذاري حديثه بالتنبؤ بنشوء نوع أدبي سماه (الومضة السردية) بدأت بوادرها بالظهور على صفحات الفيسبوك.. وعرض نموذجا لها من صفحة الكاتبة العراقية دلال جويد.
ثم أدلى الحاضرون بمداخلاتهم التي أغنت الموضوع وفتحت مداخل أخرى لمعالجته متفقيت على أن الأدب الرقمي لما يزل بحاجة إلى معالجات أخرى تتعمق في فهم بنياته الجمالية.
                                                     عودة 
                                      

بلاغة الكشف والتعرية في "استربتيز" لمختار عيسى بقلم: محمد عطية محمود






 "الحقيقة غائبة، ومربكة، وعارية، وإن اتشحت بأثواب متعددة"
م. عطية



في رواية "استربتيز"[1] لمختار عيسى، تبدو العلاقة بين الحقيقة، وآليات الكشف عنها، من خلال عدة محاور تتوازى وتتقاطع في نفس الآن؛ لتبرز جوانب عدة من أنماط المسكوت عنه، والتي تقبع في قاع مجتمع/ عالم واقعي، وتدور في كواليسه المغلقة، وبحيث تتضافر عدة عوامل مادية ومعنوية، ومن ثم روحية من أجل فك هذه المغاليق التي تتأتى من خلال عمليات الرصد الداخلي الدال على الوقوع في فخ الالتباس بين ما هو واضح وصريح، وبين ما هو متسربل في سمات حياة خاصة، تفضي بأي حال من الأحوال إلى العام المنشغل بقضايا بالغة الأهمية والخطورة، فمن خلال الالتحام بين الترجمة الذاتية التي ربما وثقت لواقع أليم، والتي يسوقها النموذج السردي، كتاريخ شاهد على حياة المسرود عنه المحوري، في سياق النص الروائي، وبين الواقع العام الدال على الوقوع في سياق حياتي/ نصي، يحاول إماطة اللثام عن مسكوت عنه، بإحداثيات وفعاليات وجوده، وانطلاقه في فضاء النص الروائي من خلال تفاصيل تبحث دوما عن الحقيقة، والتي قد تبدو من خلال شخصية الظل الغائبة، والمحورية في ذات الوقت، والتي تتوازى هنا مع مفهوم الحقيقة الغائبة، أيا كان سبب الغياب، سواء بالانتحار أو الموت كإطار عام للغياب، والتي تلعب هي/ سيرتها المروية/ المنقولة، والمكشوف عنها تباعا من خلال عملية التقصي، دورا محوريا، تتحرك الأحداث من حوله وتلتف بطريقة انجذاب الأطراف نحو القطب الأكبر، والذي قد يعطي النص الروائي جانبا مهما من جوانبه الملتبسة والمزدوجة، وهو الجانب الروحاني، الشفيف المحلق، الذي ربما فجر من داخل شخصية الظل هذه، عناصر للشخصية الأسطورية، تتعانق فيها ملامح القداسة وملامح الإيروسية، تلك التي تضرب في فضاء النص كملمح من ملامح الكشف والتعرية.. إلى جوار الإحداثيات التي تسوقها ممارسات الحياة، وعلاقات الشخوص المتحلقين حول تلك الشخصية، والمتوازيين معها في مضمار الحياة، والمتقاطعين معها، والمرتبطين بها ارتباطا يتراوح بين الجزئي والكلي، والسري، والمتضامن معها، والمخالف لها، وما ينتجه ذلك من علاقات أخرى، تتشعب في متن النص الروائي/ الحياة، لتعطي هذا الوهج الصارخ والمزيد من الحقائق المروعة التي تمس الشأن العام.. وكجزء من عملية البحث عن الحقيقة المطلقة التي تبدو غائبة أحيانا إلى حد اليأس، جلية أحيانا أخرى إلى حد التصديق والإيمان، مربكة في كل الأحوال، وضاربة في عمق الجدل، وإن توارت خلف حجب وأستار؛ فللحقيقة بريق ووميض، وانطفاء..

مفاتيح النص الروائي.. مفاتيح الحقيقة
تلعب الشخصية المحركة للنص السردي/ حركة البحث عن الحقيقة، دورا هاما في تجسيد عملية البحث على نحو من عملية التقصي الملتحمة بالآثار التي تخلفها شخصية الظل المنتحرة المثيرة للجدل، على النحو الذي تبدأ به آلية السرد، بضمير الغائب، الكاشف عن مخبوء النفس واعتلاجاتها، والتي تأتي اتكاءاتها السردية على مصادر التوثيق والخبر والحدث المتواتر أو المتناقل سواء من مشاهدات أو أحاديث وعلاقات مروية، وذكريات وأحداث موجودة في التاريخ الذهني لعقلها الباحث عن الحقيقة، وبما يقترب ويتسق مع عملها كصحفية بالمقام الأول:
"في ذلك الصباح قررت التفتيش في خزانة ملابس والدتها الراحلة؛ علّها تعثر فيها على ما يبرئها من هذا الترويج؛ فقد حملت "هالة" مذ شاركت صحافيا شابا كشف أبعاد المؤامرة التي أودت بالكادر الحزبي وبعض أعضاء المليشيات الثقافية في الصحف والفضائيات، ما لا تطيق الجبال حمله، وسكاكين الندم تقطع شرايين القلب كل يوم، ودمعات حوارق تكوي الخد الذي استعاد بعض تورده عقب ارتباطها بالصحافي الشاب" ص9
هكذا يدفع السرد بحركة الكشف من الوهلة الأولى، وهي العملية التي تسبق عملية التعرية التي ربما تميط اللثام عن العلاقات الدائرة في متن دائرة مغلقة ومستغلقة على ما فيها من مسكوت عنه، غامض ومثير، ولكنه مفتوح على آفاق شديدة الإيغال والعتمة، فتبدو هنا أولى علاقات النص بين الأم/ الحقيقة الغائبة، وبين الابنة/ الباحثة عن تلك الحقيقة، التي تتخفى آثارها في دهاليز علاقات مثيرة أخرى، تدفع بالمزيد من الشخوص للظهور على ساحة العمل الروائي من خلال وجودهم المثير والغامض في حياة حقيقية متعددة الأوجه، وذلك من خلال آلية تعتمد الوثيقة/ المخطوطة التي ربما ترجمت لعلاقة الذات الراحلة الغائبة مع العناصر التي تدور في فلكها:
"تقلِّب أوراق المخطوطة الروائية على عجل فتقع عيناها على أسماء لم تغادر ذاكرتها منذ حادث الانتحار.. "ميسون" الدمشقية، "هيمارا"، "رولانا"، وأسهم متشابكة رسمها "مراد" لعلاقات هذه الشخصيات بشيخ وحاخام، وجحظت عيناها حين التقطت أصابعها بين أوراق المخطوطة صورة ضوئية من شهادة طبية بحالتها النفسية المستعصية على العلاج، صادرة عن أحدى المستشفيات الجامعية وموثقة في السابع من يناير 2004" ص13
هكذا يوثق السرد لعملية الكشف من خلال تقارير وثوابت وتواريخ، تعمل على ترسيخ الحالة المرضية/ العلية التي أتت في أعقاب تاريخ من الجدل الثائر بين تلك الشخصية/ الظل وتداعيات الحياة، وإشكاليات وجودها على السطح، وليلعب الغموض دورا في تهيئة الساحة السردية للولوج في متن تلك العلاقات التي تميط اللثام تباعا عن تلك الإشكاليات التي تثيرها عملية الانتحار ودوافعها، أو الحالات التي أدت إليها على نحو من الالتصاق ببعض الشخصيات الأخرى التي تُعتبر من مفاتيح النص الروائي؛ فتبدو شخصية عالمة الذرة/ عمة الراحلة المنتحرة، على نحو من الازدواجية والانفصام، وكمفتاح من مفاتيح العمل الروائي، من خلال علاقة متشعبة مع "مراد" الزوج السابق للمنتحرة، وكنوع من التوثيق:
"ما كشف عنه فتح الصندوق الذي نسيته نهال في غمرة صراعها مع مراد وعاد به هو مع بعض ملابسها الخاصة التي تركتها قبل انفصالها عنه أغرب وأبعد مما يتوقعه آخر من يجهلون حقيقة الدكتورة، وموقفها الحازم في قضية الصراع النووي العربي الإسرائيلي؛ فالخطابات العديدة المتبادلة بين العالم الكبيرة والدكتور "زائيف شاغال" العالم الذي قتل بإلقائه من شرفة شقته في النمسا منذ عدة أشهر أخر ما يفكر فيه إنسان." ص34
يلعب هنا الصندوق المغلق دورا هاما في تجسيد المسكوت عنه في فضاءات أكثر اتساعا وأكثر قدرة على خلخلة الوعي العام، بقضية أزلية هي قضية الصراع مع العدو، وإن كان من خلال نمط مختلف عن النمط المعتاد الولوج إليه على المستوى الشعبي/ العادي، مما يميط اللثام عن العلاقات السرية التي تدور في كواليس الحياة العلمية والسياسية والاقتصادية، التي تؤدي بطريقة ما أو بأخرى في النهاية إلى التأثير البالغ على الإطار العام، وذلك من خلال علاقة منبثقة أخرى ورئيسة هي علاقة عالمة الذرة المصرية وعالم الذرة الإسرائيلي، ليضع النص علامة استفهام جديدة، تروم الكشف وإماطة اللثام.
 فشخصية "مراد" التي تشارك في عملية إماطة اللثام من خلال المخطوطة الروائية، هي نفسها شخصية فاعلة في المتن، وربما دار حولها المزيد من مناوشات الهامش الذي يعج بالعديد من الأطراف التي تلعب أدوارا تتفاوت أهميتها، بحسب وجودها على سطح الحياة وزواياها، فعلاقة مراد الأزلية بنهال، كارتباط روحاني شفيف، وكزوج تطفو على السطح بقوة لتعلن عن علاقة مزدوجة وملتبسة، تدفع بالمزيد من العناصر التي تؤسس ربما لعلاقة أسطورية قد تبدو من خلال مقاطع السرد التي تتواتر فيها اللغة السردية وتتداخل لتعطي مزيجا بين المجازي والواقعي، والتي تؤرجح العلاقة بينهما، فيما بين الروحاني والمادي؛ لتسم العلاقة كل فترة بسمة جديدة من سمات الالتباس والبعد عن أفق الحقيقة التي تروم التكشف والانطلاق، برغم العلاقة الروحانية الشديدة بينهما:
"كادت المفاجأة تطيح بعقل مراد الذي أرجحته الأفكار ذات اليمين وذات الشمال، حين وضع أحدهم بين عينيه صورة عن خطاب تعرض فيه نهال السكري تزويجه من "تسيفي" الإسرائيلية الحسناء العاملة في بار "بنحاس" في أحدى المستوطنات الجديدة والحصول على فرصة التجارة مع والدها "ناعوم بومارشيه"." ص61
 لتنحصر الشخصية المحورية في دائرة من أنماط الشذوذ الإنساني التي تجعلها نموذجا شائها، سواء على المستوى النفسي أو الاجتماعي أو الوجودي بصفة عامة، وبحيث تمثل نقاط الشذوذ وحالاته، علامات على الوقوع، والتورط في متاهة العلاقة بين الحقيقة وما حولها من هوامش مادية ومعنوية، تتجمع لتعطي الشخصية النسق الخاص بها والمميز، بغض النظر عن قدسيته أو العكس..

رؤى ومشاهدات وروحانيات
كذلك يأتي تجسيد الحالة من خلال عنصر آخر من عناصر الكشف الروحاني الذي يتواتر أيضا عبر مساحات الرواية للكشف من خلال صيغة الحلم/ الرؤية الكاشفة الدالة روحيا، أو الحالة الملتبسة بين الصحو والنوم ـ في الكثير من مواطن العلاقات الروحية على مدار النص ـ سواء من خلال ارتباط الروح بين الأم والابنة، حتى بعد الرحيل، أو ارتباط مراد روحيا أيضا بها، وهي الارتباطات التي تفرض نفسها في صور متعددة، فبين الشك واليقين، عادة،  تقع هذه الصور والمشاهدات
"لا تظلموا الموتى وإن طال المدى" رأت هالة أمها في ثوب أخضر تردد هذا الشطر من بيت المعري وهي تطل على ربوة عالية فيما انتصب خلفها مبنى شاهق وأحاط بها اثنا عشر رجلا في ملابس فضية.. تناديهم واحدا تلو الآخر فينكبون تحت قدميها ملبين، وسرعان ما ينفض الرجال إلى ربوة مقابلة لتهبط حية زرقاء مجنحة، ترقص وتصفق بجناحيها أمام "نهال" التي ظلت تقهقه ثم تتأوه في غنج واضح، ثم تلتحم بالحية في طقس جنسي غريب قبل أن تشهق شهقتين متتاليتين وتتلوى حول الحية التي بدا أنها جوليانا اليونانية الخبيثة التي ضبطتها هالة مع أمها أكثر من مرة في وضع مخل عقب طقس مألوف من قراءة في كتاب ضخم على غلافه برزت نجمة سداسية الأضلاع. " ص27
وبحيث تعكس هذه الرؤى الحلمية مدى حالة التورط والانغماس في شرك الالتباس نفسه الذي تثيره شخصية الأم/ ظلالها المتوحشة التي تطغى على النص السردي وعلى العلاقات المنفصمة الدائرة حولها في ذات الآن، والذي يشتعل في داخل الشخصية الباحثة عن الحقيقة، برغم التعاطف الشديد مع أمها/ تاريخها المفقود مع فقدان الحقيقة.
كما تعكسها العلاقة شديدة التعقيد على عدة مستويات بين شخصية نهال ومراد الروحانية التي يصل فيها مراد إلى حد الذهول والهذيان لارتباطهما الشديد، تلك العلاقة التي تستجلب في ثناياها علاقة مراد بشيخه الأخضر الذي ربما يرمز إلى الحقيقة المطلقة ـ  كرمز صوفي تتجلى معه أنوار الحقيقة ـ  في متن هذا النص، وهامش العلاقة بين نهال ومراد، ومتنها على حد السواء، وذلك من خلال المتخيل السردي التي تسوغه تيمة الحلم والرؤى المتواترة، والتي تطرح في ثناياها دوما صيغة المحاكمة والمعارضة لكل أحوال الواقع المرير، أو الوقوف أمام الذات أو الذات الأخرى التي تتعشقها:
" وجد مراد نفسه وقد أحاط به أربعة حراس غلاظ، في قفص حديدي مكعب الشكل، يردد بعض الأدعية التي لقنه إياها شيخه الأخضر قبل ساعتين من دخول قاعة المحكمة، بينما انتصبت نهال على منصة الادعاء، وبيدها عدة أوراق تلوح بها تجاه القاضي الذي تبين أنه الشيخ جالسا في المنتصف، تعلوه آية العدل، تحيط به بعض الكلمات العبرية، وإلى يمينه جلست هالة، وعن شماله زوجها " واثق". رعدات متتالية طوحت بجسده فيما صرخت "نهال" مشيرة إليه:
ـ نعم سيدي القاضي، أيها الشيخ الذي انتصب رمحا للحق، وارتقى مسالك الكشف، واحتشدت له الحنايا، وركعت لحكمته الحشود، أيها السامق المرتجى، والشافع المأمول، نعم يا سيدي، هذا هو القاتل الحقيقي.... " ص66
وما إلى ذلك من الشطحات التى تقع على الحدود بين الهذيان والحلم والكابوس، والتي تحتبل بها الحقيقة بأكثر من شكل من أشكال الإزاحة على الواقع، ومن خلال لغة سردية ترتقي لتحقق أعلى معدلات الدلالة، وأقربها إلى تجسيد المعنى المراد، من إماطة اللثام عن كنه هذه العلاقات التي تتكيء في وعي الشخصية على البعد الصوفي الغيبي، المشتغل على مساحة من النص، ومن وعي الشخصية، يستأثر بها، ويحضها على أشياء ويتراجع عنها، ويكون له في ضميرها سطوة السلطة المطلقة للحقيقة التي تعطي أطرافا منها بحساب، وتخفي أطرافا أخرى إلى حين، وهو ما مكن الشخصية الجدلية/ الافتراضية، التي يقوم بها الشيخ الأخضر/ المعادل للحقيقة في تجلياتها، من الاستحواذ على المشهد التخييلي المفترض في وعي/ لا وعي الشخصية المهزومة بفعل تداعيات واقعها وتشابك الوقائع بين المادي في العلاقات الخارجية، والروحاني في علاقته بنهال روحا وجسدا، وطيفا، ومعنى للحقيقة الغائية، والأسطوري المتجسد في شخصيتي "هيمارا/ مراد"، و"رولانا/ نهال" في اتكاء واضح على الأسطورة القديمة التي تحيل حياته جحيما يتشعب معه في تضاعيف النص الروائي الممتدة، بالرغم من التورط في الحس الموغل بخيانات نهال وورطاتها المفجعة على مدار الواقع المعيش، ووقوعها في وهدة المسكوت عنه من خلال علاقات شائنة تنحو منحى أيروسيا، بالإضافة إلى التورط في علاقات التطبيع مع العدو، من خلال تلك العلاقة الإيروسية الشاذة مع الفتاة اليهودية، والتي كشفت عنها ابنتها من خلال مقطع سابق، ليكتشفا معا دلائل الخيانة/التورط، كاملة في خضم البحث والتعرية لكل ما فاضح وكان مسكوتا عنه:
"لم يكن أقرب لمراد في بحثه عن دلائل خيانة نهال السكري إلا ابنتها هالة وإن كانت تتأرجح أحيانا بين موقفه الغريب الذي هدته على مدى أيام متتالية في المقابر وبين حديثه حين لا يخلو من قسوة جامحة عندما يجتر ذكرياته مع نهال خصوصا ما كان في الأيام الأخيرة قبل انفصالهما" ص91
لكنه يعود ليمجد قدسيتها، المنتزعة من رحم أسطورة جديدة/ قديمة، ويحيطها بهالة الروح الخالدة التي ترتقي بمستوى اللغة السردية مرة أخرى إلى حيز التحليق والترنم واصطياد شعرية المعنى ومجازه:
" رولانا.. أين أنت يا كبريائي؟ يا بهجتي المموسقة، ماذا فعل بك الملاعين؟ لم لا تردين أيتها لبهية؟ تعلمين أنه لا وجود لي بغيرك..كل شيء عدم.. كم أنت قاسية! من غرس في قلبك الشفيف حنظل الغياب؟ من روى حدائقك بالمهل.. قلتها لك في حضرة جنياتك، وقلتها لي على وقع ابتسامة شيخي الأخضر.. " ص116
ليعكس الموقف، هذا الازدواج في العلاقة بين الشخصية الواقعة تحت تأثير عشق الحياة/ الحقيقة المطلقة، المنتصبة بين شخصيتى الشيخ الأخضر، ونهال/ رولانا، في جدلية تتسق مع حالة الانفصام التي يعاني منها الواقع/ الحال العام، في التشتت وعدم تحقيق حد أدنى من الثقة في كل ما هو حقيقي، وهو ربما ما أدى إلى نوع آخر من الأسطورة الشعبية الآنية/ المصطنعة إلى حد كبير، كآلية من آليات التعامل مع الحدث والخبر والإشاعة، التي تتحول ربما إلى أسطورة في نطاق إطلاقها، حيث تعكس الإشاعة خبر ظهور/ تجلي، نهال/ الحقيقة على نحو ما يثير علاقة جديدة بين مراد وهذا الظهور الوهمي/ المستنسخ من حقيقة لا وجود لها، كعلاقة رولانا بهيمارا في الأسطورة القديمة واتساقا معها:
"ما كادت شائعة ظهور شبح نهال السكري يطوف عاريا في تجوال ليلي بأزقة الحي العتيق بالمدينة تخمد، حتى كادت شائعة عثور مراد على كنز ضخم، إثر مبيته ليلة إلى جوار قبرها تصلح الطعام الأشهي على موائد النساء في حديثهن إلى أزواجهن في الليالي القمرية من فبراير، وكانت لفائف الحكايات تتنقل بين الجارات في المشاوير الصباحية" ص82
فهنا يأتي هاجس الحقيقة، بتجردها من كل ما عليها من أسمال، يراود العقول والأفئدة والألسنة التي تلوك الحكايات، وتولد منها هذا الشغف للوصول إلى الحقيقة ولو على أنقاضها، وهو مما أعطى زخما معنويا لتأصيل ذلك المعنى من خلال هذا التنوع وهذا التنقل للمشهدية السردية التي تبرز قطاعات عدة/ شرائح من المجتمع، تقع في هذه الدائرة التي تلتبس فيها الحقيقة  بالإشاعة،  بما يمكن أن يفرزه الوعي الشعبي التحتاني..

رقصة التعري.. وسقوط أوراق التوت
ربما اندفعت حركة السرد في الرواية إلى ارتياد منطقة أشد إيغالا وعتمة وعمقا يحتاج إلى عملية التجلية، ورفع الحجب وكشف ستائر الأسرار التي تشعلها لعبة التعري، المتسقة مع مفهوم الرقصة الشهيرة الماجنة التي تلعب هنا دورا محوريا ودالا في تكثيف العهر السياسي والاجتماعي الذي يمارس على نطاق غاية في الخطورة، والأهمية، وهو من البراعة، من حيث يلاغة العنوان الدال للرواية على حالة الانغماس والتشظي والوقوع في جملة من التفسيرات الموحية للعنوان، والتي تجمع أطياف الموبقات في طياتها، لتقع الرحلة الأخيرة للنص في محال الخلاص واقتراب محاولة الكشف من منطقة بالغة الخطورة في متنه/ متن الحياة الملتبسة بوهم الحقيقة.
 إلا أن المدخل لهذه المرحلة الكاشفة، قد يمر بإرهاصات فكرية، ربما اتسقت مع حس الثورة على كل تلك الأمور المستغلقة على الوعي بشقيه العام والخاص على حد السواء، فالرواية هنا تقدم لنا الثورة ومقدماتها على مستويي الدلالة والواقع، من حيث هي مدخل لكشف ما وراء الكواليس السرية التي تعج بها الحياة السياسية والاجتماعية التي ربما وقعت تحت طائل عملية التطبيع مع العدو والتي تدار بطرق تتشابه إلى حد بعيد بالتنظيمات السياسية والقمعية التي تعتمد الفضائح والحياة السرية للشخوص، للدفع بها في بؤرة الصراع لصالح العلاقات غير المشروعة، فالحس الثوري كاستشعار/ استشراف من خلال قراءة الواقع السياسي والاجتماعي يبدو واضحا إلى حد بعيد ، كأحد الأدوات القادرة على تحريك المياه الراكدة، ومحاولة الإفاقة من السبات العميق الذي ينتاب المجتمعات وبضعها على شفير النار والمواجهة الحاسة، تميدا للكشف والتجلي:
" ما كان لي، وأنا الذي تربيت على مواقفك الوطنية وقصائدك إلا أن أكون في قلب الحدث في ذلك اليوم النادر، بين الناس البسطاء كما علمتنا. لا تتصور حالي وأنا أرى الجموع الهادرة تتدفق من الشوارع الجانبية كشلال هادر إلى قلب الميدان الفسيح.. لا يسأل أي منهم رفيقه عن هدفه، فقد جمعتهم المأساة، فانطلقوا هاتفين بسقوط الطغاة، وأصحاب الأردية السود وراء مصداتهم الفولاذية وخوذاتهم ، مرعوبون، يتراجعون، يصرخ فيهم كبيرهم، فيقذفون بأعيرتهم المطاطية الصدور العارية، لكن الناس لا يتراجعون، يركضون في اتجاه البنادق فينتكس الجنود ببنادقهم ومصداتهم.. " ص104
هنا يأتي الالتحام في الوعي الجمعي الرافض؛ لتبرز الثورة بكل معالمها، ومشهديتها  المجسدة الدالة على الصحو والقيام من السبات والوقوف في مواجهة الحقائق التي بدأت تتعرى من زيف ملابسها وأثوابها المتعددة، والتي تتكيء عليها الرواية لكي تلج العالم السري الذي تحاك فيه المكائد والمشروعات الخبيثة لتقويض أمان الوطن والوقوع في أسر العدو اقتصاديا وأمنيا، وهو ما يتكشف من خلال حركة البحث التي تقوم بها الشخصية المحركة أيضا " هالة" مع زوجها في رحلة للبحث في غمار اختراق وكر/ فندق  السيدة العربية/ البرنسيسة "جوهرة" التي تدير أمور هذا الفساد المسكوت عنه، من خلال طقوس رقصة الاستربتيز، التي تمثل قمة الفضح والتعرية في النص، في الحفلات الصاخبة والماجنة لمجتمع رجال المال والاقتصاد والسياسة في "دويلتها الفندقية" بحسب تعبير النص، وسط رتل من النساء العاريات تماما، وكما ترصد المشهدية السردية بعين هالة الباحثة عن الحقيقة، بتخفيها هي في متن الحفل:
"والبرنسيسة تمارس سباحتها من جسد لآخر، تدغدغ أعصاب هذه بلمسة نهد فتتأود، وتقرص أخرى من مؤخرتها؛ فتشهق، والحضور بين صائح ومصفق، فيما أحضر عبد أسود كلبين عظيمين أديا فاصلا من المضاجعة قبل أن تنادي البرنسيسة عليهما واحدا بعد الآخر بأسماء بعض الوزراء الذين تتابعت قهقهاتهم فيما تناوب الكلبان مضاجعة الوصيفات الست اللاتي اجتهدت كل منهن في الانتصار على رفيقاتها بعزفها الخاص الذي ينتزع آهات الحاضرين وتوجعاتهم." ص137
ومن خلال المشهدية الفاضحة المفجعة أيضا، والتي تفضح العلاقات الخاصة لشخصية الحقيقة الغائبة "نهال السكري"، من خلال عملية الرصد التي يقوم بها النص، حيث تبدو شخصية جوليانا ضمن الراقصات بالحفل بعرض خاص ملتهب، وبطولها الفارع:
" وكاد قلب هالة يتوقف عندما اكتشفت أن المرأة الفارعة بم تكن سوى جوليانا اليهودية اليونانية التي ضبطتها أكثر من مرة مع أمها المنتحرة نهال السكري في أوضاع فاحشة. وقرأت من الكتاب ذاته، وكلما حدقت في وجه امرأة منهن تتسارع أنفاسها، فلم تكن ترى إلا وجه أمها المنتحرة. " ص128
يضيق النص بالتحامه بتلك الملامح وتوصله إلى تلك الصيغ الدالة، الخناق على الحقيقة بشخصيتها الدالة عليها والمتورطة إلى حد كبير في تشويهها والعمل على غيابها وإن كان بحضورها، الذي كان غيابا بقدر ما هو حضور فاعل، بل كانت فاعليته تتمركز في الإغواء واللعب في دهاليز الفساد والإفساد والغواية التي لأغوت بها شخصية مراد، المتورط في حب الحياة/ الحقيقة التي لم تعطه ما أراد ولا بقدر عشقه لها..
كما تبدو نهاية شخصية  عالمة الذرة نادرة السكري، التي اتجهت الحقائق نحو إبراز وطنيتها وعملها على مساعدة الوطن بما تملك إلى جانب تفوقها العلمي في اصطياد وتجنيد زائف شاغال على نحو مما يخدم قضية الصراع النووي في المنطقة لصالح السلام، تبدو هذه النهاية مفجعة متورطة في مناخ الفساد والإمعان في غياب/ تغييب الحقيقة، أو موتها بموت من يملكون مفاتيحها، بعدما باحت بأسرار خطيرة تميط اللثام عن العديد من الحقائق:
" ولم تكن تظن أنها بمجرد أن تصعد إلى غرفتها في الطابق الثاني  سوف تسمع مصر كلها دوي الانفجار العظيم الذي لم يبق منها، ولا من فيلتها إلا شظايا متناثرة لم تفلح أجهزة الأمن والطب الشرعي والأدلة الجنائية في الوصول إلى نتيجة قاطعة حول ما حدث." ص154
كما تمثل عودة مراد من رحلته مع المرض والهذيان والحمى التي اجتاحته على أثر ما أوصلته حالة التوحد والاندماج الكامل مع شخصية رولانا / الحلم الذي يهرب إليه من وطأة عذابه مع تاريخ/ علاقة/ روح نهال الجبارة المتمكنة منه، وصولا لمرحلة الخلاص التي يبرأ فيها من شبح الحقيقة الجاثم على الصدر، ليؤكد النص على كون شخصيته مفتاحا هاما من مفاتيح النص، ومن ثم استكمال الدائرة المحكمة حول هذه الإشكالية من الصراع مع الحقيقة ضد الوهم وأرديته المتعددة التي تغلفها..

نهاية أسطورية دالة
"رأى مراد نهال السكري تخرج من أنقاض السرادق، والنار تأكل لحمها الذي بدأ يتساقط كقطع الثلج، أسرع إليها ملهوفا، خلع سترته، ولفها، لكن النار لم ترحمها.. تلفت يمينا فوجد شيخه الأخضر فاستنقذه، لكنه لم يستطع، بل زادت النار سعارها.. " ص188
تأكيدا على احتفاظ الحقيقة بحقها في التلون والبقاء والغياب والتدرج في مستويات الوجود والعدم، وتأكيدا على القيمة المعنوية لمعنى قمة اكتمال العمل في نقصانه، وربما عاشت نهال كأسطورة لها حق الخلود برغم خطاياها / خطايا الحقيقة وهو ما يبدو من خلال نهاية دالة للعمل الروائي الذي خاض بحور الشك واليقين على نحو من الالتباس، والتماس العديد من السبل لتأطير وتجسيد هذه الحالة من الغياب/ غياب الحقيقة أو موتها بالعديد من الإجابات الضمنية، سواء على مستوى المجاز كلغة وكمعنى على حد السواء، وهي النهاية التي تتسربل بالروحانية الشفيفة التي تنسجها أسطورة نهال/ الحقيقة التي توازت في تلك اللحظة تماما مع أسطورة رولانا، متمثلة في شجرة الكافور السامقة التي أطفأت هذه النار بأوراقها ـ كمعجزة وأن أتت في سياق حلمي ـ  ليحقق النص جزء كبيرا من معادلته الصعبة، والتي أتت على أثر عملية التطهر بالنار التي التهمت كل الخطايا، بحسب رؤية النص:
" وإذ بنهال تقبله مباغتة، ثم تنزل إلى النهر.. سلاما يا مرادي.. سلاما إلى حيث يجمعنا النهر من جديد انتظرني تحت شجرة الكافور السامقة عند مغيب الشمس وعند كل عيد.. " ص188   
ليطرح النص نهايته الدالة ليلتبس المعنى الدلالي لأسطرة الشخصية/ الحقيقة، وتقديمها في صورة مخالفة لما كانت عليه في واقعها الحقيقي، ربما إمعانا في إسقاط هذا المعنى الكوني الذي تتمتع به الحقيقة كفلسفة كونية، لأنها قائمة بوجوده تمتح من ديمومته فيما بين التجلي والاختفاء، وما بين الظاهر والباطن، وما بين ما هو نقي جلي واضح، وما هو غامض مغرق في سديميته، لتستقر في كل الأحوال على معنى الوجود، لتحمل أسطورتها وتمضى بالتباسها، وحيرتها، وانشغالنا بها أينما ذهبت وأينما حلت.. 

محمد عطية محمود
الإسكندرية
19/6/2011


[1] ـ استربتيز ـ  رواية ـ مختار عيسى ـ كتاب "مرايا الروائي" ـ 2010  






                                                    عودة 


"استربتيز" تعري الواقع السياسي وتتنبأ بأحداث الثورة


بقلم: أحمد فضل شبلول

استطاع الفن الروائي أن يستلهم أحلام الجماهير في التغيير، وأن يتوقع ما سوف تأتي به الأحداث الجسام التي تهب على المنطقة العربية، وما يواكب ذلك من إرهاصات ومخاضات ورؤى من خلال واقع متشابك سياسيا واجتماعيا واقتصاديا.
وآية ذلك رواية "استربتيز" للشاعر والكاتب مختار عيسى التي صدرت في سبتمبر/أيلول 2010، أي قبل قيام الثورة المصرية بحوالي أربعة شهور.
ونقتطع هذا المشهد من الرواية (ص 104، 105) لنرى كيف تطابق تماما مع ما حدث في ميدان التحرير أيام ثورة 25 يناير:
"لا تتصور حالي وأنا أرى الجموع الهادرة تتدفق من الشوارع الجانبية كشلال ثائر إلى قلب الميدان الفسيح .. لا يسأل أي منهم رفيقه عن هدفه، فقد جمعتهم المأساة، فانطلقوا هاتفين بسقوط الطغاة، وأصحاب الأردية السود وراء مصداتهم الفولاذية وخوذاتهم مرعوبون، يتراجعون، يصرخ فيهم كبيرهم، فيقذفون بأعيرتهم المطاطية الصدور العارية، لكن الناس لا يتراجعون، يركضون في اتجاه البنادق فينتكس الجنود ببنادقهم ومصداتهم. يعاود كبيرهم الصراخ الهستيري فيحاولون التقدم مرة أخرى وسرعان ما تدفعهم الجموع الحاشدة إلى التقهقر، فيما يحاول بعضهم الهرب إلى تحت درج بناية، أو وراء سور من جحيم الهدير الذي علا في الميدان، فيما اعتلى شاب عاري الصدر أحد أعمدة الكهرباء ممسكا رغيف خبز أشبه بوجه مسخوط، يلوح به للجماهير التي علا زئيرها عندما سقط ثلاثة شبان تحت وابل الرصاص المطاطي وسحب الدخان القاتمة. تطلع أحدهم إلى السارية التي تنتصف الميدان تعلوها لافتة إعلانية ضخمة عن تسهيلات كبيرة لشراء الفيلات الحديثة في مدينة سياحية برعاية برلماني شهير تصدر اللافتة بصورته ممسكا بمفتاح ضخم يلوح به: تملك إحداها ولا تتردد .. مع حزبنا أنت في أمان.
بسرعة البرق كان الشاب قريبا من الصورة، أخرج مطواة من جيب سترته وراح يمزقها. نادته الجموع المحتشدة المتحلقة ليهبط، فتتشارك الأيدي المعروقة والشابة في خلخلة السارية لتسقط تحت التهليل والتكبير، وسرعان ما غمرها بحر الهائجين، وتحت وطء الأحذية تبصق عليها الأفواه، وسط دهشة الضابط الكبير الذي ألجمته المفاجأة؛ فشلت كل أفكاره الأمنية، ولم يعد قادرا إلا على الإشارة كالأبكم إلى قواته التي تراجعت إلى الخلف، ولم تفلح محاولاته الصراخية المبحوحة في تقدمها ولو خطوة واحدة في اتجاه الحشد المتحلق الصورة. وما كاد الضابط الكبير يفيق من صدمة إنزالها ووطئها بالأقدام حتى فاجأه انضمام بعض أفراد كتيبته إلى الجموع الهادرة حولها، ومشاركتهم بأحذيتهم الثقيلة في تحطيم اللوح المعدني الذي استقرت عليه، فيما راح سناكي بنادقهم تمزق الوجه والصدر وتطعن القلب ..".
هذا مقطع من مشهد كبير للثورة في الميدان، كما تخيلها وتوقعها ورآها واستشرفها مختار عيسى، ويزيد الكاتب الصحفي "واثق" ـ أحد شخوص الرواية الأساسيين ـ المشهد سخونة عندما يشرح لأستاذه الصحفي الكبير مراد الذي يعمل في إحدى جرائد العاصمة البحرينية "المنامة"، قوله: كأن الجماهير تواجه قوات الاحتلال الإنجليزي في عشرينيات القرن الماضي. لم تكن مجرد مظاهرة أو غضب محدود خرج عن السيطرة.. كانت ثورة.
فيسأله مراد في تعجب: ثورة؟ فيجيب واثق: نعم ثورة، تتساقط الضحايا، لكن الجموع لا تنهزم، تتقدم وتتقدم، يتحول الرصاص المطاطي إلى قذائف حية، ولا تراجع، كأن قوة أسطورية تدفعهم .. النساء والشباب والأطفال .. موظفون كبار، وباعة متجولون، وطلاب جامعات ومدارس، وحرفيون. الكل .. لا خراطيم المياه المسددة إلى صدورهم، ولا العصي المكهربة، ولا الصيحات الزائرة والوجوه الجهمة أفلحت في صدهم .. حمم من كل صوب تتساقط عليهم، ولا يتراجعون. يتساءل الضابط الأكبر عن قائدهم، فلا يجيبه إلا خرس معاونيه والرعب البادي على ملامحهم، تتوالى تعاليمه بتصعيد الضرب والاقتحام، فلا يجد إلا الحناجر الهادرة تتساقط عليها كسفا من الحميم.
على أن رواية "استربتيز" لم تكن تهدف إلى تقديم مشاهد من الثورة التي حدثت بالفعل فقط، ولكن هناك خلطة سياسية أخرى غير خلطة الفساد المعروفة، أو ملف آخر غير ملف الفساد المالي أو الذممي، هو ملف الموساد الإسرائيلي الذي استطاع أن يجند بعض الشخصيات المصرية من وزراء ورجال أعمال وحزبيين وكتاب صحفيين ومثقفين تحت دعاوى التطبيع.
ومن هنا سنجد عمليات انتحار جراء انكشاف حقيقة شراكة مع بعض الوزراء المتورطين في ترويج ما وصفه البعض بالمخدرات التطبيعية. ومنهم المهندسة الشاعرة نهال السكري الزوجة السابقة للكاتب الصحفي مراد، والتي انتحرت من شرفة مستشفى الأمراض العقلية في العاصمة العريقة.
وقد ساعدت الصحفية هالة (ابنة المهندسة الشاعرة) زميلها الصحفي ـ وزوجها فيما بعد ـ "واثق مسعود" في كشف أبعاد المؤامرة التي أودت بالكادر الحزبي وبعض أعضاء المليشيات الثقافية في الصحف والفضائيات.
ملف آخر في الرواية هو ملف عالمة الذرة المصرية د. نادرة السكري (عمة والدة هالة)، وعلاقتها بعالِم نووي إسرائيلي أشهر إسلامه من أجل الزواج بالدكتورة، فغيَّر اسمه من زائيف شاغال إلى عامر البشري، لتكتمل أركان الزواج والذي اتفقا على كتمانه عن الجميع، وعندما بدأ الشك والقلق يتسرب إلى نادرة السكرى بإسرائيليته توجهت لرجال الأمن القومي وأخبرتهم، واتفقوا معها على تكتم الخبر وأن تستمر في علاقتها الطبيعية به، وتخبرهم بكل جديد في هذه العلاقة، ولها أن تقلص علاقتها معه إلى الحد الذي تطيقه، خدمة لأهداف عليا.
ومن خلال ملف زائيف شاغال نعرف أنه عاش خمس سنوات كاملة في أحد أحياء القاهرة كصاحب لواحد من أكبر معارض السيارات، وغطت إعلانات معرضه مساحات زمنية لافتة في تلفاز الدولة الرسمي.
وكانت نادرة السكري تستغرب من قدرة زوجها الفذة وبراعته في التمثيل مرددة داخلها: خنزير .. حقير. رغم إظهارها عشقها له وتعلقها به. ومن ناحية أخرى هناك من كان يمدها بمعلومات كافية عن شاغال مؤكدا لها أنه لم يخدعها و"أنه صار عونا لنا لا علينا، وأنه آمن بعدالة قضيتنا، مشككا في شرعية دولته التي أشربوه حبها في كل موقف جمعهم به صغيرا أو كبيرا". ويبدو أن تلك المعلومات التي وردت عن شاغال صحيحة لأنه يُقتل في العاصمة النمساوية فيينا بإلقائه من شرفة شقته بالطابق العاشر في إحدى العمارات (وهنا نتذكر كيفية مقتل كل من سعاد حسني، وأشرف مروان في لندن).
ويكشف الصحفي واثق للدكتورة نادرة أنه التقى زوجها في لقاء إعلامي دولي وأبلغه العالِم الإسرائيلي الذي أعلن إسلامه أنه يحس بمتابعة حثيثة من قبل أجهزة وشخصيات يعرف علاقاتها المتشعبة بأجهزة أمنية واستخباراتية أوربية ذات صلة مباشرة برجال الموساد.
وتؤكد الرواية أن تلك اللقاءات كانت تتم تحت بصر وسمع رجال الأمن القومي المصري الذين استقطبوا واثق بعد لقاءات مشهودة مع شاغال، وتمكنوا من تزويده بملف هائل عن علاقات الدكتورة نادرة، وما عليه إلا استكمال الصورة بحكم علاقة القرابة.
ولكن لم يُترك الحال على ما هو عليه، ورغم دخول الأمن القومي المصري على الخط، إلا أن مصر كلها تسمع دوي الانفجار العظيم في فيلا الدكتورة عالمة الذرة المصرية، الذي لم يبق منها ولا من فيلتها إلا شظايا متناثرة لم تفلح أجهزة الأمن والطب الشرعي والأدلة الجنائية في الوصول إلى نتيجة قاطعة حول ما حدث، ويختفي واثق بعد ذلك.
ويربط رئيس تحرير جريدة "التحدي" شاهر الشاذلي تفجير الفيلا باختفاء واثق، ويتهم عددا من الحزبيين الكبار ورجال الأعمال أصحاب العلاقات التجارية مع إسرائيل بالتنسيق مع رجال الموساد في العمليتين، خاصة أن هناك من الصحفيين بالجريدة الذين يعملون في مساعدة بعض البرلمانيين المشكوك فيهم، وبعض رجال الأعمال. ومع ذلك فهناك من يمتلك ضميرا حيا من أبناء بعض المسئولين الكبار بالدولة الذين يؤمنون بالوطن ويتحمسون للكتابات الوطنية ومحاولة كشفها لكل هذا الفساد.
ملف آخر تعريه رواية "استربتيز" هو ملف البرلماني الكبير الذي تواطأ مع بعض الرؤوس الحزبية في الاستيلاء على عشرات الآلاف من الأمتار من أراض داخل الكتلة السكنية، وحوَّلها في أعوام قليلة إلى مجمع للفيلات الحديثة، وصار المرور من بينها حكرا على طبقته الاجتماعية الجديدة.
أما الملف الأخطر، والذي تمحورت حوله فصول كثيرة في الرواية، فهو ملف المعبد اليهودي بالمحلة الكبرى، الذي يوجد في حي الخوخة تحت مسمى "المعبد اليهودي الأستاذ".
وتتردد في الرواية أسماء حقيقية لاعبة بقوة على المسرح السياسي العربي، وأخرى رامزة، ومن الأسماء الحقيقية اسم السيد حسن نصر الله،  أحد الأسماء البارزة في مسيرة شفاء الكاتب الصحفي مراد من الأزمة النفسية الطاحنة التي مر بها، مشيرا له في إحدى أزماته وهلاوسه قائلا: "أنت السيد حسن .. نعم أنت هو .. أخبرني شيخي أنك ستزورني .. انتظرتك طويلا .. وها أنت ذا هو .. أليس كذلك؟ فيجيبه السيد حسن قائلا: نعم .. أنا هو. فيسأله مراد: ماذا تفعلون يا سيد مع أبناء القردة؟ أنت وجيشك أثبتما أن الملاعين أخوف من فأر.
ويتهيأ له السيد حسن نصر الله (ص 142) بعمامته السوداء وعباءته، وابتسامته الساخرة، ولكنته المعروفة برائها المحببة ذات الوقع الخاص على الأذن، فيدعوه مراد للجلوس بجانبه قائلا له: تفضل يا سيد .. اجلس إلى جانبي .. أنا أحبك، أنا من شيعتك، من أنصارك .. الملاعين يدبرون قتلك؛ فاحذرهم.
كما يُستعاد اسم الكاتب الصحفي عبدالحليم قنديل وما حدث له من اختطاف وضرب وتجريد من الملابس، على خلفية اختطاف مجهولين للكاتب الصحفي "واثق" ثم إلقائه مجردا من ملابسه في الصحراء، بعد أن أوسعوه ضربا وإهانة، وعندما تعرف زوجته "هالة" بما حدث وتخبر مراد يقول لها:
لا تحزني يا هالة .. هم الذين تعروا .. هم الذين سقطت ملابسهم قطعة قطعة، بل إنهم لم يكونوا وحدهم في رقصة الاستربتيز التي أدمنوها هم وبعض من يسمونهم الكبار منذ توقيع السادات اتفاقيته.
وتمارس جهات أمنية وبعض رجال الأعمال المتعاملين مع الكيان الصهيوني الضغط على الجريدة التي يعمل بها واثق ورئيس تحريرها الوطني شاهر الشاذلي، غير أنهما يتمسكان بخوض المعركة إلى النهاية قائلين: "هذه معركتنا لإنقاذ الوطن من قبصة اللصوص والخونة"، غير أن الأمر لم يقف عند هذا الحد، بل تتطور المواجهة بوضع قنبلة وإشعال النار في مقر الصحيفة في السبت الأول من يناير 2010، ومع ذلك لم يتراجع الصحفيان ومن يساندهما من شرفاء الوطن.
إلى جانب ذلك تفتح الرواية ملفات بعض المليارديرات من عرب الخليج ـ نساءً ورجالا ـ وما شابها من روائح فضائحية وعلاقات متعددة بأطراف دولية ومحلية فيما يتعلق بتجارة السلاح والمخدرات والرقيق الأبيض.
وتكشف الرواية في جرأة بالغة حكاية الملياردير الخليجي التي نشرتها بعض وسائل الإعلام الغربية المحايدة، فتعيد إلى الأذهان جانبا ليس هينا من شذوذه الجنسي، وسهراته المتعددة التي كان يجبر خلالها فنانات من الصف الأول على مضاجعة أشكال مختلفة من حيوانات مدربة أمام ضيوفه. وهنا يجد الصحفي "واثق" سببا لتفجير قنبلة صحفية من العيار الثقيل كاشفا عن تلك الشخصية العربية الكبيرة التي عثر على بعض المستندات التي تفضح دورها في خدمة أبناء صهيون، وتهدد مصير المدينة.
وتعيد الرواية الثقة في بعض ضباط مباحث أمن الدولة من خلال المقدم أحمد البرنس الذي يحاول أن يكشف سهرات ماجنة بجناح أحد الفنادق الكبرى القريبة من ميدان التحرير، تقودها البرنسيسة الخليجية جوهرة قائلا: "يا ربي .. من أنا إن لم أقم بما يمليه علي ضميري؟ وكيف أستحق أن أرتدي هذا الزي إن لم أكن أهلا له. هذه الدنيئة تضرب بتصرفاتها الشائنة كل تاريخي، وتنسف سجلي الناصع في خدمة ما قضيت عمري مدافعا عنه، رغم ما وضعوه في طريقي من عراقيل، وما نثروه تحت قدمي من مغريات"، مؤكدا أن المسألة تجاوزت الجريمة إلى محنة دولة، "دولة تموت في جناح سيدة بفندق، وسيادة تسقط على وقع كعبها العالي".
ويستطيع الضابط أن يتسلل ويرى بوضوح في إحدى تلك السهرات الماجنة، الرقص حول نجمة سداسية الأضلاع، وتراتيل مبهمة لمجموعة من الرجال يقرؤون في كتاب ضخم.
لقد رأت هالة ـ عندما اصطحبها الضابط أحمد البرنس مع زوجها الصحفي واثق إلى الجناح الفندقي بالعاصمة الكبيرة ـ وجه أمها المهندسة الشاعرة المنتحرة، في وجه امرأة ممن يرقصن حول النجمة السداسية، وأيقنت أن أمها كانت في يوم ما داخل تلك الحلبة.
الملفات التي تفتحها الرواية كثيرة كما نرى، ومعظمها ملفات سياسية، والبعد الاجتماعي لا يغيب عن الرواية، ويكون السادس من أبريل 2010 علامة فارقة حيث تصحو مدينة المحلة الكبرى على أنباء وصول وفد يهودي كبير إلى قلب الحي العتيق، وأن كبير التجار سيسلم الحاخام الأكبر أثناء الاحتفال المقرر إقامته قلادة رسمت عليها بالنقوش البارزة صورة الزعيم جمال عبدالناصر وهو يجفف عرقه بمنديله أثناء إلقائه خطاب التنحي الشهير، فيما حمل وجهها الخلفي صورة حاخام كث اللحية وضفيرتاه إلى جانبي خديه يقرأ من كتاب ضخم.
ووسط فرقعات الأضواء والألعاب النارية التي ترسم النجمة السداسية في عنان السماء، ومع عزف الموسيقى الذي يعلو هديره في الميدان الواسع قرب "المعبد الأستاذ" كانت الفرق الشبابية التي اجتمعت فيما بينها على "الفيس بوك" بتنسيق من مراد وزوجته مرام وهالة، قد اتخذت مواقعها وحبست أنفاسها انتظارا للحظة الصفر التي انضم فيها عدد كبير من ضباط الحراسة وقائدي الدبابات إلى كتائب الشباب التي راحت تجهز على كل رموز الاحتفال من مروجي التطبيع وأصحاب الصفقات المشبوهة، ومن لف لفهم من حزبيين كبار ومثقفين تملأ وجوههم الشاشات الرسمية ليل نهار.
هكذا تنفتح الملفات على بعضها البعض في رواية "استربتيز" للكاتب والشاعر مختار عيسى، والتي تعري الواقع السياسي والاجتماعي المصري والعربي، مستفيدا من تقنيات روائية تتسم بها الرواية العربية في مراحلها الأخيرة ومنها التكثيف، وقصر الفصل الروائي، والشعرية في بعض فصولها، وسرعة الإيقاع التي تجعل القارئ يلهث وراء الأحداث والشخصيات، فضلا عن مجاراتها للواقع وتوقعها أو استشرافها للأحداث الساخنة التي تلتهب بها المنطقة العربية.
إنها رواية أحداث وشخصيات، بالإضافة إلى أنها رواية وطن رفض السكوت على الظلم والإهانة والتوغل الصهيوني على يد بعض أبنائه الخونة، ولكنَّ شبابه والمخلصين من أبنائه رفضوا بيع البلاد لأبناء صهيون، لقاء مليارات الدولارات، وامتلاك الأراضي والقصور والعمارات الشاهقة والأرصدة الداخلية والخارجية.
ومن هنا تتواءم وتتماس ثورة المحلة الكبرى ورفض أهلها منح الحاخام مفتاحها، كما جاء في الرواية، مع ثورة 25 يناير التي انطلقت في كل أنحاء مصر رفضا للفساد والظلم الاجتماعي والقهر والاستبداد، متخذة من ميدان التحرير في العاصمة رمزا ثوريا ناصعا.
ولعلنا لاحظنا أن شخوص الرواية الرئيسية جاءت من الوسط الصحفي سواء مراد أو واثق أو زوجته وحبيبته هالة، ولعل عمل الكاتب نفسه مختار عيسى في البيئة الصحفية جعلته خبيرا بالمطبخ الصحفي وما يدور في كواليسه من أحداث وأسرار ومَنْ مع مَنْ ومَنْ ضد مَنْ في هذا الوسط الذي يستطيع أن يخترق ـ باعتبار الصحافة سلطة رابعة ـ الكثير من المناطق والأسرار، والقدرة على جمع المعلومات وتحليلها وتوظيفها لخدمة هدف محدد، وهو ما أدى إلى قدرة الرواية على الكشف والرؤية والحدس والتوقع.



                                           عودة 



الكاتب الأردنى صبحى فحماوى فى مختبر السرديات بمكتبة الإسكندرية






















       من اليمين : الناقد شوقي بدر يوسف و الكاتب منير عتيبة , الكاتب الأردني صبحي الفحماوي . 




الكاتب الأردنى صبحى فحماوى فى مختبر السرديات بمكتبة الإسكندرية

نظم مختبر السرديات بمكتبة الإسكندرية يوم الثلاثاء 14 يونيو الساعة السابعة مساءً لقاءً أدبيا لمناقشة رواية "الأرملة السوداء" للكاتب الأردنى صبحى فحماوى، يناقش الرواية الناقد شوقى بدر يوسف. صرح الأديب منير عتيبة المشرف على المختبر أن الروائى الأردنى صبحى فحماوى له ست روايات منشورة من أشهرها رواية "الإسكندرية2050" وخمس مجموعات قصصية وخمس مسرحيات، وقد صدرت روايته الجديدة عن دار الهلال المصرية فى شهر مايو2011، وفى هذه الرواية يستخدم الكاتب أشهر شخصيتين روائيتين فى التاريخ هما شهريار وشهرزاد لتحليل العلاقة الأزلية ذات الالتباسات العديدة؛ علاقة الرجل بالمرأة فى مجتمعنا المعاصر.




                                عودة 


طفل في الثانية عشر... وأزمة هوية! بقلم: أحمد الملواني


هل بالفعل كان لفيلم ماتريكس، ورواية ـ وفيلم ـ نادي القتال، كل هذا التأثير ـ الذي يراه كثير من النقاد والمثقفين ـ على تأسيس كتابة جديدة، تعني بالذات الممزقة، والهوية المفقودة، والعلاقة المبهمة بالخارج، باستخدام ألاعيب علم النفس، من أمراض عقلية، وثورات للاوعي؟
هذا التيار الذي فجره أحمد العايدي في روايته (أن تكون عباس العبد)، وجد صدا وانتشارا، فتعددت الكتابات في أوساط الشباب على ذات النسق.. ولكن هل الأمر هو محض تأثر برواية وفيلم أمريكيين؟ شخصيا لا أظن الأمر بهذه البساطة، فحتى بعيدًا عن الأدب، أو أي فنون.. في حياتنا اليومية كثرت أسئلة الهوية، في جيل يعيش تمزقا نفسيا بين متناقضات اجتماعية، وسياسية، واقتصادية، رسخت مفاهيم التطرف، فكانت لها الغلبة على أي وسطية أو سواء.
وفي روايته الأولى (أنا لست شريف)  ـ الصادرة عن مشروع النشر الخاص لمنتدى التكية الأدبي ـ يقدم لنا الكاتب الصغير إسماعيل خالد وهدان نفسه ببطاقة تعارف تفيض بالموهبة، ودلائل النبوغ المبكر. مقتحما هذه المنطقة الروائية المفعمة بالاضطراب والتشتت.
إسماعيل وهدان ـ المولود في أغسطس عام 1996 ـ فاجأني في هذه الرواية ليس فقط بسنه الصغير، ولا باقتحامه للون من الكتابة يحتاج إلى الكثير من الدقة والإحكام ـ وللطزاجة كذلك، لتقديم طرح مختلف عما كتب من قبل في ذات السياق ـ وإنما فاجأني حقا عدم إعتماده على سنه لاجتذاب القارئ، أو لتقديم نفسه تحت إطار الوصف الشهير (الطفل المعجزة)، بما يحتويه من دلالات تقييمية تعاطفية. فمن يتصفح الكتاب ـ الذي يتضمن مع رواية إسماعيل نصًا روائيا آخر لوالدته، الكاتبة إيمان الدواخلي ـ لا يجد فيه أية إشارة من قريب أو من بعيد لعمر الكاتب. ولكن هل أفاد هذا الكاتب؟ هل ربح هذا الرهان الصعب؟ فعند تقييمنا لنص يكتبه ابن الثانية عشر ـ تقريبا عمر إسماعيل وقت كتابة الرواية ـ بالتأكيد لن نكون متشددين في تقييمنا لفنيات الكتابة، أو اختيارات الكاتب لأحداثه، وأبطاله. سيكون هناك بالتأكيد قدر ما من التسامح مع سلبيات النص، إذا ما نجح الكاتب في إثبات موهبته. فهل أفاد إسماعيل التخلي عن هذه الميزة؟ هل قراءة نصه بموضوعية، ضمن أطار من معايير عامة، دون النظر إلى سنوات عمره المبكرة، كان في مصلحته؟
أنا لست شريف
يقدم إسماعيل وهدان في هذه الرواية، حبكة تعتمد على الإثارة، وتسارع الإيقاع، فالراوي ـ ذلك الذي نجهل اسمه ـ ومنذ الصفحة الأولى، ندرك أنه يعيش مشكلة ما، ذلك الابهام، والنقص في معرفته بذاته يحرك أحداث النص، فتطل أزمة الهوية وإدراك الذات علينا منذ المقدمة التي يضعها الكاتب على لسان بطله بضمير المخاطب، في خطاب مباشر موجه للقارئ، والتي يختمها بـ :
(تأمل الناس من حولك؛ لتعرف كيف أن عالمك هش.
أنت فقط آخر، لا يفكرون بوجوده أصلا، وليس لديهم احتمال بهذا.. ربما أنت أصلا ـ مثل أحدهم أعرفه ـ لا شيء.
بعد هذا اكره البشر جميعا (بما فيهم نفسك لو كنت بشرا)..
لتستحق أن تقرأ السطور القادمة.)
وهكذا يبدأ إسماعيل بإشراك القارئ في اللعبة؛ البحث عن الهوية. أن يكتشف حقيقة نفسه، ليستحق قراءة الرواية!
ثم يقدم لنا من خلال عشرة فصول مرقمة ـ في 105 صفحة ـ بطلا يعيش أزمة هوية مركبة، داخلية وخارجية.. مفتقدا لعلاقته السليمة بذاته، التي يبدو طوال الأحداث جاهلا بكامل خباياها. ومفتقدا كذلك لعلاقات سليمة بالمدركات الخارجية من زمان ومكان وشخصيات.
منذ البداية تطل علينا علاقة الراوي بصديق طفولته حسام، ذلك الذي تشكل في وعيه كنوع من المثل الأعلى، منذ لحظة تعارفهما في سنوات الطفولة. وهي الفكرة التي رسخها الكاتب في صورة بليغة.. حين يقول الراوي عن حسام:
(هو يسكن في الدور الثامن. قال لي أنه اختار أن تكون شقته في هذا الدور العالي، حتى يبعد عن الناس قدر المستطاع. بينما كنت أظنه دومًا اختار هذا الدور، حتى يتعبني في الصعود إليه...
...وصلت وأنا ألهث.. رأيت أمامي المصعد، فأحسست بالبلاهة...) ص19
هذا الجهد الشاق في الصعود ثمانية طوابق إلى صديقه ناسيا وجود مصعد، ذلك الفعل العبثي، إنما يصور ـ في رأيي ـ عبث السعي وراء المثل العليا، أو أمنيات الكمال.
وكذلك يؤكد هذه النظرة الاسترجاع الدائم الذي يمارسه الراوي لأقوال حسام، مسبوقًا في الغالب بالفعل: يقول حسام.. وكأنما هو نبي يلقي تعاليمه..
(يقول حسام أن أشبه الناس بالعباقرة هم الأطفال...) ص17
(يقول حسام أن النفس البشرية أعقد شيء في الوجود...) ص 33
(مازلت أتذكر أن حسام قال:
"قدّر الشيء، يكن كنزا لك!") ص79
يعود الصديقان ليلتقيا في الكبر، فتتجدد صداقتهما، مع عرض صعب الرفض يقدمه حسام لصديقه في بداية الأحداث؛ وعدا بتحقيق كل أحلامه بطريقة ما، لا يخبرنا الكاتب عنها سوى أن حسام يسميها اختراعا، ويحكي عن قدرتها على اجتذاب النجاح إلى صاحبه كالمغناطيس.. هكذا يدور بنا الكاتب في أول فصلين في أجواء تمزق داخلي بين القبول والرفض...
(ومن أنا حتى أرفض ذلك العرض؟
الشيء الوحيد الذي منعني من قبول عرضه هو أنه غير ممكن. هو ـ على حد علمي ـ ليس بالساحر، ولا الخارق حتى يقوم بهذا.. قال أنه يستطيع، وبطريقة علمية بسيطة) ص30
وتنتهي تلك الحالة باكتشاف غرائبي، فلحظة أن يقرر الراوي الذهاب إلى صديقه معلنا قبول العرض، يكتشف أن شقة حسام مهجورة منذ أعوام، وأن حسام ذاته لا وجود له!.. لتبدأ بعدها رحلة الراوي الممزقة بين الداخل والخارج، في محاولة لاكتشاف هويته وماضيه، يصارع فيها لحظات فقدان للزمن، ودفتر يوميات من طفولته لا يتذكر شيئا من الأحداث المدونة فيه، وأصدقاء ومعارف يعاملونه على أنه شخص آخر اسمه شريف. لتبرز من هنا الصرخة اليائسة التي اختارها الكاتب عنوانًا للنص. (أنا لست شريف)، فنفي الهوية ـ كما يتضح من نهاية الرواية ـ لا يؤكد بالضرورة على هوية بديلة. ومن هنا تأتي مراوغة العنوان، فنبرته الواثقة الزاعقة، لا تقدم حلاً لسؤال الهوية المطروح طول الرواية.

جرأة الكاتب لم تكن فقط في اختيار موضوعه، وإنما كانت في اختيار أسلوبا صعبا للسرد.. فالزمن في النص يكاد يكون مفقودا.. واستدعاء الماضي يسير بطول النص متضافرا مع الأحداث الآنية، وقد استخدم فيه الكاتب أكثر من شكل للاستدعاء..
1 ـ شكل التذكر العادي، وهو الذي أفرد له الكاتب في البداية مساحات واضحة، ومباشرة. فنجده في الفصل الثالث، ومع أول حالة لعودة الراوي إلى ماضيه يقول:
(فلنعد بالذاكرة إلى زمن مضى.. وتحديدا منذ عشرين عاما)!
هذه المباشرة تختفي بعد ذلك، ليفاجئنا الكاتب الصغير بقدرة متميزة على خلط الأوراق واللعب بالزمن، متحركا بحرية للأمام والخلف، بإيقاع يتسارع مع تقدم الأحداث وتسارع إيقاعها.
2 ـ استخدم الكاتب الرؤى المبهمة القادمة من الماضي في الحلم، وهي الإشارات التي تزيد الراوي تشتتا وارتباكا، وتحفز القارئ وتثيره لترجمتها، واكتشاف معانيها، قبل أن يحقق الكاتب هذا في نهاية الرواية.
3 ـ العودة بالزمن عبر صفحات دفتر يوميات يعثر عليه الكاتب من طفولته، لتتبدى له علامات استفهام أكبر عن هويته المفقودة.
قدم الكاتب كذلك مهارة فائقة في اللعب بالإشارات لتوجيه القارئ بطول النص، فهو يعتمد لإثارة قارئه على نثر احتمالات إصابة الراوي بفقدان الذاكرة، أو آلزهايمر كما يسميه الراوي صراحة:
(بدأت أشفق على مرضى آلزهايمر، إذا لم أكن ذاتي منهم) ص70
ليكون التفسير الأسهل لأزمة البطل الذي يبدو وكأنه في حالة نسيان دائم. ولكن الحالة تبدو مع تقدم الأحداث أكثر تعقيدًا.. لنكتشف أن الكاتب كان يلوح لنا طوال النص بفكرة الجنون، وبشكل آراه ذو دلالة مقصودة...
(كيف أرفض عرضه؟ هذا هو الجنون بعينه...) ص10
(سألت حسام يوما:
ـ هل أنا مجنون؟
ابتسم.. قال لي أنه لم يحن الوقت بعد...) ص17
(هل أنا من أحضر هذا إلى هنا؟
إن كنت أنا، فعليّ أن أدرك شيئا هاما بالتأكيد: لقد اكتمل جنوني!) ص81
وحتى اللعب على دلالات أكثر عمقًا، واتساعا؛ فالراوي كلما ركب سيارة أو وسيلة مواصلات ينقطع عن الوجود تماما حتى لحظة وصوله. بما في هذا من دلالات ثنائية: نقطة الانطلاق ومحطة الوصول. والتي قد تكون معادلا لثنائية الحياة/ الموت، وما بينهما من وقت مسروق.. لتتحقق بمغزى أعمق فكرة ضياع البطل في الزمن.
كذلك قدم إسماعيل وهدان قدرة متميزة على الاختزال، وهو اختزال مطلوب في نص كهذا يعتمد على سرعة الإيقاع. سواء الاختزال في الوصف، أو في الحوار..
(سألته وأنا أتلفت حولي:
ـ أين السيدة التي تسكن هذه الفيلا؟
قال لي في رتابة:
ـ لا يوجد أحد يسكن في هذه الفيلا!
(تبا! هل أصبحت هذه وظيفة البوابين؟)
قلت: كيف؟
ـ هكذا..
ـ لكن...
قاطع:
ـ أقول: لا يوجد أحد..
صرخت في وجهه:
ـ لكن أمي تسكن هنا.)

بالتأكيد نجح إسماعيل وهدان ـ في مناطق كثيرة ـ في القفز فوق صغر سنه، وقلة خبرته الأدبية والحياتية، وتقديم نص محكم بدرجة كبيرة، يدل على موهبة ووعي وذكاء.. ولكن نقاط الضعف في الرواية، تعيدني إلى السؤال الذي طرحته في البداية: هل أفاد الكاتب الصغير أن يخفي عمره عن القارئ؟ فبين مباشرة في اللغة أحيانًا، ونقص في رسم الشخصيات، يتجلى صغر سن الكاتب ونقص خبرته. فبالتأكيد قراءة الرواية عن وعي بعمر كاتبها، أكثر فائدة للكاتب نفسه، فهو يمنحه جوازا بالعبور على تلك السلبيات دون أن يهتز إعجابنا بموهبته.. فمثلا قد يكون من الملحوظ ـ حتى في الأجزاء التي استشهدت بها على محاسن النص ـ شيء من البساطة في اللغة ـ لن أقول الركاكة ـ خاصة في تركيب الجمل، واختيار الألفاظ.. وإن كان الكاتب لا يسأل عن الأخطاء اللغوية الكثيرة والملحوظة ـ للأسف ـ في النص، وإنما هو نقص المراجعة اللغوية قبل طباعة الرواية.

نهاية..
أختتم بجملة وردت في سياق الراوية، لها في رأيي دلالة عميقة على وعي هذا الفتى بعناصر عالمه الروائي، ودقة صياغته، حيث يقول على لسان البطل..
(ورأيت طفلا في الثانية عشر من عمره)
فمن غير المعتاد أن نجد مراهقا يسمي من هم في ذات عمره بالأطفال، بل هو شيء أشبه بالعار في وعي هذه المرحلة العمرية. ولكن المتحدث هنا ليس المراهق ابن الرابعة عشر إسماعيل وهدان، وإنما هو بطل الرواية، الذي قد يكون شريف.


                                       عودة