بحث هذه المدونة الإلكترونية

الجمعة، 21 أكتوبر 2011

بلاغة الكشف والتعرية في "استربتيز" لمختار عيسى بقلم: محمد عطية محمود






 "الحقيقة غائبة، ومربكة، وعارية، وإن اتشحت بأثواب متعددة"
م. عطية



في رواية "استربتيز"[1] لمختار عيسى، تبدو العلاقة بين الحقيقة، وآليات الكشف عنها، من خلال عدة محاور تتوازى وتتقاطع في نفس الآن؛ لتبرز جوانب عدة من أنماط المسكوت عنه، والتي تقبع في قاع مجتمع/ عالم واقعي، وتدور في كواليسه المغلقة، وبحيث تتضافر عدة عوامل مادية ومعنوية، ومن ثم روحية من أجل فك هذه المغاليق التي تتأتى من خلال عمليات الرصد الداخلي الدال على الوقوع في فخ الالتباس بين ما هو واضح وصريح، وبين ما هو متسربل في سمات حياة خاصة، تفضي بأي حال من الأحوال إلى العام المنشغل بقضايا بالغة الأهمية والخطورة، فمن خلال الالتحام بين الترجمة الذاتية التي ربما وثقت لواقع أليم، والتي يسوقها النموذج السردي، كتاريخ شاهد على حياة المسرود عنه المحوري، في سياق النص الروائي، وبين الواقع العام الدال على الوقوع في سياق حياتي/ نصي، يحاول إماطة اللثام عن مسكوت عنه، بإحداثيات وفعاليات وجوده، وانطلاقه في فضاء النص الروائي من خلال تفاصيل تبحث دوما عن الحقيقة، والتي قد تبدو من خلال شخصية الظل الغائبة، والمحورية في ذات الوقت، والتي تتوازى هنا مع مفهوم الحقيقة الغائبة، أيا كان سبب الغياب، سواء بالانتحار أو الموت كإطار عام للغياب، والتي تلعب هي/ سيرتها المروية/ المنقولة، والمكشوف عنها تباعا من خلال عملية التقصي، دورا محوريا، تتحرك الأحداث من حوله وتلتف بطريقة انجذاب الأطراف نحو القطب الأكبر، والذي قد يعطي النص الروائي جانبا مهما من جوانبه الملتبسة والمزدوجة، وهو الجانب الروحاني، الشفيف المحلق، الذي ربما فجر من داخل شخصية الظل هذه، عناصر للشخصية الأسطورية، تتعانق فيها ملامح القداسة وملامح الإيروسية، تلك التي تضرب في فضاء النص كملمح من ملامح الكشف والتعرية.. إلى جوار الإحداثيات التي تسوقها ممارسات الحياة، وعلاقات الشخوص المتحلقين حول تلك الشخصية، والمتوازيين معها في مضمار الحياة، والمتقاطعين معها، والمرتبطين بها ارتباطا يتراوح بين الجزئي والكلي، والسري، والمتضامن معها، والمخالف لها، وما ينتجه ذلك من علاقات أخرى، تتشعب في متن النص الروائي/ الحياة، لتعطي هذا الوهج الصارخ والمزيد من الحقائق المروعة التي تمس الشأن العام.. وكجزء من عملية البحث عن الحقيقة المطلقة التي تبدو غائبة أحيانا إلى حد اليأس، جلية أحيانا أخرى إلى حد التصديق والإيمان، مربكة في كل الأحوال، وضاربة في عمق الجدل، وإن توارت خلف حجب وأستار؛ فللحقيقة بريق ووميض، وانطفاء..

مفاتيح النص الروائي.. مفاتيح الحقيقة
تلعب الشخصية المحركة للنص السردي/ حركة البحث عن الحقيقة، دورا هاما في تجسيد عملية البحث على نحو من عملية التقصي الملتحمة بالآثار التي تخلفها شخصية الظل المنتحرة المثيرة للجدل، على النحو الذي تبدأ به آلية السرد، بضمير الغائب، الكاشف عن مخبوء النفس واعتلاجاتها، والتي تأتي اتكاءاتها السردية على مصادر التوثيق والخبر والحدث المتواتر أو المتناقل سواء من مشاهدات أو أحاديث وعلاقات مروية، وذكريات وأحداث موجودة في التاريخ الذهني لعقلها الباحث عن الحقيقة، وبما يقترب ويتسق مع عملها كصحفية بالمقام الأول:
"في ذلك الصباح قررت التفتيش في خزانة ملابس والدتها الراحلة؛ علّها تعثر فيها على ما يبرئها من هذا الترويج؛ فقد حملت "هالة" مذ شاركت صحافيا شابا كشف أبعاد المؤامرة التي أودت بالكادر الحزبي وبعض أعضاء المليشيات الثقافية في الصحف والفضائيات، ما لا تطيق الجبال حمله، وسكاكين الندم تقطع شرايين القلب كل يوم، ودمعات حوارق تكوي الخد الذي استعاد بعض تورده عقب ارتباطها بالصحافي الشاب" ص9
هكذا يدفع السرد بحركة الكشف من الوهلة الأولى، وهي العملية التي تسبق عملية التعرية التي ربما تميط اللثام عن العلاقات الدائرة في متن دائرة مغلقة ومستغلقة على ما فيها من مسكوت عنه، غامض ومثير، ولكنه مفتوح على آفاق شديدة الإيغال والعتمة، فتبدو هنا أولى علاقات النص بين الأم/ الحقيقة الغائبة، وبين الابنة/ الباحثة عن تلك الحقيقة، التي تتخفى آثارها في دهاليز علاقات مثيرة أخرى، تدفع بالمزيد من الشخوص للظهور على ساحة العمل الروائي من خلال وجودهم المثير والغامض في حياة حقيقية متعددة الأوجه، وذلك من خلال آلية تعتمد الوثيقة/ المخطوطة التي ربما ترجمت لعلاقة الذات الراحلة الغائبة مع العناصر التي تدور في فلكها:
"تقلِّب أوراق المخطوطة الروائية على عجل فتقع عيناها على أسماء لم تغادر ذاكرتها منذ حادث الانتحار.. "ميسون" الدمشقية، "هيمارا"، "رولانا"، وأسهم متشابكة رسمها "مراد" لعلاقات هذه الشخصيات بشيخ وحاخام، وجحظت عيناها حين التقطت أصابعها بين أوراق المخطوطة صورة ضوئية من شهادة طبية بحالتها النفسية المستعصية على العلاج، صادرة عن أحدى المستشفيات الجامعية وموثقة في السابع من يناير 2004" ص13
هكذا يوثق السرد لعملية الكشف من خلال تقارير وثوابت وتواريخ، تعمل على ترسيخ الحالة المرضية/ العلية التي أتت في أعقاب تاريخ من الجدل الثائر بين تلك الشخصية/ الظل وتداعيات الحياة، وإشكاليات وجودها على السطح، وليلعب الغموض دورا في تهيئة الساحة السردية للولوج في متن تلك العلاقات التي تميط اللثام تباعا عن تلك الإشكاليات التي تثيرها عملية الانتحار ودوافعها، أو الحالات التي أدت إليها على نحو من الالتصاق ببعض الشخصيات الأخرى التي تُعتبر من مفاتيح النص الروائي؛ فتبدو شخصية عالمة الذرة/ عمة الراحلة المنتحرة، على نحو من الازدواجية والانفصام، وكمفتاح من مفاتيح العمل الروائي، من خلال علاقة متشعبة مع "مراد" الزوج السابق للمنتحرة، وكنوع من التوثيق:
"ما كشف عنه فتح الصندوق الذي نسيته نهال في غمرة صراعها مع مراد وعاد به هو مع بعض ملابسها الخاصة التي تركتها قبل انفصالها عنه أغرب وأبعد مما يتوقعه آخر من يجهلون حقيقة الدكتورة، وموقفها الحازم في قضية الصراع النووي العربي الإسرائيلي؛ فالخطابات العديدة المتبادلة بين العالم الكبيرة والدكتور "زائيف شاغال" العالم الذي قتل بإلقائه من شرفة شقته في النمسا منذ عدة أشهر أخر ما يفكر فيه إنسان." ص34
يلعب هنا الصندوق المغلق دورا هاما في تجسيد المسكوت عنه في فضاءات أكثر اتساعا وأكثر قدرة على خلخلة الوعي العام، بقضية أزلية هي قضية الصراع مع العدو، وإن كان من خلال نمط مختلف عن النمط المعتاد الولوج إليه على المستوى الشعبي/ العادي، مما يميط اللثام عن العلاقات السرية التي تدور في كواليس الحياة العلمية والسياسية والاقتصادية، التي تؤدي بطريقة ما أو بأخرى في النهاية إلى التأثير البالغ على الإطار العام، وذلك من خلال علاقة منبثقة أخرى ورئيسة هي علاقة عالمة الذرة المصرية وعالم الذرة الإسرائيلي، ليضع النص علامة استفهام جديدة، تروم الكشف وإماطة اللثام.
 فشخصية "مراد" التي تشارك في عملية إماطة اللثام من خلال المخطوطة الروائية، هي نفسها شخصية فاعلة في المتن، وربما دار حولها المزيد من مناوشات الهامش الذي يعج بالعديد من الأطراف التي تلعب أدوارا تتفاوت أهميتها، بحسب وجودها على سطح الحياة وزواياها، فعلاقة مراد الأزلية بنهال، كارتباط روحاني شفيف، وكزوج تطفو على السطح بقوة لتعلن عن علاقة مزدوجة وملتبسة، تدفع بالمزيد من العناصر التي تؤسس ربما لعلاقة أسطورية قد تبدو من خلال مقاطع السرد التي تتواتر فيها اللغة السردية وتتداخل لتعطي مزيجا بين المجازي والواقعي، والتي تؤرجح العلاقة بينهما، فيما بين الروحاني والمادي؛ لتسم العلاقة كل فترة بسمة جديدة من سمات الالتباس والبعد عن أفق الحقيقة التي تروم التكشف والانطلاق، برغم العلاقة الروحانية الشديدة بينهما:
"كادت المفاجأة تطيح بعقل مراد الذي أرجحته الأفكار ذات اليمين وذات الشمال، حين وضع أحدهم بين عينيه صورة عن خطاب تعرض فيه نهال السكري تزويجه من "تسيفي" الإسرائيلية الحسناء العاملة في بار "بنحاس" في أحدى المستوطنات الجديدة والحصول على فرصة التجارة مع والدها "ناعوم بومارشيه"." ص61
 لتنحصر الشخصية المحورية في دائرة من أنماط الشذوذ الإنساني التي تجعلها نموذجا شائها، سواء على المستوى النفسي أو الاجتماعي أو الوجودي بصفة عامة، وبحيث تمثل نقاط الشذوذ وحالاته، علامات على الوقوع، والتورط في متاهة العلاقة بين الحقيقة وما حولها من هوامش مادية ومعنوية، تتجمع لتعطي الشخصية النسق الخاص بها والمميز، بغض النظر عن قدسيته أو العكس..

رؤى ومشاهدات وروحانيات
كذلك يأتي تجسيد الحالة من خلال عنصر آخر من عناصر الكشف الروحاني الذي يتواتر أيضا عبر مساحات الرواية للكشف من خلال صيغة الحلم/ الرؤية الكاشفة الدالة روحيا، أو الحالة الملتبسة بين الصحو والنوم ـ في الكثير من مواطن العلاقات الروحية على مدار النص ـ سواء من خلال ارتباط الروح بين الأم والابنة، حتى بعد الرحيل، أو ارتباط مراد روحيا أيضا بها، وهي الارتباطات التي تفرض نفسها في صور متعددة، فبين الشك واليقين، عادة،  تقع هذه الصور والمشاهدات
"لا تظلموا الموتى وإن طال المدى" رأت هالة أمها في ثوب أخضر تردد هذا الشطر من بيت المعري وهي تطل على ربوة عالية فيما انتصب خلفها مبنى شاهق وأحاط بها اثنا عشر رجلا في ملابس فضية.. تناديهم واحدا تلو الآخر فينكبون تحت قدميها ملبين، وسرعان ما ينفض الرجال إلى ربوة مقابلة لتهبط حية زرقاء مجنحة، ترقص وتصفق بجناحيها أمام "نهال" التي ظلت تقهقه ثم تتأوه في غنج واضح، ثم تلتحم بالحية في طقس جنسي غريب قبل أن تشهق شهقتين متتاليتين وتتلوى حول الحية التي بدا أنها جوليانا اليونانية الخبيثة التي ضبطتها هالة مع أمها أكثر من مرة في وضع مخل عقب طقس مألوف من قراءة في كتاب ضخم على غلافه برزت نجمة سداسية الأضلاع. " ص27
وبحيث تعكس هذه الرؤى الحلمية مدى حالة التورط والانغماس في شرك الالتباس نفسه الذي تثيره شخصية الأم/ ظلالها المتوحشة التي تطغى على النص السردي وعلى العلاقات المنفصمة الدائرة حولها في ذات الآن، والذي يشتعل في داخل الشخصية الباحثة عن الحقيقة، برغم التعاطف الشديد مع أمها/ تاريخها المفقود مع فقدان الحقيقة.
كما تعكسها العلاقة شديدة التعقيد على عدة مستويات بين شخصية نهال ومراد الروحانية التي يصل فيها مراد إلى حد الذهول والهذيان لارتباطهما الشديد، تلك العلاقة التي تستجلب في ثناياها علاقة مراد بشيخه الأخضر الذي ربما يرمز إلى الحقيقة المطلقة ـ  كرمز صوفي تتجلى معه أنوار الحقيقة ـ  في متن هذا النص، وهامش العلاقة بين نهال ومراد، ومتنها على حد السواء، وذلك من خلال المتخيل السردي التي تسوغه تيمة الحلم والرؤى المتواترة، والتي تطرح في ثناياها دوما صيغة المحاكمة والمعارضة لكل أحوال الواقع المرير، أو الوقوف أمام الذات أو الذات الأخرى التي تتعشقها:
" وجد مراد نفسه وقد أحاط به أربعة حراس غلاظ، في قفص حديدي مكعب الشكل، يردد بعض الأدعية التي لقنه إياها شيخه الأخضر قبل ساعتين من دخول قاعة المحكمة، بينما انتصبت نهال على منصة الادعاء، وبيدها عدة أوراق تلوح بها تجاه القاضي الذي تبين أنه الشيخ جالسا في المنتصف، تعلوه آية العدل، تحيط به بعض الكلمات العبرية، وإلى يمينه جلست هالة، وعن شماله زوجها " واثق". رعدات متتالية طوحت بجسده فيما صرخت "نهال" مشيرة إليه:
ـ نعم سيدي القاضي، أيها الشيخ الذي انتصب رمحا للحق، وارتقى مسالك الكشف، واحتشدت له الحنايا، وركعت لحكمته الحشود، أيها السامق المرتجى، والشافع المأمول، نعم يا سيدي، هذا هو القاتل الحقيقي.... " ص66
وما إلى ذلك من الشطحات التى تقع على الحدود بين الهذيان والحلم والكابوس، والتي تحتبل بها الحقيقة بأكثر من شكل من أشكال الإزاحة على الواقع، ومن خلال لغة سردية ترتقي لتحقق أعلى معدلات الدلالة، وأقربها إلى تجسيد المعنى المراد، من إماطة اللثام عن كنه هذه العلاقات التي تتكيء في وعي الشخصية على البعد الصوفي الغيبي، المشتغل على مساحة من النص، ومن وعي الشخصية، يستأثر بها، ويحضها على أشياء ويتراجع عنها، ويكون له في ضميرها سطوة السلطة المطلقة للحقيقة التي تعطي أطرافا منها بحساب، وتخفي أطرافا أخرى إلى حين، وهو ما مكن الشخصية الجدلية/ الافتراضية، التي يقوم بها الشيخ الأخضر/ المعادل للحقيقة في تجلياتها، من الاستحواذ على المشهد التخييلي المفترض في وعي/ لا وعي الشخصية المهزومة بفعل تداعيات واقعها وتشابك الوقائع بين المادي في العلاقات الخارجية، والروحاني في علاقته بنهال روحا وجسدا، وطيفا، ومعنى للحقيقة الغائية، والأسطوري المتجسد في شخصيتي "هيمارا/ مراد"، و"رولانا/ نهال" في اتكاء واضح على الأسطورة القديمة التي تحيل حياته جحيما يتشعب معه في تضاعيف النص الروائي الممتدة، بالرغم من التورط في الحس الموغل بخيانات نهال وورطاتها المفجعة على مدار الواقع المعيش، ووقوعها في وهدة المسكوت عنه من خلال علاقات شائنة تنحو منحى أيروسيا، بالإضافة إلى التورط في علاقات التطبيع مع العدو، من خلال تلك العلاقة الإيروسية الشاذة مع الفتاة اليهودية، والتي كشفت عنها ابنتها من خلال مقطع سابق، ليكتشفا معا دلائل الخيانة/التورط، كاملة في خضم البحث والتعرية لكل ما فاضح وكان مسكوتا عنه:
"لم يكن أقرب لمراد في بحثه عن دلائل خيانة نهال السكري إلا ابنتها هالة وإن كانت تتأرجح أحيانا بين موقفه الغريب الذي هدته على مدى أيام متتالية في المقابر وبين حديثه حين لا يخلو من قسوة جامحة عندما يجتر ذكرياته مع نهال خصوصا ما كان في الأيام الأخيرة قبل انفصالهما" ص91
لكنه يعود ليمجد قدسيتها، المنتزعة من رحم أسطورة جديدة/ قديمة، ويحيطها بهالة الروح الخالدة التي ترتقي بمستوى اللغة السردية مرة أخرى إلى حيز التحليق والترنم واصطياد شعرية المعنى ومجازه:
" رولانا.. أين أنت يا كبريائي؟ يا بهجتي المموسقة، ماذا فعل بك الملاعين؟ لم لا تردين أيتها لبهية؟ تعلمين أنه لا وجود لي بغيرك..كل شيء عدم.. كم أنت قاسية! من غرس في قلبك الشفيف حنظل الغياب؟ من روى حدائقك بالمهل.. قلتها لك في حضرة جنياتك، وقلتها لي على وقع ابتسامة شيخي الأخضر.. " ص116
ليعكس الموقف، هذا الازدواج في العلاقة بين الشخصية الواقعة تحت تأثير عشق الحياة/ الحقيقة المطلقة، المنتصبة بين شخصيتى الشيخ الأخضر، ونهال/ رولانا، في جدلية تتسق مع حالة الانفصام التي يعاني منها الواقع/ الحال العام، في التشتت وعدم تحقيق حد أدنى من الثقة في كل ما هو حقيقي، وهو ربما ما أدى إلى نوع آخر من الأسطورة الشعبية الآنية/ المصطنعة إلى حد كبير، كآلية من آليات التعامل مع الحدث والخبر والإشاعة، التي تتحول ربما إلى أسطورة في نطاق إطلاقها، حيث تعكس الإشاعة خبر ظهور/ تجلي، نهال/ الحقيقة على نحو ما يثير علاقة جديدة بين مراد وهذا الظهور الوهمي/ المستنسخ من حقيقة لا وجود لها، كعلاقة رولانا بهيمارا في الأسطورة القديمة واتساقا معها:
"ما كادت شائعة ظهور شبح نهال السكري يطوف عاريا في تجوال ليلي بأزقة الحي العتيق بالمدينة تخمد، حتى كادت شائعة عثور مراد على كنز ضخم، إثر مبيته ليلة إلى جوار قبرها تصلح الطعام الأشهي على موائد النساء في حديثهن إلى أزواجهن في الليالي القمرية من فبراير، وكانت لفائف الحكايات تتنقل بين الجارات في المشاوير الصباحية" ص82
فهنا يأتي هاجس الحقيقة، بتجردها من كل ما عليها من أسمال، يراود العقول والأفئدة والألسنة التي تلوك الحكايات، وتولد منها هذا الشغف للوصول إلى الحقيقة ولو على أنقاضها، وهو مما أعطى زخما معنويا لتأصيل ذلك المعنى من خلال هذا التنوع وهذا التنقل للمشهدية السردية التي تبرز قطاعات عدة/ شرائح من المجتمع، تقع في هذه الدائرة التي تلتبس فيها الحقيقة  بالإشاعة،  بما يمكن أن يفرزه الوعي الشعبي التحتاني..

رقصة التعري.. وسقوط أوراق التوت
ربما اندفعت حركة السرد في الرواية إلى ارتياد منطقة أشد إيغالا وعتمة وعمقا يحتاج إلى عملية التجلية، ورفع الحجب وكشف ستائر الأسرار التي تشعلها لعبة التعري، المتسقة مع مفهوم الرقصة الشهيرة الماجنة التي تلعب هنا دورا محوريا ودالا في تكثيف العهر السياسي والاجتماعي الذي يمارس على نطاق غاية في الخطورة، والأهمية، وهو من البراعة، من حيث يلاغة العنوان الدال للرواية على حالة الانغماس والتشظي والوقوع في جملة من التفسيرات الموحية للعنوان، والتي تجمع أطياف الموبقات في طياتها، لتقع الرحلة الأخيرة للنص في محال الخلاص واقتراب محاولة الكشف من منطقة بالغة الخطورة في متنه/ متن الحياة الملتبسة بوهم الحقيقة.
 إلا أن المدخل لهذه المرحلة الكاشفة، قد يمر بإرهاصات فكرية، ربما اتسقت مع حس الثورة على كل تلك الأمور المستغلقة على الوعي بشقيه العام والخاص على حد السواء، فالرواية هنا تقدم لنا الثورة ومقدماتها على مستويي الدلالة والواقع، من حيث هي مدخل لكشف ما وراء الكواليس السرية التي تعج بها الحياة السياسية والاجتماعية التي ربما وقعت تحت طائل عملية التطبيع مع العدو والتي تدار بطرق تتشابه إلى حد بعيد بالتنظيمات السياسية والقمعية التي تعتمد الفضائح والحياة السرية للشخوص، للدفع بها في بؤرة الصراع لصالح العلاقات غير المشروعة، فالحس الثوري كاستشعار/ استشراف من خلال قراءة الواقع السياسي والاجتماعي يبدو واضحا إلى حد بعيد ، كأحد الأدوات القادرة على تحريك المياه الراكدة، ومحاولة الإفاقة من السبات العميق الذي ينتاب المجتمعات وبضعها على شفير النار والمواجهة الحاسة، تميدا للكشف والتجلي:
" ما كان لي، وأنا الذي تربيت على مواقفك الوطنية وقصائدك إلا أن أكون في قلب الحدث في ذلك اليوم النادر، بين الناس البسطاء كما علمتنا. لا تتصور حالي وأنا أرى الجموع الهادرة تتدفق من الشوارع الجانبية كشلال هادر إلى قلب الميدان الفسيح.. لا يسأل أي منهم رفيقه عن هدفه، فقد جمعتهم المأساة، فانطلقوا هاتفين بسقوط الطغاة، وأصحاب الأردية السود وراء مصداتهم الفولاذية وخوذاتهم ، مرعوبون، يتراجعون، يصرخ فيهم كبيرهم، فيقذفون بأعيرتهم المطاطية الصدور العارية، لكن الناس لا يتراجعون، يركضون في اتجاه البنادق فينتكس الجنود ببنادقهم ومصداتهم.. " ص104
هنا يأتي الالتحام في الوعي الجمعي الرافض؛ لتبرز الثورة بكل معالمها، ومشهديتها  المجسدة الدالة على الصحو والقيام من السبات والوقوف في مواجهة الحقائق التي بدأت تتعرى من زيف ملابسها وأثوابها المتعددة، والتي تتكيء عليها الرواية لكي تلج العالم السري الذي تحاك فيه المكائد والمشروعات الخبيثة لتقويض أمان الوطن والوقوع في أسر العدو اقتصاديا وأمنيا، وهو ما يتكشف من خلال حركة البحث التي تقوم بها الشخصية المحركة أيضا " هالة" مع زوجها في رحلة للبحث في غمار اختراق وكر/ فندق  السيدة العربية/ البرنسيسة "جوهرة" التي تدير أمور هذا الفساد المسكوت عنه، من خلال طقوس رقصة الاستربتيز، التي تمثل قمة الفضح والتعرية في النص، في الحفلات الصاخبة والماجنة لمجتمع رجال المال والاقتصاد والسياسة في "دويلتها الفندقية" بحسب تعبير النص، وسط رتل من النساء العاريات تماما، وكما ترصد المشهدية السردية بعين هالة الباحثة عن الحقيقة، بتخفيها هي في متن الحفل:
"والبرنسيسة تمارس سباحتها من جسد لآخر، تدغدغ أعصاب هذه بلمسة نهد فتتأود، وتقرص أخرى من مؤخرتها؛ فتشهق، والحضور بين صائح ومصفق، فيما أحضر عبد أسود كلبين عظيمين أديا فاصلا من المضاجعة قبل أن تنادي البرنسيسة عليهما واحدا بعد الآخر بأسماء بعض الوزراء الذين تتابعت قهقهاتهم فيما تناوب الكلبان مضاجعة الوصيفات الست اللاتي اجتهدت كل منهن في الانتصار على رفيقاتها بعزفها الخاص الذي ينتزع آهات الحاضرين وتوجعاتهم." ص137
ومن خلال المشهدية الفاضحة المفجعة أيضا، والتي تفضح العلاقات الخاصة لشخصية الحقيقة الغائبة "نهال السكري"، من خلال عملية الرصد التي يقوم بها النص، حيث تبدو شخصية جوليانا ضمن الراقصات بالحفل بعرض خاص ملتهب، وبطولها الفارع:
" وكاد قلب هالة يتوقف عندما اكتشفت أن المرأة الفارعة بم تكن سوى جوليانا اليهودية اليونانية التي ضبطتها أكثر من مرة مع أمها المنتحرة نهال السكري في أوضاع فاحشة. وقرأت من الكتاب ذاته، وكلما حدقت في وجه امرأة منهن تتسارع أنفاسها، فلم تكن ترى إلا وجه أمها المنتحرة. " ص128
يضيق النص بالتحامه بتلك الملامح وتوصله إلى تلك الصيغ الدالة، الخناق على الحقيقة بشخصيتها الدالة عليها والمتورطة إلى حد كبير في تشويهها والعمل على غيابها وإن كان بحضورها، الذي كان غيابا بقدر ما هو حضور فاعل، بل كانت فاعليته تتمركز في الإغواء واللعب في دهاليز الفساد والإفساد والغواية التي لأغوت بها شخصية مراد، المتورط في حب الحياة/ الحقيقة التي لم تعطه ما أراد ولا بقدر عشقه لها..
كما تبدو نهاية شخصية  عالمة الذرة نادرة السكري، التي اتجهت الحقائق نحو إبراز وطنيتها وعملها على مساعدة الوطن بما تملك إلى جانب تفوقها العلمي في اصطياد وتجنيد زائف شاغال على نحو مما يخدم قضية الصراع النووي في المنطقة لصالح السلام، تبدو هذه النهاية مفجعة متورطة في مناخ الفساد والإمعان في غياب/ تغييب الحقيقة، أو موتها بموت من يملكون مفاتيحها، بعدما باحت بأسرار خطيرة تميط اللثام عن العديد من الحقائق:
" ولم تكن تظن أنها بمجرد أن تصعد إلى غرفتها في الطابق الثاني  سوف تسمع مصر كلها دوي الانفجار العظيم الذي لم يبق منها، ولا من فيلتها إلا شظايا متناثرة لم تفلح أجهزة الأمن والطب الشرعي والأدلة الجنائية في الوصول إلى نتيجة قاطعة حول ما حدث." ص154
كما تمثل عودة مراد من رحلته مع المرض والهذيان والحمى التي اجتاحته على أثر ما أوصلته حالة التوحد والاندماج الكامل مع شخصية رولانا / الحلم الذي يهرب إليه من وطأة عذابه مع تاريخ/ علاقة/ روح نهال الجبارة المتمكنة منه، وصولا لمرحلة الخلاص التي يبرأ فيها من شبح الحقيقة الجاثم على الصدر، ليؤكد النص على كون شخصيته مفتاحا هاما من مفاتيح النص، ومن ثم استكمال الدائرة المحكمة حول هذه الإشكالية من الصراع مع الحقيقة ضد الوهم وأرديته المتعددة التي تغلفها..

نهاية أسطورية دالة
"رأى مراد نهال السكري تخرج من أنقاض السرادق، والنار تأكل لحمها الذي بدأ يتساقط كقطع الثلج، أسرع إليها ملهوفا، خلع سترته، ولفها، لكن النار لم ترحمها.. تلفت يمينا فوجد شيخه الأخضر فاستنقذه، لكنه لم يستطع، بل زادت النار سعارها.. " ص188
تأكيدا على احتفاظ الحقيقة بحقها في التلون والبقاء والغياب والتدرج في مستويات الوجود والعدم، وتأكيدا على القيمة المعنوية لمعنى قمة اكتمال العمل في نقصانه، وربما عاشت نهال كأسطورة لها حق الخلود برغم خطاياها / خطايا الحقيقة وهو ما يبدو من خلال نهاية دالة للعمل الروائي الذي خاض بحور الشك واليقين على نحو من الالتباس، والتماس العديد من السبل لتأطير وتجسيد هذه الحالة من الغياب/ غياب الحقيقة أو موتها بالعديد من الإجابات الضمنية، سواء على مستوى المجاز كلغة وكمعنى على حد السواء، وهي النهاية التي تتسربل بالروحانية الشفيفة التي تنسجها أسطورة نهال/ الحقيقة التي توازت في تلك اللحظة تماما مع أسطورة رولانا، متمثلة في شجرة الكافور السامقة التي أطفأت هذه النار بأوراقها ـ كمعجزة وأن أتت في سياق حلمي ـ  ليحقق النص جزء كبيرا من معادلته الصعبة، والتي أتت على أثر عملية التطهر بالنار التي التهمت كل الخطايا، بحسب رؤية النص:
" وإذ بنهال تقبله مباغتة، ثم تنزل إلى النهر.. سلاما يا مرادي.. سلاما إلى حيث يجمعنا النهر من جديد انتظرني تحت شجرة الكافور السامقة عند مغيب الشمس وعند كل عيد.. " ص188   
ليطرح النص نهايته الدالة ليلتبس المعنى الدلالي لأسطرة الشخصية/ الحقيقة، وتقديمها في صورة مخالفة لما كانت عليه في واقعها الحقيقي، ربما إمعانا في إسقاط هذا المعنى الكوني الذي تتمتع به الحقيقة كفلسفة كونية، لأنها قائمة بوجوده تمتح من ديمومته فيما بين التجلي والاختفاء، وما بين الظاهر والباطن، وما بين ما هو نقي جلي واضح، وما هو غامض مغرق في سديميته، لتستقر في كل الأحوال على معنى الوجود، لتحمل أسطورتها وتمضى بالتباسها، وحيرتها، وانشغالنا بها أينما ذهبت وأينما حلت.. 

محمد عطية محمود
الإسكندرية
19/6/2011


[1] ـ استربتيز ـ  رواية ـ مختار عيسى ـ كتاب "مرايا الروائي" ـ 2010  






                                                    عودة 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق