بحث هذه المدونة الإلكترونية

الجمعة، 21 أكتوبر 2011

ومضات كاشفة وقصص الكوبري أبو عين واحدة لصلاح بكر بقلم: الشربينى المهندس


ومضات كاشفة وقصص الكوبري أبو عين واحدة لصلاح بكر
بقلم: الشربينى المهندس

هناك سمات أساسية للإبداع وعتبات النص المختلفة، منها محاولة استنباط أشكال وروابط جديدة من القديم فتتسع مجالات الرؤية ومشاركة القارئ.. ومنها محاولة تشكيل علاقات جديدة بين مفردات قديمة والعكس أيضا فتأخذنا الدهشة..  وأن العمل الأدبي لا تكتمل حياته وحركته الإبداعية إلا عن طريق القراءة وإعادة الإنتاج .. وهذا ما سنحاول رصده مع هذه المجموعة.
يأتي غلاف المجموعة القصصية الكوبري أبو عين واحدة وصورة العين الوحيدة المفتوحة مكملا للعنوان بصرف النظر عن الحمامة كعتبات أولي للنص والتي تحدد سقف التلقي.. وهو عنوان أحد قصص المجموعة.. وإن كانت العين هي الممر أسفل الكوبري حيث يسير القطار أعلاه كما اصطلح عليه واقعا، أو الممر الذي سيهرب منه بطل قصة الكوبري أبو عين واحدة من المستشفي إلي البيت بعد أن تركه الأديب السكير الواعظ مع قطار الذكريات والسنين العجاف حيث تتوالي الأزمنة والأحداث بطريقة رمزية، كبيته المتهالك أو البيت الواقع الذي صمد أيام الحرب العالمية وتصدع أيام الانفتاح وهو يدندن..
.... يا أهل مصر المحمية ....... الفول كتير والطعمية............                                                         وهنا تبدو محاولات الكاتب لتكتسب قصصه خصوصية بمحاولة التمرد علي السرد المألوف بسرد حداثي كما رصده د.السعيد الورقي.. ولكنه سرد مجهد للقارئ العادي الذي يحتاج لتعريف الكثير من الأسماء والرموز المقصودة، لتتابع معه سرديات غير مألوفة وكلمات خاصة منها علي سبيل المثال ندوة الاثنين الأدبية والقصر أو قصر الثقافة وحي سموحة الراقي وجانوتي العشوائي والمقابل له وهي أحياء سكندرية.. وساعة الزهور بميدان الشلالات بالإسكندرية والجزويت وسوق البياصة وهكذا .. أو عندما يقول صحوتي العاطفية جاءت متأخرة، كما استيقظ متأخرا في قصة جسد رخامي فوجد نفسه خارج المنزل.. هو لا يملك أنثي، ففكر في التسكع في الطرقات.. طريق الحرية بعيد والسير أتعب قدمي فهل هو طريق الحرية كشارع رئيسي للتسكع بالإسكندرية أم طريق الحرية في العلاقة العاطفية.. وهكذا في محاولة لرصد القطب الفني أو النص الذي يخلقه المؤلف من خلال البناء اللغوي وتسييجه بالدلالات والرموز قصد تبليغ القارئ بحمولات النص المعرفية..
وهنا تبدو السمة الأولي فالكاتب فى الأصل ليس محايدا.. وهو لابد أن يعاني فالأديب مرآة مجتمعه.. ربما يحاول ألا يكون منحازا لذا فهو يتأرجح ما بين الراصد والمشارك ويقع عليه عبء الصياغة الفنية.. لكن الشخصيات التي حشدها الكاتب منزعجة ومضطربة تعيش حالة قلق دائم وغربة مستترة كما يقول د.الورقي في مقدمته، فقد كانت من الجانب الفقير ساكن العشش والجحور بالعشوائيات، حيث الوحل ينبت أطفالا يمسحون أطباق الفول ويمتنعون عن التصويت في عصر التصحيح ويقذفون الحجارة علي أبناء الخواجة في الجانب الآخر من الكوبري.. أو تمرد من نوع آخر علي رائحة طشة الملوخية وهكذا..
وهنا تستمر الرؤية الفنية والإنسانية الخاصة لصلاح بكر بعد مجموعته الأولي كشف الورق.. ورصده لعالم أبطاله الداخلية وما يحيط بهم من عالم مطحون ومقهور ولا يقاوم ولا يحلم .. الحلم الذي يداهمه وتكتسي البيوت باللون الأسود.. والمرضي فئران تجارب .. وكيف يحلم وهو بليد الفصل ووالده ينصحه لا تقصص رؤياك علي زملائك..
ولكن تأتي الصعوبة مع السمة الثانية وفن العرض مع الأثر الانفعالي الذي يميز كاتبنا وهل ترك الكاتب للأبطال والحوادث حرية التعبير..؟
في قصة جسد رخامي نأتي لاستهلال القصص لنكتشف أنه الراصد والبطل حيث استيقظت متأخرا.. وجدت نفسي خارج المنزل.. وفي قصة العمبوكة.. أغلقت البوابة الحديدية فوجدت صفا من الغرف الموصدة أبوابها سوداء.. وقعت علي الأرض الباردة.. ممددا فوق البلاط غصت في ظلام سحيق.. وأغلقت سماعة الهاتف والعبارة عالقة بأذني.. البيت وقع في قصة البيت الواقع .. الطبيعة جعلتني قطا في قصة قط الليل.. وفي البليد تبدأ القصة بعبارة بعد خروجي من المدرسة.. حتي قصة لجنة المكفوفين آخر قصص المجموعة نرصد أتراجع إلي الوراء.. أنظر إلي الفتيات والشباب والذكريات تتزاحم..
ولكن هل سيظل هو البطل الوحيد.. وهنا دخلت أم السيد الحجرة مع أبو السيد وأغلقت الباب وتوقف السرد.. ربما ليعطي السارد العليم للقارئ الفرصة لإطلاق خياله والمشاركة وهي من أساليب جذب القراء عندما يسيطر المنولوج الداخلي والكاتب المأزوم علي القصة ويظهر ما نسميه الفضفضة.. ولكن تتغلب العين الراصدة ويتدخل الكاتب ليقف مع القارئ أمام الباب المغلق ويطرح أحد النتائج المتوقعة فقد زاد عدد الأطفال في الشوارع..
قد يكون ذلك الملمح الذي تكرر في أكثر من قصة من قصص المجموعة من الومضات الكاشفة للشكل الحكائي لأديبنا.. سواء الأسلوب الدلالي ورمزية الحدث أو الأسلوب التعبيري لسياق النص.. فقد تتعدد الأزمنة فهو لا يعرف من التاريخ سوي عصر الثورة وعصر الانفتاح وعصر البلطجة رصدها والحافلة ترجع للوراء تصطدم بالجدران وتحدث شرخا وهموم وطن.. وإذا عدنا إلي عنوان المجموعة الكوبري أبو عين واحدة وهو عنوان إحدى قصصها التي تتناول حياة سكان ما يسمي بالعشوائيات فإننا نلمح محاولة الكاتب للتمسك بالواقعية البيئية فالكوبري أحد معالم الإسكندرية يمر من فوقه القطار وفتحته السفلية لمرور المركبات.. لكن هنا تتعدد الدلالات فقد يفسر البعض أن العين الواحدة تعني أحادية الرؤية وهي رؤية الكاتب السارد بالقطع هي لغة المتكلم أو المخاطب هي المسيطرة وهو ما قد يدفع القارئ للتوقف عن المشاركة وهنا الخطورة علي العالم الجمالي، والذي يكمن في عملية القراءة التي تخرج النص من حالته المجردة إلى حالته الملموسة، أي يتحقق بصريا وذهنيا عبر استيعاب النص وفهمه وتأويله فقارئ الإسكندرية عندما تقول له الكوبري أبو عين واحدة تسبقه علامة الاستفهام قائلا ماذا حدث له مثلا.. أو تستغرقه الفكاهة فيقول الكوبري أبو عين..اشمعني..!!
قد يكون اختيار العناوين مقصودا لإثارة الدهشة بغرابة الكلمة مثل أبو عين واحدة والعمبوكة أو اللهجة العامية مثل القديمة تحلي أو البيت الواقع بمعني السقوط.. ولكن العين الراصدة الأخرى تعطي دلالات مختلفة للكوبري الملهم للعديد من الكتاب كرابط بين أكثر من اتجاه، والذي استغله الكاتب للمقارنة بأسلوبه الخاص بين حياة سكان المنطقة العشوائية الفقراء علي جانب الكوبري والأغنياء علي الجانب الآخر.. وهو واقع صنعه الكاتب يخالف واقع الحياة حول الكوبري المذكور.. وما بين الاستفهام والسخرية والواقعي والمتخيل تسير محاولات الكاتب لصنع الروابط مع القارئ الذي يشعر بإحساسه بما بين السطور بحالة التشظي التي أصابت بعض القصص، وهي رد فعل طبيعي لتيار الوعي والتداعي الحر.. فربما كانت قصة قط الليل وأنسنة القطط والتمثال أيضا تأتي كنوع من الاختلاف لربط القارئ.
ومع محاولة الكاتب تنويع الشخصيات جذبا للقارئ تأتي شخصية جيجي التي تهاتف الوزير شخصيا أو كراوية الذي يأخذ بطلنا علي جناحه المكسور.. وأيضا تأتي خلطة الرموز وأحداث تاريخية وتراثية وهو يجلس بمقهي الشيوخ يردد كلمات الشيخ كشك (امرأة في الستين وتردد كلمات خذني لحنانك خذني) طبعا يقصد كوكب الشرق أم كلثوم ويقول (شاهدنا علي الشاشة الصغيرة الشاب يلقي بفرده حذائه في وجه الخواجة) يقصد الرئيس الأمريكي جورج بوش.. وتستمر محاولات الكاتب للخروج عن المألوف في قصة حي سموحة الإفرنجي وحي جانوتي العشوائي وقد أصاب الخواجة الذعر من أطفال الشوارع وطارت شرارة العراك أو العراق وصدر بعدها قرار مجلس الأمن بنزع أحذيتنا أو أسلحتنا.. وهكذا المراوحة بين الواقع لصلاح بكر والواقع العربي والعالمي وبين القديم والحديث مع بساطة السرد وخصوصية الحكي، وتتعدد الومضات الكاشفة وعالم صلاح بكر الإبداعي في انتظار إدراك أفق القارئ والمسافة الجمالية.


                                                      عودة 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق