بحث هذه المدونة الإلكترونية

الجمعة، 8 يوليو 2011

الثلاثاء 5 يوليو 2011




من اليمين : الكاتب أحمد الملواني , الكاتب العماني محمد الرحبي , الكاتب منير عتيبة , دكتور محمد عبد الحميد . 


الكاتب العمانى محمد الرحبى فى مختبر السرديات بمكتبة الإسكندرية:
الشعوب هى التى تحدد سقف الحرية!!

صرح الكاتب العمانى محمد بن سيف الرحبى أن سقف الحرية تحدده الشعوب، فهى التى ترفع رأسها فيرتفع السقف أو يختفى، أو هى التى تحنى رأسها فينخفض سقف الحرية حتى يكاد يزهق روحها. جاء ذلك فى ندوة
مختبر السرديات بمكتبة الإسكندرية يوم الثلاثاء 5 يوليو حيث نوقشت رواية الرحبى "السيد مر من هنا" ناقش الرواية الناقد د.محمد عبد الحميد أستاذ مساعد الأدب والنقد بكلية الآداب جامعة الإسكندرية والمبدع الشاب أحمد الملوانى.
أكد د.محمد عبد الحميد على إعجابه واستمتاعه الشديد برواية الرحبى التى مزجت ببراعة فنية بين العالم المعاصر والتاريخ من خلال استخدام الكاتب لتقنيات الحلم وتماهى الشخصيات ومستويات الأداء اللغوى التى تتراوح بين الشعرية والتوثيقية، مؤكدا أن الكاتب كتب التاريخ وعينه على الحاضر ولم يهمل تقنيات الكتابة الروائية بل أجاد استخدامها، مشيرا إلى وجود عدة رواة فى رواية الرحبى يختلفون أحيانا ويتماهون أحيانا أخرى وكان حرص الكاتب على ضبابية استخدام الرواة مؤديا إلى مزيد من المتعة القراءية عن تلقى العمل الأدبى.

                                                


أما المبدع والناقد الشاب أحمد الملوانى فقد أشار فى دراسته للرواية أنها الرواية منذ عتبتها الأولى وهى العنوان تغرقنا في دوامة زمانية. يلعب فيها المكان دور البطولة. فالمكان والشخصيات وجميع الحكايات إنما تخدم ذلك التأرجح الزمني الذي يضعنا فيه الكاتب طول الرواية.. لنتمزق مع الشخصيات الرئيسية، بين ما كان، وما صار.. بين حلم بواقع أفضل مختبئ وراء باب مغلق على المعشوقة الحسناء.. وحلم بتاريخ ـ وإن راح زمانه ـ مازال يفرض نفسه على حاضرنا، بأمجاده، وأمنيات عودته. متتبعين خطى السيد، الذي مر من هنا. وما بينهما تلك الرحلة العبثية في واقع بغيض مشوه.. عبر عين البطل العائد إلى مدينته (مسقط)، وإلى سوق مطرح تحديدا، بعد خمس سنوات من الغياب. مشيرا إلى أن الكاتب يخبرنا من خلال بنائه الدلالي المحكم، أن حنيننا الدائم لأمجاد الماضي، ليس سوى رد فعل لعجز الحاضر عن الوفاء بأحلامنا.. حتى وإن تماهت هذه المعشوقة بشخصية تاريخية بدورها، وهي السيدة خولة بنت السيد سعيد بن سلطان. تناول الملوانى المكان والزمان والشخصيات فى رواية الرحبى ليعود ويؤكد أن الرواية تفتح آفاقا على العديد من الأسئلة التى تخص الفن والواقع، الحاضر والماضى، مؤكدا أن هذه الأسئلة تجعل لرواية الرحبى أبعادا، وآفاقا تنادي القارئ لكي يعيد قراءتها مرة وثانية.. فهي تشغله وتدفعه للتساؤل والتأمل.. تماما كما فعلت أوراق الحالم، بالبطل.
وفى مداخلاته مع جمهور الحضور من مثقفى الإسكندرية عبر الكاتب العمانى محمد بن سيف الرحبى عن سعادته البالغة بوجوده فى مدينة الإسكندرية التى يعشقها، وفى أحد أهم الصروح الثقافية فى العالم القديم والحديث وهم مكتبة الإسكندرية، وسعادته بوجوده مع مثقفى الإسكندرية فى مختبر السرديات. تحدث الرحبى عن رحلته من القرية إلى المدينة، وحلم الكتابة الذى قاده فى دروبه الممتعة للإبداع ومزيد من الإبداع والنجاح والجوائز، وأشار الرحبى إلى أن العمانيين يعرفون الثقافة المصرية وأعلام الأدب والفن المصرى جيدا، وإن كان المصريون ليسوا على دراية جيدة بالواقع الأدبى والفنى العمانى، ملقيا اللوم على الطرفين، الجانب العمانى المتقوقع حول نفسه ولا يقدم منجزه للآخرين، والجانب المصرى المكتفى بذاته ولا يتواصل غالبا إلا مع دول المركز الثقافى لا دول الأطراف، داعيا إلى مزيد من التواصل بين المثقفين العرب فى كل البلاد العربية، مشيرا إلى وسائل الاتصال الحديثة كالفضائيات والإنترنت يمكن أن تساعد على تقليل الفجوة بين الدول العربية إن أحسن استخدامها. وقد أكد الرحبى أن الكتابة مغامرة دائمة، وكل عمل جديد هو مغامرة تجريبية فى حد ذاته، مغامرة غير مأمونة العواقب لكنها تستحق الجهد المبذول فيها.

صرح الأديب منير عتيبة المشرف على المختبر أن الروائى العمانى محمد بن سيف الرحبى صدر له أربع مجموعات قصصية وثلاث روايات بالإضافة إلى عدد من كتب الرحلات والمقالات، كما كتب سبع مسرحيات منها "مرثية وحش" التى مثلت عمان في مهرجان القاهرة للمسرح التجريبي، وحصل على عدد من الجوائز أهمها جائزة الشارقة للإبداع العربى فى الرواية عن روايته "رحلة أبو زيد العمانى"، وجائزة جمعية الكتاب العمانيين عن روايته "الخشت"، وهو يعمل مراسلا لجريدة الحياة منذ عام 1999، وكان مراسلا لقناة LBC  الفضائية اللبنانية، ويكتب عمودا يوميا في صحيفة الشبيبة العمانية. مضيفا إلى أن استضافة الكاتب العمانى هو تعميق وتأكيد لما يسعى المختبر إلى تفعيله من تعارف وتعاون الحركة الثقافية السكندرية مع المبدعين العرب، خصوصا وأن الرحبى قدم فى روايته "السيد مر من هنا" عملا تاريخيا نفسيا بديعا، وأشار عتيبة إلى أنه تم وضع ملف بالرواية كاملة على صفحة المختبر على الفيس بوك، وكذلك على مجلة أمواج سكندرية الموقع الثقافى للإسكندرية على الإنترنت وعنوانها www.amwague.com بالاتفاق مع المؤلف حتى تكون الرواية متاحة لأكبر عدد ممكن من القراء.

أمام الباب المغلق... قراءة في رواية "السيد مر هنا"
بقلم/ أحمد الملوانى

إذا كان العنوان الموفق والجميل، الذي اختاره الكاتب العماني محمد بن سيف الرحبي لروايته (السيد مر هنا) يضعنا مباشرة أمام عنصري الزمان والمكان، الزمان الماضي تحديدا في الفعل (مر).. والمكان (هنا).. فإن الرواية كذلك تغرقنا في دوامة زمانية. يلعب فيها المكان دور البطولة. فالمكان والشخصيات وجميع الحكايات إنما تخدم ذلك التأرجح الزمني الذي يضعنا فيه الكاتب طول الرواية.. لنتمزق مع الشخصيات الرئيسية، بين ما كان، وما صار.. بين حلم بواقع أفضل مختبئ وراء باب مغلق على المعشوقة الحسناء.. وحلم بتاريخ ـ وإن راح زمانه ـ مازال يفرض نفسه على حاضرنا، بأمجاده، وأمنيات عودته. متتبعين خطى السيد، الذي مر من هنا. وما بينهما تلك الرحلة العبثية في واقع بغيض مشوه.. عبر عين البطل العائد إلى مدينته (مسقط)، وإلى سوق مطرح تحديدا، بعد خمس سنوات من الغياب. البطل المنعزل في حجرته الصغيرة الخالية من الأثاث. فيحكي لنا عما صار بالناس في مسقط..
"بشرها المتناقضين جدا، قبائل ولا قبائل، أثرياء جدا وفقراء جدا، مثقفين وجهلة، متحدثين بلغة عربية لا لبس فيها، وآخرين يجهلونها تماما أو يحطمونها، يتساوى في ذلك من قيل أنهم مهاجرون منذ أزمنة، أو منذ أشهر.. يحملون في بطاقاتهم الشخصية كلمة عماني، أو غيرها."
"في المحلات المدهشة بالفضة والقدامة سترى الغرباء الذين يبيعون تراث المكان للغرباء.."
يحدثنا عن فقراء يحاولون جهدهم شراء العطور الغالية، التي لا يمتلكون ثمنها.. برغم أن العطور المقلدة الرخيصة في متناول أيديهم..
"باحت نفسي بسؤالها: أي ثري سيأتي إلى هذه المغارات الفائحة بروائح البشر لينتقي عطرا فرنسيا؟ تجاوبت مع احتمالات إجاباتي، رأيت بين أبناء القرى وبادية الصحراء من يكافحون لنيل تخفيض مناسب على عطور غالية."
وهي التأملات التي يضعنا الكاتب عبرها مباشرة أمام صورة جديدة للغزو. الغزو الثقافي والاجتماعي والاستهلاكي.. الذي أفسد خصائص المجتمعات وتراثها...
"رأى الجندي يستدير عائدا إلى بيته، تعب من انتظار الغزاة، لم يأتوا كما تخيلهم، رغم أنهم أتوا.. ودخلوا المدينة، وسكنوها، وارتدوا ملابس أهلها، فلم يعرفهم أحد، وتعلموا لغة سكانها، ونكحوا بناتها، وتناسلوا"
فلا يجد البطل مهربا من هذا الواقع.. ومن حالة الحنين للماضي التي تهاجمه بضراوة سوى في مجموعة من الأوراق سرقها من شاب متشرد يبدو مختل العقل.. هائم دائما في سوق مطرح وما حوله من شاطئ ومقاه وحارات. ليكتشف البطل في هذه الأوراق عالما خياليا لشاب حالم.. يهرب بدوره من واقعه، ومن حلمه الخاص بمعشوقته التي تسكن وراء باب مغلق يأبى أن ينفتح له.. يهرب إلى حلمه بالارتحال مع سيده السلطان سعيد بن سلطان إلى مدينة زنجبار...
"في غيبوبته رأى الفتاة التي بهيبة السلاطين، والباب المغلق الذي لا ينفتح أبدا، خيّلت له غيبوبته أن الفتاة ستطل عليه ذات يوم من وراء الباب المغلق، وستبتسم تلك الابتسامة المرتعشة بالمعنى من طرف فمها، ستذوب الأحلام في بعضها، ما يترقبه وراء الباب المغلق ستأتي به الأقدار من وراء البحار، ستقوده من يده، تمشي معه المسافة الفاصلة بين الحارة القديمة والساحل، ستصعد معه الجبل، ويحدثها عن البحر وعن السلطان وعن الجنود الذين يراهم كل لحظة غياب ينزلون من قلعة الجبل ليوقفوا زحف الغزاة"
وإن وضعنا الكاتب عبر صورة موفقة أمام تساؤل حول هذه العلاقة بين الشاب والباب المغلق.. فربما كان الشاب هو من يغلق هذا الباب في وجه نفسه.. هو من يرفض أن يقتحمه حتى وان كان بمقدوره ذلك...
"على الباب المغلق يمسك مغلاقه.. كان بإمكانه تحطيمه بيد غاضبة.. يكتفي بوهم ما، يخشى شيئا ما.تمدد أمام الباب."
وكأن الكاتب يخبرنا من خلال بنائه الدلالي المحكم، أن حنيننا الدائم لأمجاد الماضي، ليس سوى رد فعل لعجز الحاضر عن الوفاء بأحلامنا.. حتى وإن تماهت هذه المعشوقة بشخصية تاريخية بدورها، وهي السيدة خولة بنت السيد سعيد بن سلطان..
"لو طرقت الباب أكثر لخرجت خولة.. خولتي، أو هي ابنة السلطان! لا أدري كيف انغمست الصور في قاع القلب فبدت واحدة".
 تلك الأميرة التي رويت الحكايات والأساطير التي تصف جمالها الفاتن..
"روى مستر جوهر أن لاعبا بالسيف كان في ساحة بيت الساحل، وحينما أطلت خولة أسند ذقنه إلى السيف متأملا الحسناء في إبهارها فانغمس الحديد في اللحم ونزف الدم من الذقن حتى أغرق السيف."
وهكذا تندفع الشخصيتان ـ البطل والشاب الحالم ـ في رحلة كل منهما بعيدا عن الواقع القاسي.. فيقول الشاب الحالم لطبيبه، واصفا العالم الخيالي الذي يعيشه..
"لكنه عالم جميل وعظيم، بعيدا عن عالم الخيانة والخداع والكذب، كلهم يتآمرون علي، كلهم، حتى أقرب الناس إلي، أمي، أبي، أخوتي.."
وبين الشخصيتين يقف الطبيب النفسي الذي تخبرنا الحكاية في الأوراق أن الشاب الحالم يزوره.. والذي يسعى البطل بدوره خلفه، في محاولة للبحث عن تفسير لما في الأوراق. هذه الشخصيات الثلاث التي تتصارع في عالمنا.. تتقاطع معها رحلة الشاب الحالم الخيالية عبر الزمان، إلى فترة حكم السيد سعيد بن سلطان حاكم عمان وزنجبار في بدايات القرن التاسع عشر، والمدونة في الأوراق المخبأة في كيسها الأسود تحت ملابسه. ليقدم لنا الكاتب من خلال هذا السرد المازج بين الحاضر والماضي.. الواقع والحلم، عملا تاريخيا متكاملا، وإن اعتمد على الألاعيب السردية، وحيل الانتقال الزمني، لتقديم سرد تاريخي مغاير وممتع.. يلقي فيه التاريخ بظلال قوية على الحاضر.. مصدرا لنا دلالات عدة.. وأسئلة عن الهوية والتراث.
فيكون ارتحال البطل النستولوجي بين ماضيه وحاضره. ورحلة المتشرد بين واقعه وحلمه.. بل ورحلته داخل الحلم بين الماضي المقدس/ السيد سعيد، والمستقبل المأمول/ الحلم الذي لم يزل مختفيا وراء باب مغلق لم يبح بأسراره بعد. بل وارتحال السيد سعيد كذلك بين مدينتيه مسقط وزنجبار. وحتى رحلة/ حلم الطبيب، تلك الشخصية التي لا نعرف عنها الكثير ولكنها تبدو كشبح يطاردنا طوال النص باحتمالية كونه هو الكاتب الفعلي لتلك الأوراق. تتماهى في الرواية كل الرحلات.. وتتماهى كل الأحلام.. فلا نستغرب أن يمر البطل بلحظة ضياع بينه وبين المتشرد.. حين يقول:
"صعدت سلالم المقهى أنتفض من شيء ما، اخترت آخر طاولة كالتي جلس عليها آخر مرة، في طاولتي رأيت ما حسبته أنا، وقد شعرت أنني.. هو"
***
الزمان:
يمكننا بسهولة تقسيم الرواية إلى قسمين أساسيين وفقا لزمن وقوع الأحداث في كل منهما.. الجزء الأول: هو الجزء المعاصر، وبرغم أن الزمان فيه مبهم، وغير محدد بدقة، إلا أنه من الواضح أنه يدور في زماننا الحالي، أو الفترة المعاصرة لكتابة الرواية.
الجزء الثاني: وهو الذي نسافر فيه للماضي من خلال حلم ذلك الشاب الحالم، وحكاياته المسجلة بالأوراق، إلى بدايات القرن التاسع عشر لنعايش أهم الأحداث في تاريخ السيد سعيد بن سلطان. وحتى في هذا الجزء يلاحقنا الانتقال الزمني.. من خلال لقاءات الحالم بالشخصيات المحيطة بالسلطان، يستمع منها لحكايات عن طفولة السلطان، وبداية حكمه.. أو حتى انتقاله الفعلي بالزمان والمكان لمعايشة أحداث أخرى في ماض آخر.. فنواصل الارتحال إلى المزيد من الماضي في حكايات داخل الحكاية.. وأحلام داخل الحلم.
وفي هذه الأجزاء التاريخية نجد أن الأزمنة محددة بوضوح.. فالكاتب يحرص على ذكر تواريخ الأحداث. وحتى تلك التواريخ التي قد تبدو ـ لي على الأقل ـ على الهامش.. مثل تواريخ بناء السفن مثلا.
وجزئي الرواية ـ وفقا لهذه النظرة الزمنية ـ يسيران بشكل متقاطع، عبر انتقال السرد بين البطل الرئيسي، والذي يلعب دور الراوي في الأحداث المعاصرة، لنرى زماننا هذا من خلال عينيه.. وحنينه الواضح لزمن ماض..
"حجزت لساعة فقط، ساعة صباحية أشعل بها ضوء يومي برائحة تبدو قادمة من جنة قديمة سكنتها منذ عقود"
وبين قراءته للأوراق التي يفترض أن ساردها هو الشاب الحالم.
المكان:
في الرواية يطل المكان على القارئ بقوة.. ويفرض نفسه منذ عنوان الرواية.. فالمكان هنا هو أحد الأبطال.. يحرص الكاتب على وصفه بدقة.. مضيفا على المكان وجودا وحضورا كأكثر من مجرد مسرح للأحداث. وإنما كثيرا ما يتداخل المكان في الحدث كجزء من البناء الدلالي للنص..
"في السيارة وأنا أشيح بها داخل فم الشارع البحري ارتدادا من دوار حديقة ريام عودة إلى الجهة الأخرى من الشارع، الملاصقة للبحر، القلعة أصبحت على يساري، واقفة فوق ربوتها الجبلية، على يميني الميناء والسفن الضخمة البادية بحجمها أكبر من المدينة التي تغرس أنياب مراسيها فيها، على الدقيقة التي تغلقها إشارة مرور أمام عين السوق البحرية منّيت نفسي برؤيته، ربما يعبر في أية لحظة، أين سأزرع سيارتي لو مرّ فجأة على تقاطع خطوط المشاة أمامي؟"
وهو ما دفعني ـ وأنا أجهل الكثير من الأماكن التي يصفها الكاتب ـ لإجراء بحث وراء الآخر على شبكة الإنترنت للاطلاع على مزيد من المعلومات عن هذه الأماكن، ومشاهدة صور لها.
الجزء المعاصر من أحداث الرواية يدور معظمه بين الحجرة التي يتخذها البطل سكنا ومخبأ.. وبين ـ وهو الجانب الأكبر ـ سوق مطرح الشهير في مسقط، وما حوله.. وفي رأيي أن هذا المكان لم يتم اختياره اعتباطا.. وإنما وإن تأملناه فسنجد له دلالة محتملة.. فالشاطئ موجود، بمينائه، وسفنه، وما يمنحه من قدرة على الانطلاق بالخيال، وسفر الأحلام إلى بعيد. وهناك قلعة الجلالي فوق جبل يشرف على الشاطئ، وهي أثر راسخ وهام من عهد السيد سعيد.. وكأنه وجوده الخالد إلى يومنا هذا، يطل من عالمه على عالمنا. وهناك سوق مطرح.. والذي يمثل في حد ذاته حالة صراعية بين ما كان وما صار، فذلك السوق الباقى في مكانه ربما لأكثر من مئتي عام، يعد مسرحا تلقائيا لحالة نستولجيا. يقول عنها البطل الراوي:
"اعتدت، ربما كما اعتاد أبي، وجدي وبقية الأسلاف من قبله، السعي بين عيني السوق، المطلة على خليج عمان وتلك المندفعة صوب باقي المدينة وجبالها"
الجزء التاريخي من الرواية يتسم بالوصف الدقيق للمكان كذلك، لتكتمل لهذا الجزء الحالة التأريخية التوثيقية التي تعمد الكاتب صياغتها كما سنوضح لاحقا. الكاتب يقدم لنا قصور السيد سعيد.. وحقول زنجبار.. ورحلة البعثة التاريخية للولايات المتحدة.. حريصا على أدق التفاصيل لتحقيق الشكل التسجيلي لتلك الأحداث التاريخية.
الشخصيات:
في الجزء الواقعي نواجه شخصيات على قدر من الابهام. برغم أهمية هذه الشخصيات على المستوى الدلالي.. يأتي إبهامها ليضيف عليها اتساعا وشمولية، ومدعما في نفس الوقت للتماهي الذي يحرص الكاتب على رسمه بين الشخصيات الثلاث الرئيسية في هذا الجزء.. البطل والشاب الحالم والطبيب النفسي.
فالكاتب لا يذكر لنا اسم أي واحد من هذه الشخصيات الثلاث.. لا نعرف عن ماضيهم سوى قشور سمح لنا الكاتب بها.. وفي الغالب تكون لهذه القشور أهمية دلالية..
وفي رأيي أن أهمها على الإطلاق، تلك الرؤى القادمة من ذكريات البطل عن التهمة التي واجهها، وحكم السجن الذي صدر بحقه. فالكاتب لا يذكر لنا الجريمة تحديدا سوى من خلال تلك الصور القادمة من الماضي تحمل لمحات من تحقيق الشرطة معه.. والتي تبدو لنا تهمة مثل التي نعرفها في مصر باسم توظيف الاموال، وهي تهمة تليق بمجتمع حديث مادي استهلاكي.. حيث يبدو البطل ذاته في هذه القضية مجرد ضحية لشركاء أكبر منه، هم من هربوا بأموال الناس..
"أين أموال الناس؟.
-         لا أعرف.
-         هل تعرف أن أحدهم عجز عن شراء دفاتر المدرسة لأطفاله؟
-         ربما، لكن هذا ما حدث.
-         والأموال؟.
-         تبخّرت.
لا يصدق سائلي أجوبتي، ولا أحتمل أسئلة متشابهة تكررت على سمعي أشهر فترة التحقيق، مجرد شريك صغير جاء بمشتركين جدد، هم من ألحّوا، هم من جاؤوا بعشرات الآلاف حتى منزلي، آآآه، هل قلت منزلي؟!"
وقد يصدمنا كون البطل هارب من تنفيذ حكم بالسجن، حين يقول..
"سأذوب في مسقط، غرفة صغيرة بدون عقد إيجار، وريالات تبقّت من مغامرتي ستكفيني حينا من الدهر، ربما اليوم، أو غدا، بعد شهر أو أكثر سيعرفون طريقي، سأعود إلى سكّة أرادتها أقداري لي، غرفة ضيقة وخانقة في سجن الدسر"
وهو الذي يحدثنا في أول الرواية عن عودته إلى سوق مطرح بعد خمس سنوات قضاها محتجزًا.. فهو وإن تحدث في البدء عن مجرد ظروف للغياب..
"سنوات أبعدتني عن هذا السوق، والمدينة، ظروف غيّبتني"
إلا أنه يعود ويقدم لنا ما يوحي بالاحتجاز..
"اشتقت كثيرا لالتهم صفحات الكتب كما كنت أفعل قبل سنوات، هناك منعوا عني الكتب، كانت عقوبتي الأشد"
فأين هو هذا الـ (هناك)؟ ومن هم الذين (منعوا)؟
هل الكاتب يلاعبنا لعبة زمنية ما؟ أم أن هذا الاحتجاز الذي يتحدث عنه البطل لم يكن بالسجن؟ وإنما كان في مستشفى ابن سينا للأمرض العقلية مثلا؟!!
وتواجهنا معضلة مشابهة في شخصية الشاب الحالم..
فكيف يكون ذلك المتشرد المخبول الذي يطل علينا طوال الجزء المعاصر الواقعي.. والذي يصفه الكاتب بـ:
 "يمرق شاب في منتصف العشرينيات من عمره، سمين حدّ الشعور بأنه ليس طبيعيا، سيره مرتبك، يحمل عصا غليظة في يده، يجتاز السائرين من حواليه المحاولين تجنبه، يهذي بكلمات لم التقطها لسرعة تحركه"
ذلك الذي يرتدي ملابس بالية.. كيف يكون هو نفسه ذلك الشاب الحالم على الأوراق، والذي يمتلك سيارة يتنقل بها من وإلى المستشفى؟
وهذا يؤكد ما قلته سابقا.. وهو أن ما يقدمه لنا الكاتب من شذرات عن حيوات هذه الشخصيات، إنما ليدعم حالة التماهي بينهم، والتي تدفع القارئ دائما للتساؤل.. هل هما شخصية واحدة؟ هل الطبيب هو صاحب الأوراق؟ هل البطل هو ذاته المريض الذي نقرأ على فترات محاوراته مع الطبيب النفسي؟
أما في الجانب التاريخي.. ولأن الكاتب اختار له شكلا توثيقيا تأريخيا كما قلنا. فالشخصيات لا أوضح منها. وهي كلها شخصيات حقيقية.. مثل الشخصية الرئيسية السيد سعيد بن سلطان، والتي تقدم الرواية في جزءها التاريخي، بحثا مشوقا عن حياة وحكم هذا السلطان، الذي يعتبر واحد من أهم الحكام العرب في التاريخ. وابنتيه خولة، وسالمة.. والاثنتان تلعبان معا دورا رمزيا هاما في حلم الشاب.. خولة بما عرف عنها من جمال فاتن.. وسالمة التي اشتهرت فيما بعد ككاتبة وأديبة، وخاصة كتابها الأشهر (مذكرات أميرة عربية) والذي كتبته باللغة الألمانية.
"آه يا خولة، تلك لرؤيا القلب، أما رؤيا العقل فبحثت طويلا عن الطفلة سالمة، بملامحها الحادة ونظرتها الباحثة عن البعيد".
وكذلك مبعوث السلطان إلى الولايات المتحدة: أحمد بن نعمان الكعبي.. وطاقم السفينة سلطانة.. وغيرهم الكثيرين. فالشخصيات في هذا الجزء كثيرة جدا.. لدرجة بدت لي أحيانا أكثر مما تحتمله مساحة الرواية. كذلك الحديث عن الكثير منها جاء بشكل تقريري، تفصيلي.. يحرص على التفاصيل الدقيقة، والتواريخ المحددة، والسير المختصرة.. مثل ما يرد على لسان أحمد بن النعمان...
"أخبرني ابن النعمان إنه ولد في البصرة عام 1784 للميلاد، والده عربي هو النعمان بن محسن بن عبدالله الكعبي أما أمه ففارسية الأصل.."
"بدأت يا بني غلاما يعمل على ظهر سفينة، وامتدحوا ذكائي كثيرا، فتدرجت في الأعمال البحرية حتى وجدت نفسي أعمل في مسقط بداية العشرينيات ضمن فريق الخدمة المقربين من سيدي سعيد، كلفني السيد بمهمات إلى الصين ومصر وأوروبا مسؤولا عن بضاعته الخاصة، وفي أوقات أخرى مديرا للسفن التجارية، سافرت في مكة في العام نفسه الذي حج فيه السيد سعيد، وزاد التقارب حتى أصبحت سكرتيره الخاص عام 1835 للميلاد، ومنذ خمس سنوات وأنا مقرب كثيرا منه."
وبين هذيه العالمين المتداخلين يتحرك رجل الحلم.. ذلك الرجل الأسود الضخم ذو الأسنان ناصعة البياض، الذي يظهر في حلم الشاب، على أنه (جوهر)، أو (مستر جوهر) كما يحب أن يناديه.. ويلعب دور الدليل في حلمه..
"أنا جوهر أحلامك، أنا جوهر، نادني جوهر، أو كما أحلم أنا أيضا، سمّني مستر جوهر"
البناء واللغة:
يعتمد الكاتب أكثر من أسلوب للسرد، وأكثر من لغة، وأكثر من شكل بنائي في صياغة روايته.. وهي التباينات التي يمكن تحميلها بدلالات تصب في مضمون أجاد الكاتب تقديمه من وراء اختياراته الشكلية تلك.. أكثر من مجرد كونها ألاعيب بنائية جمالية.
الرواية مقسمة إلى خمسة عناوين فرعية، يمكن أن نطلق عليها اسم: أجزاء. متباينة في الطول، وفي شكل تقسيماتها الداخلية..
في البداية نجد الجزء المعنون بـ:
"رحلة الحلم"
هذا الجزء مقسم داخليا إلى 28 مقطع/ فصل مرقمين.. وهو الجزء الذي يسيطر عليه البطل الراوي، بأزمته ومعاناته النستوليجية.. حيث يدور السرد على لسانه بصيغة المتكلم. لنتابعه في رحلاته إلى سوق مطرح، وسياحته حول المكان وعلى المقاهي. وحتى لقائه الغريب بذلك الشاب المتشرد..
"فجأة بدت خلفي حركة لافتة، قبل أن ألتفت كانت عصا تهبط بعنف على ظهري، عصا شعرت بأنها غليظة، واليد التي هوت بها قوية وعارفة.
الضارب يركض بهمجية واضحة، ملابسه لها دلالة مختلطة..
قال الهندي: هذا مجنون.
وسألت نفسي: إن كان كذلك لماذا يترك في السوق لإيذاء الناس؟!."
ثم تكرار مشاهدته له، وحتى حصوله على الأوراق التي كان الشاب يخبئها، ومطالعته لها. هنا نبدأ السير في خطين، مازلنا مع الراوي في دهشته مما يطالعه من الأوراق.. والخط الثاني هو ما نقرأه في الأوراق مع البطل.. والذي ينقلنا إلى راو أخر يحكي لنا بصيغة المتكلم كذلك ـ وهو المفترض أن يكون ذلك المتشرد المجهول ـ تلك الحالة الحالمة من الحنين للسيد سعيد، والبحث عنه، وتتبع آثاره. كذلك ينتقل السرد في داخل الأوراق ـ أحيانا ـ إلى صيغة الراوي العليم، والذي يتدخل للتعليق على حكاية الحالم. مما دفع البطل للاعتقاد في البدء ـ وربما نتفق معه ـ أن الطبيب النفسي هو صاحب تلك التعليقات..
"بدت الأوراق في يدي ثقيلة الوطء، والسؤال هو السؤال: من مؤلفها؟.. مرة يلوح كأنه كاتب الكلمات، أحيانا يرويها محايد كأنه الطبيب، أي سر بين دفتي الأوراق؟!"
حتى يتطور هذا الاعتقاد في مرحلة تالية، إلى شكوك في أن يكون الطبيب هو كاتب كل شيء..
"الطبيب ومريضه، دوران متوزعان بعناية، هل يشارك الطبيب مريضه أحلامه؟! أم هي أحلام الطبيب يسقطها على شاب قادته الأقدار إليه؟!"
وقد اعتمد الكاتب ـ في هذا الجزء، وفي القادم من الأجزاء ـ في إبراز المداخلة التي بناها بين الحدث الواقعي الآني، والأحداث المتخيلة على الأوراق.. إلى وضع المقاطع السردية الموجودة في أوراق الشاب، دائما بين علامات التنصيص. وبين هذين الخطين، يجذبنا الكاتب بلغة مجازية، ذاتية تجري على لسان البطل في معايشته لحالة الحنين والتيه تلك.. ولغة مجازية تجري على لسان الشاب في أوراقه تصل كثيرا إلى حالات صوفية، خاصة في ذلك العشق المتماهي الذي يبديه لسيده السلطان..
"أيها السيد، وقد غادرت الساحل منذ أزمنة أراك تأتي لتأخذني في أفياء ارتحالك، عابرا للموج وللسواحل، ستأتي حتما، خذ بيدي، سأجلس في أية بقعة تراها مناسبة لفتى مثلي، في السفينة متسع لجسدي الهزيل، سأكتفي بالنظر إليك، بتأملك، منخطف من أزمنتي وأمكنتي أنا، لا أييم شطر روحي إلا إليك."
وإن كنت استشعرت أحيانا بشيء من الثقل في اللغة خاصة في لجوء الكاتب لجمل طويلة من المجازات المركبة.. مثل:
 "أتوسل إليها أن تربط بين تقاطيع الصورة رغم أنف شروخ السنوات المارّة بين جسور الحياة، المتهاوية بإيقاع سريع، البادية على مهل في المسافة الفارقة بين رؤيتين"
هذا السرد الذي قطعه الكاتب بمقاطع من السرد التاريخي التقليدي، عندما بدأ يقودنا إلى رحلة الشاب إلى الماضي.. كما يقول السيد عن نفسه:
"يا بني إنني زرت البلاد البعيدة لأول مرة عام 1828 للميلاد، وعندما شاهدتها قلت: إنها ستكون المنطقة الرئيسية لوجودنا في الساحل الافريقي، وفي عام  1942 للميلاد أدخلت إليها زراعة القرنفل حيث جاء بها الشيخ صالح بن حرمل العربي من جزيرة تدعى ريونيون، وساعده في ذلك رجل فرنسي يدعى سواسي، وعددها الآن ثلاثة ملايين ونصف المليون شجرة في كل المناطق، ولولاها لما عرفت زنجبار هذا الرخاء"
وينتهي هذا الجزء بنجاح البطل في الوصول للطبيب النفسي، والذي يمنحه مجموعة أخرى من الأوراق، يحكي فيها من يفترض أنه ذلك الشاب المتشرد حلمه الأكبر، وحكايته الرئيسية. وهكذا نكون قطعنا تلك الرحلة الأولى.. رحلة الحلم.. الحلم المموه الغير واضح للبطل، والذي يغلب عليه الحنين للماضي.. والحلم الواضح للمتشرد بلقاء مولاه السيد سعيد.
لنصل إلى الجزء التالي المعنون بـ :
"حلم الرحلة"
وهذا الجزء الثاني مقسم كذلك إلى فقرات عدة ولكن ليست مرقمة، وإنما تفصل بينها فواصل رمزية.. وفيه يستمر أسلوب المتكلم هو المسيطر على السرد، ولكن ينتقل الحديث إلى لسان كاتب الأوراق.. والذي يفترض أنه الشاب الحالم، ليحكي لنا عن رحلته على متن سفينة السيد سعيد (سلطانة) في رحلتها التاريخية إلى الولايات المتحدة.. منذ الإبحار من زنجبار، وحتى العودة إليها من جديد. وهنا يعتمد الكاتب بشكل رئيسي لغة الحكي التقليدي البسيطة، وقد أضفت هذه اللغة على هذا الجزء حيوية وسرعة إيقاع.. إضافة لكونه يقوم على رواية رحلة بتفاصيلها المشوقة وسط البحر بعواصفه وأجوائه.. وكذلك الشكل التاريخي التوثيقي.. فالجزء مليء بالتفاصيل التاريخية، من شخصيات حقيقية، وأماكن وحوادث.. يعتمد الكاتب في سردها على الجمل الحوارية الطويلة والتي تبدو أحيانا وكأنها محاضرات في التاريخ.. وإن أثقل الكاتب هذا الأسلوب أحيانا بتسجيل تفصيلي، لأشياء أرى أنها لم تقدم شيئا للنص، ولا حتى من باب الدقة التاريخية.. مثل هذا المقطع الذي يقدم لنا فيه على لسان السلطان، جانبا من سفن أسطوله...
"تنقل نظري بين سفن عديدة تقف هنا وهناك والسلطان يعددها لي، فتلك السفينة شاه علم وعليها 52 مدفعا، وتلك السفينة كارولين وعليها 40 مدفعا، وهي أجمل السفن، وتلك بيدمونتيس المبنية في كوشين الهندية وتحمل 36 مدفعا، والسفينة الرحماني أسرع السفن وعليها 40 مدفعا، والسفينة مصطفى المبنية في مسقط، وعليها ستة وعشرين مدفعا، وليس ببعيد عنها السفينة أرتميس وعليها اثنان وعشرون مدفعا، وقد خصصتها لنقل حاشيتي بين عمان وزنجبار، وتلك السفينة كارلو وأخرى سلطانة" والتي تراها في البعيد عنك السفينة ناج وبجوار افريقية وسالم وسليمان شاه وهرمان شاه ونصر وغزال وسيرنال".
أو السرد الدقيق لمحتويات حمولة السفينة سلطانة المتجهة لنيويورك..
"قال أنها 305 أطنان من الحمولة، 1300 جونية من التمر، و21 سجادة مصنوعة في إيران، ومائة بالة من البن وقد أحضر من بخا، هذا الركن متضمن حمولة ما جاءت به السفينة من مسقط، أما ركن البضاعة الزنجبارية ففيه 108 قطع سن فيل و81 كيسا من الصمغ العربي و135 كيسا من القرنفل تم حصاده من مزارع السلطان سعيد"
وأوصاف مكانية، وتواريخ.. وهو ما قد نحمله بدلالة تأويلية عن تماهي الحلم.. الذي هو نظرة متأملة للمستقبل.. والتاريخ الذي هو تسجيل لوقائع مضت.. ليصبح أقصى ما نرجوه لغدنا، هو استعادة أمجاد ماضينا. ويصبح حلمنا محض تسجيل وتأريخ لأيام كانت مليئة بأمجاد، وانتصارات..
وإن لم ينس الكاتب أن يضع في هذا الجزء، بعض النثرات للأسلوب الغنائي الداخلي الذي يناجي فيه الشاب الحالم، معشوقته المختبئة وراء الباب المغلق..
"في المسافة بين اليابسة واليابسة حلمت بك، رأيتك طائر نورس، يكاد يحط على قلبي ينتزعه كسمكة واجفة بين موجة وموجة، جسدي كروحي يتشظى، يومىء لك البحر: اقتربي.. وخوفك يدفعك للبعيد، كان العاشق يفصّل بيت شعر وجسدك قصيدة، لو تدركين كيف يتحول الجسد الى كلمات"
وهذا الشكل الذاتي الداخلي يكثر تحديدا حين يبدأ الشاب الحالم وسفينة السلطان رحلة العودة من نيويورك إلى زنجبار.. فيتكثف الحنين على وجدان الشاب، كما يحدث دائما في رحلات العودة للوطن.. وتكثر مناطق الغناء الشجن في هذا الجزء..
 "ملوحة البحر تصل إلى حلقي..
فمي بطعم الذكرى..
والأمكنة التي تناءت، الوجوه التي بعدت.
أطياف تحوم بي.. مئذنة مسجد طالب.. صوت الأذان حينما يزحف الليل على حارات مطرح ودروبها.. الكلاب النابحة في وجوه الغرباء.. الرغيف الساخن في يدي.. الباب الخشبي المغلق.. لا تفتحه القابعة وراءه."
"تذكرت الباب المغلق، تذكرتها، يكسرني حزني وأنت في بعيد البعيد، من يتدفأ من دمي إذا سقطت دمعتك كقطرة قهوة، سفحها فنجان مكسور؟ من يضيء العتمة، إذا تناثر ماء العين فوق ما يحتمله الوجه؟ العمر له أغنية فغني لي وأنا على البعد ارقب الزمن فلا يعبر والسماء فلا تمطر"
لتصل إلى لغة شعرية أحيانا..
"تلك مسامات شفاهي، جافة الا من رحيق شفاهك، فالثم ضفاف جراحي واضممها الى يديك  تخرج من غير سوء، بيضاء كالثلج، مزهرة كاللون.. سأكتفي بزهرتك هذا الليل، وسأطل على الموجات المتعاقبة في صداع الريح ..وحدي.
سأقول للنجيمات حكاية اللآلىء، والضحكات التي دسستها في أصدافي، عن العقد الذهبي الكبير المعلق على زاوية دكان في مطرح..
سأبوح للقمر الذهبي بأغنيات آخر الليل، وعن الباب المغلق في حارة مراوغة، ربما سيكتشف حروف اسمك، حين تردد الريح زخم الحروف."
وفي هذا الجزء تختفي تماما الشخصية الرئيسية التي تقرأ الأوراق.. ويكتفي الكاتب بعرض محتوى الأوراق علينا كما هي، ودون تعليق.
ننتقل بعدها إلى الجزء المعنون بـ:
"حلم"
وهو يماثل الجزء الأول في كونه مقسما إلى عدد من المقاطع/الفصول، المرقمة.. وعددها تسعة مقاطع. وفي البناء السردي المعتمد على التقاطع والانتقال بين حكاية الراوي/ الشخصية الرئيسية.. واستكمال حكاية الشاب الحالم المدونة في الأوراق.. فيما يبدو لنا وقد نال الحلم من عقل البطل، فيبدو في هذا الجزء أقل تعلقا بذاته وحنينه الدائم كما كان في الجزء الأول، في مقابل تماهيه، وتقمصه لحلم الشاب المتشرد ـ وقد أجاد الكاتب تماما وضعنا في آتون تلك الحالة النفسية للبطل ـ وحتى الرغبة في الرحلة إلى زنجبار...
"ربما سأبدأ هناك من جديد، حياة أخرى باسم آخر، واتتني الفكرة.. تلاقت أعيننا، أنا وسائق سيارة الأجرة..
-         هل زنجبار بعيدة؟
-         لا، ساعات بالطائرة.
-         أفكر بالذهاب إليها.
-         بلاد جميلة، هل لك أهل هناك؟
-         لا، إنما أفكر في الرحلة.
في حين ينسحب الحلم من حياة الشاب المتشرد.. حيث نتابع رحلته الخيالية في زنجبار.. منذ عودته من نيويورك، وحتى نهاية سيرة السيد سعيد بوافته. مما يدفعنا للتساؤل عن مصير هذا الحلم الذي احتواه.. وقد وصل بالحلم إلى نقطة نهاية.
لنصل في النهاية إلى العنوانين الأخيرين في النص، والذين يمكن أن نطلق عليهما "جزأين" تجاوزا.. فكل منهما مكون من فقرة واحدة.. الفقرة الأولى/الجزء الرابع بعنوان (ما قاله الحلم).. والفقرة الثانية/ الجزء الخامس، بعنوان (ما قاله اللاحلم).. وفيها ينهي الكاتب حكاية كل من الشخصيتين.. ذلك الفتى الحالم.. والشخصية الرئيسية.. حيث ينتهي الحلم.. ويموت السلطان لنستيقظ على واقع ما زال يسيطر عليه ذلك المدعو (ناصر اللمكي) ذلك النموذج الإقطاعي الذي قابله الشاب في رحلته الخيالية إلى زنجبار.. والذي لم يكن من قبيل المصادفة أن نكتشف أن صاحب الحجرة التي كان يلجأ إليها البطل في هروبه، والذي نجح في طرده منها.. اسمه كذلك (ناصر اللمكي)!
***
تنتهي الرواية، ولا ينتهي فضاء الحلم.. بل أن حلما جديدا قد يبدأ.. ولكن السؤال الذي بقى عالقا في ذهني طوال قراءة الرواية.. هل كل هذه الأعمال الجليلة، والتاريخ المجيد المنسوب للسيد سعيد بن سلطان.. كافية لأن تجعله حلما نتطلع إليه في مستقبلنا؟ هل هذا ما كان يخبرنا به الكاتب؟ أم أنه ـ كما خيل لي ـ تعمد انتقاد هذا الوضع فيما بين السطور؟ ينتقد هروبنا إلى الماضي وأمجاده كحل وحيد لمأساة حاضرنا..
وإلا لماذا يخبرنا في بداية الرواية أن الحلم بالسلطان ليس أكثر من بديل عن عجز الشاب عن فتح باب معشوقته.. وهو ما يقره الشاب الحالم في مناجاة للمعشوقة في أوراقه..
"ستطلين من وراء الباب، ستبتسمين كما كنت تفعلين دوما، ستعطيني الورقة الملونة وعليها خربشات جميلة ضاجّة بالحب، افتحي الباب، سأعدك، لن أقول لك شيئا عن السلطان، سأخبيء عنك حكاياتي معه"
فإن تحقق لنا هذا الحلم، فما حاجتنا وقتها بالسلطان وأيامه؟!.. تلك الأيام التي يتبين للشاب في حلمه أحيانا، أنها لم تكن بتلك المثالية التي يتخيلها. ففي تلك الأيام كان هناك الفقراء والعبيد...
سترى العبيد يعملون في طاعة السيد، وكل صاحب مال فهو سيد، وكل من لا يجد المال فهو.. عبد""

"تلك ابنة من جاء بشجرة القرنفل للسلطان فحقق بعمله الخير الوفير لغيره، وعاشت ابنته في فقر كالذي تراه"
والفقراء من أين لهم حتى أن يروا السيد؟
"سترانا عمالا في أصغر المهن، وفي الموانيء حمالين، وبيننا من عرف سكة الحكومة فعمل في القضاء والفرضة والجيش.
-         هل رأيت السلطان؟
-         من بعيد حتى أن بصري لا يصل إليه لأتبيّنه.
-         حدثني عنه.
-         كيف أحدثك عمّن لا أكاد أراه بين حاشيته الكبيرة؟!"
وحتى وصوله للحكم يكتشف الحالم أنه ما كان سوى بطعنة في ظهر الوصي على العرش وقتها..
"ورأيت يا لهذا الذي رأيت الرمح يقفز من يد السيد سعيد ملتهبا يمضي في إثر راكب الحصان، حطّت قسوة الرمح في ظهر السيد الهارب من قدره، فسقط من على حصانه".
فربما لم يكن السلطان حتى هو الحلم الحقيقي.. بل وربما كان معوقا لتحقيق الحلم الحقيقي والذي تماهى مع الأميرة الفاتنة: خولة..
"لا وجه أمام عيني سوى وجه خولة، ما إن أتجلى في استحضاره حتى يحلّ عليّ فجأة وجه سيدي السلطان، بنظرات حازمة بادية الغضب، تلك الصورة المنطبعة في ذهني، كأنه غاضب من استحضاري لوجه ابنته الحسناء خولة".
ألم يقرر السلطان في أحد مقاطع الرواية، أن (جوهر) ـ ذلك الذي يرمز لجوهر الحلم ـ هو في الحقيقة واحد من عبيده القدامى..
"رأيت السلطان يوميء لي بالاقتراب، سألني عن الرجل الضخم شديد السواد الذي رآني أتحدث إليه، قال أنه اشتبه في أن يكون واحدا من عبيده القدامى.."
هذه التساؤلات التي تعصف بالذهن بعد الانتهاء من قراءة رواية محمد بن سيف الرحبي (السيد مر من هنا)، أضافت إلى هذه الرواية البديعة ـ في رأيي ـ أبعادا، وآفاقا تجعل الرواية تنادي القارئ لكي يعيد قراءتها مرة وثانية.. فهي تشغله وتدفعه للتساؤل والتأمل.. تماما كما فعلت أوراق الحالم، بالبطل.











                                          عودة
                                                                    

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق