بحث هذه المدونة الإلكترونية

الخميس، 30 يونيو 2011

رواية " السيد مر من هنا " جزء 2



حلم

1

الساعة تقترب من الثالثة فجرا..
الحلم والرحلة، وأنا الصاعد في أنجمها الساقط في قيعانها، الملتبس، المتلبّس، الهاوي من تلال الحكايات، في فمي رمل.. في عيني رمل.. وجهي وجسدي، آه لو أعرف أن ما يزحف إلى روحي رمل أيضا!!
وضعت الأوراق جانبا، ظهري متصلب لساعات من قراءة حلم الرحلة، الطبيب ينظر نحوي من بقعة في الفراغ أمامي، يبتسم، ينتظر كلمات تبدو مترقّبة مني، لماذا أعطاني هذه الأوراق ولم يكد يعرفني جيدا؟ أسئلتي تتراقص في سرابات الضوء، تزيدني حيرة، في العتمة تقبع الإجابات، لا نور يفتت أحجارها ولا نار الحقيقة تتقد، وحده الطبيب يعرف الكلمة السحرية لإراحتي من عذاب حيرتي، هل قلت عذابا؟ سخرت من ذاتي التي تحاول خداعي أيضا، انه هروبي على نحو ما، خشية مواجهة ذاتي ومساءلتها عن واقعها.
الكيس الأسود يطل بفم ساخر أيضا، أوراقه البيضاء كأسنان تتغير في إطلالتها بين ابتسامات، مرة ماكرة، أخرى طيبة، أحيانا مفزعة، الطبيب ومريضه، دوران متوزعان بعناية، هل يشارك الطبيب مريضه أحلامه؟! أم هي أحلام الطبيب يسقطها على شاب قادته الأقدار إليه؟!
نهضت أغلق إضاءة الغرفة، شمعة صغيرة واحدة بقيت في مصباح أحرق شموعه ولم يجد من يبدلها، شعرت بالأوراق تنهض من مكانها، تتطاير فوقي، المشهد يقودني بمخاوفه، عدت إلى الزر الكهربائي للمصباح، وجمعت كل الأوراق، أدخلتها في الدولاب، واضعا عليها زجاجة عطر شبه فارغة، وماكينة حلاقة تكاد الحياة فيها أن تجف.
يا إلهي!!
بعد كل ذلك، ولا حلم يغزوني!!
نومي بدا فارغا.
كسلي يتصاعد إلى قمة رأسي، سعيت للنوم فلم أجد بقايا منه، أيقنت أنه لا ملجأ إلا الخروج، ألقيت الدشداشة على جسدي، تحسست ما تبقى من ريالات في محفظتي، ألغيت كل حسابات حياتي، سيأتي الزمن بحلّ ما.. تناولت الأوراق بنية نسخها، مبعدا عن نفسي فكرة خيانتي للأمانة، الكيس الأسود في مهجعه، أخذته باشتياق غريب، واقفا انتزعت ورقة من آخر أوراقه، كأني أجد الملاذ هناك ..
"عبرت الدرب الترابي العابر لمساحة تقع خلف بيت الساحل، لم ار خولة، كانت العبدات السوداوات يتضاحكن من مرآي، غمزتني إحداهن بطرف عينها، فيما تجرأت أخرى وهزت مؤخرتها كأن إيقاعا إفريقيا تصاعد فجأة، وسمعته لوحدها دون رفيقات لعبها فاهتز كل ما فيها.
ترقبت خروجها ذات يوم، أخذتني فكرة أن أصعد شجرة نارجيل قريبة من ممشاها داخل البيت، وهي تمرق في زحام النساء رأيت عقد الذهب، كبيرا، مبهرا، لمعته تناوش فصوصه، يبدو كتابا صغيرا معلقا من سلاسله الذهبية ليصل إلى وسط لابسته، أي ريح كشفت عنه فتمادى في إغوائي بالأنثى الحاملة له.
كأن شجرة النارجيل تزلزلت أرض تشمخ عليها..
مشيت..
وجدت يدي مشبوكة في يد ضخمة، نظرت إلى صاحبها مع يقيني بأنه ليس إلاه، جوهر، في عينيه ما يقلق، ريح تعبث بروحه، عضلات وجهه مرتبكة، سرنا مسافة من الصمت، بدأت ملامحه تنبسط، في الطريق رأيت امرأة تكاد تهذي، سألت جوهر عنها، قال: تلك ابنة من جاء بشجرة القرنفل للسلطان فحقق بعمله الخير الوفير لغيره، وعاشت ابنته في فقر كالذي تراه، تبعت صدمتي، وأسندت ظهري إلى شجرة ضخمة، لكن جوهر سحبني من يدي بقوة، أسرع بي.. وقال: السلطان سيغادر منزله، وعليك أن تكون معه.
السلطان يدعوني!!
توهمت أنه سأل عني، لكن بأي مسمى وصل إلى مسامع جوهر؟!
قطعت الطريق الواصل بين مزارع القرنفل ومقر إقامة السلطان ركضا، قيل لي: إنه تحرك للتو باتجاه بيت الساحل، ركضت مرة أخرى وكأن الريح تحملني، رأيت السلطان على البعد، في غمضة عين رأيتني أركب ظهر جواد ضمن حاشيته، أخذني سيدي السلطان إلى إحدى استراحاته، وحدثني عن بقيتها.
أخبرني أنها متفرقة في خمسة وأربعين مقاطعة، أولها في زنجبار، وثانيها في كيزيمباني حيث المباني الفاخرة وأشجار القرنفل، وثالثة في مقاطعة كيجيتشي، وتشتركان بالحمامات الفاخرة المقامة خلال زواجه من زوجته الفارسية، ويفصل المقاطعتين مصنع سكر لفرنسي يدعى كلوسون، زنجبار تصدر السكر إلى خارجها، أسرّ مستر جوهر في أذني، ولا أعلم أي ريح جاءت بجوهر، قال أن السلطان خصص مقاطعة شويني للجواري اللاتي لا أبناء لهن، أو ممن مات أبناؤهن، و لمن كان لديهن أطفال صغار.
وفيما كان يمضي في حديثه عن سيدي السلطان، هامسا في أذني ولا أكاد أراه، جاء رجل ووقف بشموخ أمام باب المكان، أذن له سيدي السلطان بالدخول، وفي المسافة بيننا وبينه حدثني جوهر أن الرجل القادم هو موسى نياسا، قائد الحرس الخاص به.
رأيت السلطان يوميء لي بالاقتراب، سألني عن الرجل الضخم شديد السواد الذي رآني أتحدث إليه، قال أنه اشتبه في أن يكون واحدا من عبيده القدامى..
ارتدى الوجود لونا أسودا، فقدت الرؤية، السلطان يعرف جوهر أو لا يعرفه؟!، رآه ولم يره، احتسبت الكلمات على لساني، كيف أرد على السلطان، والسلطان يغرز عينيه في وجهي، يترقب إجابة تبدو مستحيلة الجريان على اللسان؟!.
لم أعد أرى السلطان..
غبت في سواد معتم، لا أعلم كم مضى من الوقت عليه"..
في المستطيل المرسوم بشكل رأسي على زاوية الورقة: "خرج المصلون من مسجد طالب، رأوه يسند ظهره على الجدار، يهذي كمحموم، نظر بعضهم باتجاهه كأي مشهد يومي عادي، اقترب منه رجل في الخمسينيات من عمره، لكزه بعصاه في خاصرته، فتح عينيه في اتجاهه، كمن لم يصدق أنه رأى غير ما كان يتوقع، نهض بسرعة، رأوه يركض باتجاه البعيد، نحو البحر، قفز في الماء، نفر طائر نورس مخلفا خبزته عائمة فوق الماء، عينان ترصدان قلعة الجبل بثبات، منفصلتان عما يوصلهما بما حولهما، ممتلئتان بالكلام".
أخذت كل الأوراق، وأغلقت باب الشقة بلا مبالاة، أسفله أكثر من ورقة لفواتير الماء والكهرباء، الختم الأحمر باد للعين بمخاطر لا تستقر إلا في قعر القلب، الدفع أو القطع..
مهوّما في صحرائي، ورائي سباع وضوار، وأمامي تلال رمل لا نهاية لها، يتناقص الماء من زوّادتي، ولا نبع يبدو في أفقي، أفق الأشياء من حولي.

2

طرقت باب الطبيب، ودخلت..
عيناي في عينيه، انتفض جسده فجأة برؤيتي، أصابتني رعشة تبدو أكبر منه، وجدتني أخرج غالقا الباب بهدوء، منسحبا إلى خارج المستشفى، سيارة الأجرة تبدو غير بعيدة، تحركت فور أن ظهر جسدي للشارع، وجدته ذات الرجل الذي جئت معه..
- لم تتأخر!.
- وأنت لم تذهب.
- شغلتني مكالمة طويلة، وأنت؟
- شغلتني رحلة طويلة؟
لم أنظر إلى عينيه، تجنبت الاصطدام بما فيهما من كلمات لم يجرؤ على قولها لسانه، مضى في دربه، وجدت وقتا لأقرأ قليلا، أخرجت ورقتين من الكيس الأسود، وتشاغلت عمّا حولي..
"السلطان يقلّب هداياه، أعجبت الهدايا سيدي السلطان، وتأمل كثيرا المرايا والأسلحة والشمعدانات، لا أدري لماذا لم ينل الزورق البخاري الفاخر إعجاب السيد، فجأة أمسك سيدي السلطان بيدي وقادني إلى مجلسه، المكان عامر ببشر مختلفين أحجاما وألوانا، لكني في لمحة عين رأيتني وحيدا معه، اختفى الجمع من حولنا، وقال أرو لي ما رأيت، إن البحر موح، والسفر معلم، والأشرعة صبورة..
وجلست أروي لسيدي السلطان، عيناي في عينيه أستجيب لشعاع غريب يأخذني إليهما كلما أردت النظر إلى غيرهما، في تينك العينين لمحت خولة، عينان مورقتان بصفاء لا تأخذه حدّة النظرات، الغور البعيد يمسك بيدي أن اقترب، وأمضي، يدعوني أكثر فأكثر وأمضي، والسلطان يترقب الحكاية، يترك لي مساحة المضي فيما أفكّر فيه، لا يستعجلني على الحكايات، بين رؤية ورؤيا أمضي شاقا محيطي الممتد زرقة وعتمة وغموضا.
قلت له: إن البحر لعجيب وأن الموج لهادر، وسلطانة لا تنحني إلا لك سيدي السلطان، لم أر في البحر دواره، إنما حضورك طاغ، وأحمد بن النعمان سفيرك الذي لا ينطق إلا بما تحب..
تراني سيدي السلطان أمسك على السارية كبحّار، وأسمع محمد بن جمعة ينادي بالبحّارة أن يصمدوا في وجه العاصفة، وأن يهزموها كما يفعلون في كل مرة، لا بحر بدون عواصف، ولا إبحار دون مشقة.
بالحكايات نتسلى، وبالأدعية والقرآن نواجه غضب البحر، ونتحدث عن أمريكا البعيدة كأنها آخر الدنيا، وعمّا ينتظرنا هناك، إن سلمنا مما هنا بين جبال الصخر والموج.
كنت سيدي السلطان بيننا، بعد كل صلاة نبتهل إلى الله أن يحفظك ويحفظنا، وحينما نفطر بعد صوم كل يوم من شهر رمضان ندعو لك، وفي صبيحة العيد دعونا الله كثيرا أن ينصرك ويحفظك.
حينا أمضي الساعات أتأمل في ملكوت بالغ في اتساعاته، لا يحد بزرقته، سماء وبحر، زرقاوان في نهارات الصفاء، أسودان في تقلبات الأحوال، عتمة في عتمة، نحن وخالق كل شيء من حولنا، ندعوه بأمل، ونتضرع برجاء، نقترب إلى الموت حيث لا نشعر أن الحياة ممكنة، وبعد أن تنقشع الغمّة نرى أن الحياة أشد اتساعا مما توهمنا فقد غالبنا الموت حتى غلبناه.
يتصاعد صوت سعدون بالهزيج، يضرب بحّار آخر على ما يتسر له من آنية جالبة لصوت كأنه الطبل، مرات.. غناء كأنه البهجة، ومرة يأتي الصوت كأنه يدعونا للبكاء، تخرج من السواعد قوة يخفيها التعب فتعمل فوق المعتاد.
حينا أهبط إلى قاع السفينة، ألمح طيفك،أحدثك كأني أراك، وتسمعني كأنك تراني، لا يأتي النوم إلى العينين المرهقتين بنهاراتهما إليّ.. وأراني أقص عليك ما أرى في صحوي ومنامي، مغمض العينين أتخيلني أقف أمامك سيدي السلطان أروي لك أوهى التفاصيل، وأراك وأنت تبتسم، كيف نطارد الجرذان بعيدا عن طعامنا، والصراصير المتكاثرة دون الوصول إلى الأرز، وكيف أخفى صالح زجاجة الخمر عن القبطان وليام سليمان، ولولا أن صاحبها قائد سفينتك لكسرها علانية..
- مرات يأتيني جوهر..
- جوهر؟!
يعييني سؤال السيد وأتلفت بحثا عن معين لأجيبه، أغمض عيني كأني أستعيد جوهر أسأله من أنت، وأفتحهما، فلا أجد لا جوهر، ولا سيدي السلطان.. وجدت يقيني يغالب شكي، ولا أحد إلا وحدي، أنهض متمردا على الأرض التي أقعي عليها، وغير بعيد كلاب تتراص تحت ظل تريد نصيبها منه".
هامش بلون وردي باهت: " ذات يوم حمل عدد من أسرة السلطان فانقلب بهم، قالوا أنه عيب في الزورق لا في بحارته، أمر السيد بوضعه على سفينة راسية تسمى شاه غلام.
أشفقت كثيرا على الزورق، تداعت ملامح الجمال فيه، أكلت الرطوبة زخارفه، حاول السلطان إهداءه لووترز فرفض، كانت لغة رفضه الرافضة ما لم يتوقعها أحد، عرضه السيد للبيع فبقي علية القوم والتجار في منأى عن القبول به، وقع أخير في يد القنصل البريطاني، بادله السيد سعيد بقارب ذي مجاديف ستة، سرى في المدينة أن هدية الرئيس الأمريكي الغالية لم تساو أكثر من قارب لا تبلغ قيمته مائتي دولار.
تعرفت اليوم على ناصر اللمكي، يفتش عن رزقه بين مزارع أبيه، في ساعة افتخار يضرب يده على صدره معتزا بأصله الهناوي.. شاب آخر يخطو من البعيد باتجاهنا، يسير الهوينى بجانب السور الشرقي لمزرعة والد ناصر، أخبرني ان هذا صاحبه خالد بن صالح الحارثي، القبيلة التي لها صوت وجاه في الساحل الإفريقي، ألمح ناصر إلى أن خالدا ربما سيكون صهره قريبا، سألني قبل أن يصل صاحبه: أهناوي أنت أم غافري؟ قلت له لا أعرف.. ربما لا هذا ولا ذاك، سألني: ألست من عرب عمان؟ قلت له: نعم، رفع من حدة صوته، وهو يسألني: هل خوفك يدفعك لعدم القول بأنك من الغافرية؟.. كأنك لا تريد القول بأنك من اليمن أو جزر القمر.
اقترب خالد كثيرا، وهو يمد يده يسألني عن اسمي كان سؤاله التالي فورا: من أيّ العرب أنت؟
قلت لا أعرف.. سحبت يدي من يده، ومضيت، أبحث عن سعيد، بين اخوته وأبنائه وأبناء عمومته، يحملون البضائع في الميناء، يعملون لدى رجل الجمارك الهندي.
قلت لرشيد: كأنك من عمان.
أطلت ابتسامته الهادئة، حدثني عن حكايته: جئت تابعا أخي، من جزر القمر جئنا، نعمل على القوارب، ننقل عليها البضائع من السفن الراسية بعيدا عن الميناء إلى الشاطئ، أخي يعمل في منزل رجل إنجليزي، نحن من المخاديمو.
أثار إعجابي التدين البادي في ملامحه وصوته، حدثني عن أمر انتسابهم إلى قريش، احترت في أمر تصديقه".
في وسط الصفحة سهم غليظ يشير إلى ما في أسفلها من بقية.. مكتوب بحبر بدا أغمق..
"اصطادني من حيث لا أدري..
- رآك اليوم مع واحد من الشيها..
- الشيها؟! لا زلت غريبا على البلاد، من يكون؟.
- المسؤول عن قرية يسكنها المخاديمو.
رأيت سرورا باديا على ملامحه من جهلي اسم آخر، نقلني خالد سريعا من ورطتي، قال أن المخاديمو سكان زنجبار الأصليين، لديهم عشرات القرى يسكنوها، وعلى كل قرية مسئول يسمونه شيها يكون مسئولا أيضا أمام سلطان المخاديمو موني مكو، ستراهم كثيرا يعملون في مزارعنا، يقطعون الأخشاب ويقطفون القرنفل ويصيدون الأسماك لأنهم جيران البحر، ولديهم أبناء عمومة يسمون الوتمباتو، قلت له: أليست هذه جزيرة على طرف زنجبار؟ ضحك من معرفتي المتواضعة، قال: نعم، ويحكم الجزيرة موني مكو.
سألت ناصر اللمكي: هل صحيح أنكم لا تعطون الرقيق أجرا عن عملهم؟!
انفجر طوفان من الضحك على ناصر وخالد، شعرت بالحرج، أغرتهما حالتي بمواصلة الضحك ورفع الصوت أكثر فأكثر، خرج من البيت رجل خمسيني يبدو أكبر من عمره، لحية طويلة غزاها الشيب بقوة، تماسك الضاحكان قليلا، خمنت أنه والد أحدهما، اقترب ناصر مصافحا القادم، مقبّلا يده، أيقنت أنه والد خالد.
- لماذا هذا الضحك؟
- هذا الفتى يسألنا عن الرقيق.
بدت الحيرة على الرجل الخمسيني، لم يمهلاه في حيرته كما فعلا معي، أجبت فورا: الذين يعملون معكم في المزارع.
قال الرجل: يا ولدي هؤلاء خدم، اشتريناهم بأموالنا، ونطعمهم ونسقيهم ونكسوهم، فهل يريدون ذلك بدون عمل؟ على أية حال لا يوجد لدي الكثير منهم، أعتقد 300 أو أكثر قليلا يعملون في مزارعي، والمخلصون منهم أعطيتهم قطعة أرض يبنون عليها بيوتا لعائلاتهم، وفيها يزرعون ما يحتاجه من خضروات وفواكه.
أكثر من 300 عبد في مزرعة واحدة!!
باغتني الرقم، كررته بيني ونفسي، وكأنهم سمعوه، أضاف خالد معلومة أخرى لما قاله والده: في مزرعة عمي ألفان، بعضهم وازالا والآخر واكالا.
استعذب تعذيبي بهذه الأسماء التي أجهلها، قال والده: بين العبيد من ولد في زنجبار، والنوع الثاني جاءوا من خارجها، ومن يعملون في المزارع لهم أشغالهم المختلفة عمّن يعلمون على السفن، من أين سمعت كلمة الرقيق؟
أخبرت الرجل: قرأتها في كتاب.
قال: ذلك ما يتهمنا به الإنجليز لمصالحهم، كيف يفكر الكافر فينا!! هؤلاء أعداء المسلمين ومستحيل يعملون لمصلحتنا شيئا، نحن نعين من لدينا من العبيد على الحياة، لكنهم يفعلون بعبيدهم ما لا يجوز في ديننا، نحن نعينهم على العمل، يعملون لدينا خمسة أيام في الأسبوع ولديهم يومان لأعمالهم الخاصة، أما الإنجليز وأصحابهم فيذهبون بهم إلى الحروب ليقتلوا بالنيابة عنهم.
عجبت من منطق الرجل ومعرفته، لم أنتبه إلا لاقتراح قاله الرجل لولده: اذهبا به إلى حي ماليندي وحي نجامبو، وبعد أن يرى حياتهم هناك ادخلوا به مزارعنا ليعرف بنفسه كيف يعيشون هناك وهنا".
رنّ هاتف السائق، بدت سمرته طافحة بالرطوبة، تحدث بلغة لا أفهمها، أعرف أنها سواحيلية، عجبت من مصادفات القدر، أقرأ عن أحوال زنجبار فيكون بجانبي أحد الذين ولدوا هناك، أحد حفدة الذين أقرأ عنهم في أوراق الكيس الأسود، تأملت الكلمات في حديثه، حملتني إلى هناك، كأن أطياف الحلم الذي أقرأ تدفعني لركوب أمواجها والسير إلى.. هناك.
تعجزني مفاصل التاريخ، تبعدني مجاهل الجغرافيا، ربما سأبدأ هناك من جديد، حياة أخرى باسم آخر، واتتني الفكرة.. تلاقت أعيننا، أنا وسائق سيارة الأجرة..
- هل زنجبار بعيدة؟
- لا، ساعات بالطائرة.
- أفكر بالذهاب إليها.
- بلاد جميلة، هل لك أهل هناك؟
- لا، إنما أفكر في الرحلة.
- أي رحلة؟
- لا شيء.. لا شيء.. انتبه، هناك أشغال في الطريق.
هربت للمرة الثانية من التصادم بعينيه، قادم من مستشفى ابن سينا، يتحدث بما يشبه الاختلال واللاتوازن، ماذا سيظن بي؟!
عدت للأوراق..
"أسندت ظهري على سور أحد المزارع منتظرا ناصر اللمكي، وعدني هذا الصباح ليذهب بي إلى السوق،
- ما رأيك أن أذهب بك إلى سليمان.
- من عمان؟
- لا.. انه هندي.
- هندي!!
- هل تظن أن كل هندي هو من البانيان؟البانيان هم التجار الكبار والأثرياء، لكن الهنود المسلمين بينهم صغار التجار، ويعملون مع زوجاتهم في الدكاكين، سليمان من طائفة الخوجه، وهم أناس طيبون يتعاملون معنا وكأننا منهم.
- وأنتم منهم فعلا.. مسلمون.
- أعني أنهم قريبون جدا من جميع الناس، لديهم اجتماع كل يوم جمعه، وينتخبون رئيسا لهم كل سنة، يختلطون معنا كثيرا وليسوا مثل طائفة البهرة، أما طائفة الميمن فعددهم قليل جدا.
- تعرف كثيرا عن أحوال هذه البلاد.
- والدي تاجر كبير جدا، ولا أعمل شيئا إلا متابعة أحوال المكان هنا، بما يساعدنا على توسيع أعمالنا، سأضيف إليك معلومة مهمة، هل تعرف أن الهنود المسلمين يستقرون هنا في زنجبار أما الهندوس أو البانيان فإنهم يأتون فرادى وعندما يشعرون بالاكتفاء من الثروة يعودون إلى بلادهم.. هل تصدق بأن الهنود تحميهم قنصلية بريطانيا وكأنهم مواطنون إنجليز؟.
- البانياااان، إنهم أذكياء جدا.
- فعلا، لو ترى ماذا يفعلون في الموانيء، يستأجرونها ويدفعون للسلطان مبالغ بينما يأخذون أضعافها إلى خزائنهم، هذه زنجبار يا أخي، كأنها الدنيا في جزيرة صغيرة، كل الأديان هنا، وكل المذاهب، وكل ألوان الناس، أباضية وسنة وشيعة ومسيحيين ومجوسا، والبشر متعايشون بفضل حكمة السلطان سعيد.
سرت واللمكي من جانب سور مزرعة إلى أخرى، وصلنا مزرعة ضخمة، قال هنا بيتنا، سألته عن بيت سابق قال: إنه بيتنا أيضا، قال: هناك تعيش زوجة أبي الزنجبارية، أما هنا فتقيم والدتي، لمكية من الرستاق، ابنة عم والدي، سألته ضاحكا: هل اكتفى والدك بزوجتين فقط؟
رأيت ما يشبه أسى خافيا في وجه ناصر، قال: خليها على الله.
دخلنا باب المزرعة، صادفنا شابين لما يبلغا العشرين بعد، معهما ثلاثة أطفال صغار، سألته: هل هؤلاء من ابناء العبيد في مزرعتكم؟ صمت ناصر، بدا غاضبا، لم يستطع إخفاء الحنق بعيدا عن ملامح وجهه، حدثهما بالسواحلية، لم أفهم ما قالا، سرنا باتجاه منزله الواقع وسط غابة من الأشجار، أغلبها من النوع المثمر، حبات النارجيل متساقطة في بقع كثيرة، بيت بلون أبيض مزخرفة حوافه كأنه حصن أنيق، حدثني عن أكواخ الطين والخشب التي وجدوها عندما اشترى والده المزرعة قبل خمسة أعوام، لم تكن زنجبار تعرف إلا هذا النوع من البناء، أقام والدهم بيتا كبيرا، ونقل إليه زوجته ابنة عمه.
في طريق الخروج صادفنا والده داخلا، معه الشابان اللذان رأيناهما أثناء دخولنا، قال والده: أخبرني اخوانك أنك هنا.
اخوانه؟.. كأن جبلا تساقط دفعة واحدة في أعماقي، أدركت سر غضب ناصر، أراد مداراة الأمر، جاء والده فكشف السواتر، تجنّب ناصر النظر إليّ مباشرة، انسحبت من بينهم كأني أرمق جمال المكان، الهواء الذي يضرب أغصان الأشجار بقوة، بدت السماء كئيبة، تنذر بمطر شديد هذا المساء".
هل انتبهت متأخرا للسائق وهو يدعوني للنزول بجانب المكان الذي أخذني منه؟!
رأيت يلوّح برأسه، نظرت إليه، أطلت نظرتي، في لحظة لا أعرف اتساعها أمعنت النظر في عينيه مباشرة، متخيلا عالما جاء منه هذا الرجل، حفيد من هو سيكون؟! هل يعرف جده ناصر اللمكي أو خالد بن صالح الحارثي، أو ربما خدم جده في بيت الساحل!.

3

غرفتي تزداد ضيقا، أشعر باقتراب جدرانها يوما بعد آخر.. الحياة تمنحني فرصة واسعة للسير في طرقاتها أكثر فأكثر، كأني خارج عن وجودي السابق، لا أحد يصل إليّ من عالم يفتّش عني عبر المحاكم والقضايا الرافعة أصابع الاتهام في وجهي..
- أين أموال الناس؟.
- لا أعرف.
- هل تعرف أن أحدهم عجز عن شراء دفاتر المدرسة لأطفاله؟
- ربما، لكن هذا ما حدث.
- والأموال؟.
- تبخّرت.
لا يصدق سائلي أجوبتي، ولا أحتمل أسئلة متشابهة تكررت على سمعي أشهر فترة التحقيق، مجرد شريك صغير جاء بمشتركين جدد، هم من ألحّوا، هم من جاؤوا بعشرات الآلاف حتى منزلي، آآآه، هل قلت منزلي؟! لا أريد أن أعلم شيئا، عليّ بالأوراق، أمضي فيها ليلي، لا أريد أن أنظر إلا إلى الكيس الأسود يفتح فمه عن أوراق بيضاء، أسير مع رحلة الرجل، كيف سأراه بعد أن شاهدني أدخل على طبيبه، سيعتقد أن مؤامرة حتّمت سرقتي للأوراق، وزيارتي للطبيب في مستشفى ابن سينا.. قلّبت الأمر في رأسي فوق قدرتي على إغواء الأوراق الساخرة من حيرتي، المتكدسة على طرف فراشي.. تناولتها جميعا، وبدأت القراءة..
"مضى السلطان، وقد وجدتني معه، إلى البنجلة، ساعة أخرى وأخرى تأتي، قام كعادته يذرع المكان، كأنه يدخل حالة عميقة من الغياب، ... فجأة دخلت زوجته الشركسية جيليفدان تتبعها ابنها سالمة، لا أدري كيف انتبه لدخولهما البنجلة وهو الغارق في التفكير، ابتسم وتوجه نحوها، كأنهما وحدهما في المكان انطلقا في حديث هامس، وانشغلت سالمة بما احضره لها أحد الخدم بأمر من والدها، عصير وشيكولاته، ربما ليلهيها عن مشاغباتها وتعطليها لحديث أبيها وأمها.
قادتني أقدامي إلى بيت المتوني، حركة غير عادية، أناس كثر يخرجون من غرف ويدخلون أخرى، السلالم كخلية نحل، سالمة تتنقل بخفة جميلة باسمة، تتقبل هدايا الوداع وقبلاته، أخذتها والدتها من يدها قاطعة عليها فرحة الطفل بهداياه، قالت لها: علينا أن نودع السيدة عزة.
بوغتت سالمة، لا تريد في هذا الانتشاء أن ترى المرأة المتمحور فرحها بالبعد عنها، دخلت غرفتها، للمرة الأولى رأت السيدة عزة تنهض من جلستها لتصافحهم، وخصت سالمة بالسماح لها بتقبيل أصابع يدها، لم يكن في خلد سالمة إلا الخروج على حلم ألا ترى هذه السيدة مرة أخرى.
قبل أن تخطو سالمة خطوتها الأخيرة بعيدا عن بيت الموتني اقتربت منها امرأة زنجية كبيرة في السن، وناولتها صرة صغيرة ملفوفة بورق الموز: "إنها لك يا سيدتي الصغيرة، أول شيء ينضج في مزرعتي"، أزاحت سالمة اللفافة سريعا، كان بداخلها رأس ذرة، فرحت سالمة كثيرا بالهدية الدالة على المحبة، ابتهجت الزنجية مستديرة لسيدتها جيليفدان، ابتسمت السيدة الأم لخادمتها، وعبر الموكب الصغير باب بيت الموتني.
وفي تيارات الحلم المتسارعة بلا منطقية، الحلم دائما خارج حدود المنطق ورغباتنا، وجدتني أقف على الشاطيء أراقب رحيل سالمة وأمها، وما يتبعهما من خدم وحشم إلى بيت الواتورو، على الحافة بين الرمل والماء وقف قبطان المركب السلطاني (الرحماني) ينتظر القادمين، أعد مركبين شراعيين، أحدهما للركوب، والثاني للحراسة ونقل حاشية سالمة وأمها مع المتاع وما تكاثر فيه من هدايا الوداع.
وقفت على الساحل أراقب المشهد، امتد لوح خشبي بين رمل الشاطئ والمركب الذي أجبرته ضحالة الماء على الرسو بعيدا، رفع خادم سالمة بين ذراعيه فوق الماء حاملا جسدها بين الرمل والمركب، لمحت جوهر، كان مشغولا بالإشراف على رحلة الانتقال.. سيدي السلطان هناك في البنجلة يبعث من يطمئنه على ترتيبات السفر".

4

شعرت بالعطش، نهضت أفتش عن جرعة ماء في بقايا الزجاجات البلاستيكية الحاملة لأسماء مختلفة، لا أثر في بطونها لقطرة.. فتحت باب الحمام، رائحته مقززة، حياة البؤس كما أصفها دائما، ها هي تسوّرني بمقبرتها المكشوفة على جثث متعفنة، فتحت حنفية الماء فانهمر السائل بلون بني انتظرت صفائه نحو دقيقة، محتملا عفونة المكان، ملأت زجاجة وخرجت بها إلى الغرفة، بدت رائحتها لطيفة، طرقات على الباب، لم أهتم، جلبة صوت حادّة لم أتبيّن إلا غضبتها من الباب المغلق في وجه الطارق دائما، وضعت في رأسي نيّة الخروج بعد الحادية عشر ليلا فقط، شربت نحو نصفها محتملا سخونتها، مؤملا النفس أن ذلك صحّي وأفضل، تناولت الأوراق..
"أخذني إلى بلاط السلطان، كان يوم جمعة، قبل التاسعة صباحا كنّا أمام باب بيت الساحل، دخلنا قاعة كبرى في الطابق الأرضي، وصلنا ضمن جموع من الناس، أدركت لماذا ألح عليّ أن أرتدي ملابس بيضاء، الجميع كانوا كذلك، هناك من وصل لوحده، ومنهم من احتشد وراءه أتباع كثر، أحرار وعبيد، دخل الأحرار وبقي العبيد ينتظرون أسيادهم.
أخذت مكانا على السجاد الفخم، الساعة التاسعة هبط السلطان من جناحه يرافقه حشد من أولاده، وقفنا جميعا، وانحنينا على إيقاع واحد، ولامست يدي يد السلطان مصافحة، وفعلت ذلك مع جميع أولاده، صمت الحضور ليتحدث السلطان، فتدفق صوته حانيا لا يخلو من هيبته، وبعدها تكلم من أراد الكلام، لم أسمعهم وبقيت شفاه السيد وحدها تتحرك حديثا أمام عيني وسائر كياني، وهبط علينا ماء الورد يرشه الخدم إعلانا بانتهاء جلسة البلاط، رأيت السلطان يقف فوقفت، كما فعل الجميع، وانصرفوا إلا من أراد السلطان لأمر خاص، بقيت ضمنهم ريثما يعود السلطان من جناحه الخاص بعد مناقشة أمور قيل إنها سرية، انفضّ الجمع، بقيت وحدي.
وفيما سيدي السلطان منشغل بوداعيات أبنائه وأفراد رعيته المقربين، التفت يمينا فألفيت جوهر يقترب بفمه من أذني، قال اسمع ولا تلتفت، لا يوجد بن أولاد السيد سعيد شقيقان، كان يخشى ذلك، إنما شقيقات فقط.. عشرات الأبناء والبنات، أجهل كيف واتته رياح النسل كما يشتهي، ولا أدري كيف رأيته ذات الحصان الذي كان عليه السيد بدر متلقيا الرمح في ظهره، سألني رفيقي عمّا طاف على وجهي من تقلصات التذكر، لم أشأ إلا الصمت، خلته فطن إلى ما فكرت فيه، فمضي يخبرني: بعد مقتل ابن عمه بدر وجد السلطان نفسه وحيدا على عرش السلطة، أخاه سالم الذي شاركه الحكم مات بالشلل عام 1821 للميلاد، وسبقه السيد حمد حين مات في معركة البحرين عام 1816 للميلاد.
ما الذي دعا جوهر ليقول لي هذا الآن، وفي حضرة السلطان؟!
التفت إليه لأسأله الخبر اليقين، لم يكن إلا الفراغ المتبقي بيني وآخر حرس السلطان الملتفين بأحزمة الرصاص قابضين على بنادقهم كأنهم آخر ضمانة لهم في الحياة.
مضيت كأنه لا أحد يراني، أو كأني من أبناء السلطان، آخذا طريقي إلى داخل بيت الساحل، قلت لعبد صادفته برغبتي في رؤية خولة، فجأة حطّ جوهر طائرا خرافيا كغراب بالغ الضخامة، جاحظ العينين محمرّ الحدقتين، غاضبا من تصرّفي..
- لكنني من خاصة السلطان.
- أنت غريب في بلاد غريبة.
- لكن سيدي السلطان...
- أنت مجرد حالم لا أكثر، اخرج من القصر خير لك.
- ليس قبل أن أرى خولة.
- خولة فتاة بالغة لا يجوز أن يراها أحد إلا أفراد بيت السلطان.
هدأ روع جوهر، طال صمته، حرته دهرا، تكدّس في لحظات بيني وهذا الكائن الخرافي، تناول يدي بإحساس الرضا، ومضى بي نحو بيت الواتورو ، كأننا من سكّانه دخلناه بحميمية لم ننتظر إذنا، استدرنا من الباب الخارجي يمينا ثم إلى أقصى اليسار حيث الإسطبلات، تتفرع منها طرقات تحدّدها أشجار متكاثفة، هناك رأيتها، الطفلة التي خمنت أنها في الرابعة عشر أو أكثر تتقافز ضاحكة، وجهها الحاد الشبيه بملامح والدها، اقتربت منها لأحدّثها، مكثت برهة سمعت فيها ردّ التحيّة، وغادرتني على ظهر حصان يليق بحمل ابنة السلطان، ثم آبت، بين الحلم واللاحلم سمعت أنها حدّثتني، قالت: منذ أن كنا أطفالا في الخامسة علمونا ركوب الخيل، مرتان في اليوم، أول الصباح وبدايات المساء، يرافقنا أحد الخدم، نسير بما يحفظ صداقتنا مع حيوانات المكان، ومن يبرز يعطى مطية خاصة به، الفتى من حقه اختيار واحدة من الخيل العربية العتاق، وما أكثرها في إسطبلات والدي، أما البنت فلها بغل عماني أبيض مزركش بالزينة الغالية ومثقلا سرجه بالحلي النفيس، ذات يوم سابقت أخي حمدان، لكن جذعا طويلا بارزا لشجرة سدّ عليّ الطريق فجأة، قفزت من الحصان مفزوعة، بعض الإصابات القابلة للتداوي أفضل من موت محقق لو اصطدم رأسي بالجذع مباشرة.
بصوت الأنثى البالغة الناضجة تمضي سالمة في حديثها العذب، وددت لو أنها لا تتوقف، وأن تعبها من ركوب الخيل لا يهدأ حتى تجلس في ثرثرة الأطفال حينما يستمع إليهم أحد، قالت إن أمها غير راغبة في تعلّمها ركوب الخيل، لكن أخيها ماجد أصرّ منذ انتقالها إلى بيت الواترلو فعل ما تريد، سألتها: هل أمك من عمان؟
أجابت الطفلة بضحكة أرادت أن تبدي بها تميّزها: جاءت أمي إلى هنا منذ سنوات طويلة، شركسية لم تعرف من الدنيا سوى قصة هجوم الغزاة على قبو التجؤوا إليه حينما نشبت الحرب في بلادها، اكتشف الغزاة المخبأ، قتلوا والديها، وحملوها طفلة لمّا تبلغ الرابعة من العمر، مع أخيها وأختها، ثلاثة أطفال تفرقت بهم السبل، سمعت أنها وصلت إلى هنا وعمرها سبع سنوات، عاشت ضمن أطفال البيت، أبناء السلطان.
مرقت أمها فجأة، رأيتها ببياض وجهها وطول قامتها، قوية بنيان الجسم، في عينيها السوداوين يطل حزن معتّق، بدا أنه جمّلهما، مرّت، كأنها لم تر أحدا، صمتت سالمة، ترقبت مرور والدتها، قالت: لا تفكر إلا في عمل الخير، تعالج مرضى البيت الكبير، بيدها دائما مصحف وعطاء.. بتقواها وورعها وطيبتها كسبت قلب أبي، لا تطلب إلا لغيرها، وكان أبي لا يبخل عليها بما تطلبه، يقدّرها حتى أنه إذا دخلت عليه ينهض من مقعده ويتقدم من أجلها خطوتين، وذلك شرف لا يمنحه أبي إلا لقليلات من زوجاته الكثيرات.
- زوجاته؟
- قل سراريه، أو جواريه، أو إيمائه، بالعشرات.. فليس له زوجة سوى..
- عزة بنت سيف.. ابنة عمه.
- وحدها السيدة.
- كأنك تكرهينها.
- لست وحدي، كل من في البيت البيت يكرهها، متعالية، مغرورة، علينا جميعا واجب السلام عليها كل صباح، لا أتذكر مرة ابتسمت، الحمد لله على أنها لم تنجب.
- لماذاا؟
- هكذا نكون جميعا أبناء السلطان متساوين.. حتى في الشيكولاته الفرنسية التي يوزعها علينا كل صباح، تعلم أنه لا يمكن لأحد من عائلته الدخول عليه إلا بكامل أناقته وزينته؟! حتى أبنائه الصغار، ذات مرة غافلت مربيتي وذهبت إليه، لكنه أمر أحد خدمه وأخرجني من غرفة أبي لأعود مرتدية ما يستوجب المثول أمام حضرة السلطان والأب.
ندت تنهيدة قوية من صدر السيدة، ونهضت غائبة في ردهات البيت، جاءني صوت جوهر: انهض.. وعد.
سألني جوهر: كم قدّرت عمرها؟
أجبته: الرابعة عشر، وعندما تحدثت قلت إنها تختزن سنوات أخرى في جسدها الضئيل.
صوّب لي جوهر نظرة لم أميّز معناها، كانت حمرة الغضب في عينيه لا تزال.
خرجت من المدينة أسير على غير هدى، أراود نفسي بمزيد من المتعة، مشيت كثيرا، خارجا من عمران المدينة لا شيء إلا الدروب، أخذتني متعة تسكعي للسير قريبا من نهر المتوني، رأيت السيدة عزة تجلس في شرفة المنزل ويحييها أطفال القصر ووصيفاته، معتزة بنفسها، سمعت أنه لا أحب إليها من ابن أكبر أبناء السيد هلال ابن السلطان سعيد، حتى اعتقد البعض أنه ابنها.
كان قصر سيدي السلطان مهيبا يجاور اخضرار المكان، سماه باسم النهر، ليس بيتا، بل حارة واسعة الامتداد.. مجموعة أبنية داخل سور واحد، تذكرت حينما أخذني سيدي السلطان إلى داخله، للمرة الأولى في حياتي أشاهد الحيوانات رؤيا العين.. أسود وغزلان .. طواويس تختال.. وحمام يتطاير من شجرة إلى أخرى، ونعامات تتهادى بأعناقها الطويلة محدثة الصوت الغريب، يهوى سيدي هذا المكان كثيرا، يقيم فيه أكثر أوقاته، لا أدري كيف سيكون بعد أن ينتهي من بناء بيت الرأس، يريده سيدي تحفته الأجمل في سلطنته الأفريقية.
"وفي مسافة لا أتبيّنها بين صحوي وغيابي.. رأيت السيد وفي يديه أوراق، ينظر إليها بفتور، كمن أحبط من شيء، وضعها جانبا، تناولها مجالسه، بدت عليه الحيرة أيضا، عرف أن القرنفل لم يجد سوقا له في أمريكا، قال لي الشخص الذي جالس السيد ولا أعرفه أن تكاليف الرحلة بلغت 6179 دولارا، وليس من ضمنها الطعام الذي حملته السفينة معها مبحرة إلى الميناء البعيدة، قال: إن الربح أقل بكثير مما يمكن أن يكون من تجارة المحيط الهندي، بدا السيد ممتعضا من الضرائب التي فرضت على تجارته في ميناء نيويورك، قال أنه لن يجد ما يدفعه لتكرار التجربة مرة أخرى، منعه قانون الحماية الجمركية المفروض في الولايات المتحدة من فعل ذلك.
أعادني بصري إلى حيث أقف، ضائعا في دروب زنجبار، انهمر المطر بشدة لم أحتملها، أخذت من الشاطئ دربا إلى بيت الساحل، سرت بجوار الجدار العالي للوصول إلى بوابته الرئيسية، للمرة التي لا أعرف كم رمقت المدافع التسعة، في كل مرة أحسبها ثلاثة ثلاثة، المنزل يشمخ بطابقيه وقرميد سقفه الأحمر يتوسط بستانا من الرمان، رفعت عيني إلى الشرفات الطويلة، تمنيت أن أراها، حظي عثر هذا اليوم، المطر طردني من الشاطئ، ووجه خولة لا يبين لي باستدارة قمرية على شرفة البيت، خطرت لي فكرة أن أذهب لقاعة الاجتماعات، ربما أرى سيدي فيها على غير موعد، أوقفني أحد الخدم، نصحني بالخروج، بدا لي محذرا أكثر من ناصحا، قال إن سيده يأتي هنا ثلاثة أيام في الأسبوع، ولن أراه لا اليوم ولا ما بعده، أخذت نفسي نافذا من البوابة الرئيسية مستديرا خلف البيت، كانت هناك الإسطبلات الضامة لخيول سيدي السلطان، كل شيء كان ساكنا، وحده المطر يقرع الأشياء بشدة، لا صوت إلا صوته، احتميت بسقف يحميني منه، ولذت بإغماضة عيني".
أغمضت عيني أيضا، أداوي بالنوم ما مسّني من نصب، الشمس لا تزال في الخارج تلسع المكان بحرارتها مع أن الوقت وصل إلى بداية الربع الأخير من العام.. في إغماضتي توهمت أن سقف الغرفة هبط أكثر، يكاد يلمس وجهي.

5

المقهى على فم سوق مطرح شبه خاو، الصباح لم يكتمل بعد على جبال المدينة، الشمس تراود قمم الجبال بخجل، تحسست بضع أوراق انتزعتها من الكيس الأسود لأقرأها بعيدا عن اختناق غرفتي، مبتعدا عن مفاجآت صاحب الشقة الباحث عني، الأوراق في جيبي، أحاذر عليها، أخشى إخراجها فيباغتني صاحبها.
خطرت لي فكرة الذهاب إلى الطبيب في مستشفى ابن سينا، شعرت بنفسي تتحاشى ذلك، منذ أن رأيت النظرة في عيني الشاب الجالس أمامه أحسست بشيء أعجز عن إدراكه، هناك يرتمي في قاع روحي فيعذبني كلما تذكرته، العينان المتسعتان ترميان بشررهما في وجهي، لم أرهما مرة أخرى، السوق جاف وأحجاره متوترة، زخارفه لا معنى لها، مرارة تتصاعد إلى حلقي، بضعة عمّال يتحركون بجلجلة لغتهم، أبواب السوق تتصاعد واحدا بعد آخر نحو السقف القابض على الباب، طلبت كوب الشاي بالحليب، مداريا بالطاولة ما بين يدي بدأت أقرأ:
"التقيت سعيد، العربي الحضرمي، رأيته يعمل كثيرا.. يرمقني بعين متوهجة، ينادي بصوت عال على أسماء عمّال فيلتفون حوله مسرعين كأنه يدعوهم للنجاة، سواعد محروقة تتوهج بالحرارة تحت شمس زنجبار، سألته عن داره التي جاء منها، قال: أتى بي جوعي إلى هنا، أعمل وأبنائي وأخوتي في حاميات السلطان، ومن يوفر لنا الطعام من أرز وخبز وسمن بالعمل معه، أغلبنا فقراء، نأخذ في العام ما يقارب الخمسة والثلاثين دولارا، سترانا عمالا في أصغر المهن، وفي الموانيء حمالين، وبيننا من عرف سكة الحكومة فعمل في القضاء والفرضة والجيش.
- هل رأيت السلطان؟
- من بعيد حتى أن بصري لا يصل إليه لأتبيّنه.
- حدثني عنه.
- كيف أحدثك عمّن لا أكاد أراه بين حاشيته الكبيرة؟!
- وهل رأيت خولة؟!
في غمضة عين وانتباهتها رأيت بجواره يقف جوهر، ما الذي جاء به في هذه اللحظة؟! رجل الحلم المارق بيني ونفسي، لم يكمل الحضرمي حديثه، كانت يد جوهر تقبض على ذراعي وتشدّني شدا، بعد أن غصنا في الطريق المحفوف بأشجار النارجيل في جهته اليمنى وأشجار لا أتبيّن أسماءها من جهة أخرى جاء صوت جوهر هادرا..
- لقد بلغ السيد ماجد اليوم مرتبة الرجال.
- لم أفهم.
- اعتاد سيدي السلطان أن يحتفل وبمراسم تقليدية يترأسها بحضور كبار القوم من وزراء وقضاة ليعلن وصول أحد أبنائه إلى مرحلة البلوغ.
- وكيف؟
- ليست محددة بعمر معين، قد تكون ثمانية عشرة عاما أو عشرين، أمّا ماجد فلم يبلغها بعد، وإنما بلغها بما رآه والده فيه من صلاح رأي ودماثة خلق.
- وماذا يعني ذلك؟
- أن يكون له داره الخاصة، ويعطيه والده خدما وحشما وجيادا ومكافأة شهرية تجري عليه طوال حياته.
وصلنا البنجلة، يدي في يد جوهر، وحينا أجدها معلقة في الفراغ، خلق كثيرون كأنه يوم عيد، السلطان في صدر المكان بمهابة كأني أراها للمرة الأولى، صفوف من حملة البنادق يجلسون وراءه حراسة على مبعدة أمتار قليلة، قلة منهم يجلسون وراءه مباشرة، أبناء السلطان الكبار يجلسون قريبا منه، الصغار في شقاواتهم يحدثون جلبة فتحاول أمهاتهم إسكاتهم، تحدّث السلطان فألقى الصمت في المكان مع كلمته الأولى، كان ماجد يبهر الحضور بعلو قامته ومكانته، بدا فارسا يتقلّد نياشين النصر".
هوى تعب بالغ الضخامة على وجهي.. حرقة تفصدت في عيني.
أصابني قرف غريب من عالمي، وددت لو غصت في عالم أوراقي من جديد، لكن قرفي أحاطني بقوة، أذرعته اخطبوطية سدّت المنافذ من حولي.
تطلعت إلى الشارع البحري، لا حلّ سواه.
وضعت المائة بيسة على الطاولة، آخذا دربي إلى الجهة الأقرب للبحر، أغوتني روح المغامرة بالسير نحو القلعة، سرت خطواتي .. عين على البحر وأخرى صوب القلعة الواقفة بكبرياء على الجبل، الشمس تلقي ضوءها الحارق صوب بصري، وبصري غارق في مشهدي البحر والقلعة.
كمن توهّم رأيت ما حسبته أنه واقف هناك، يتحدث إلى حارس القلعة، يترقب سفينة السلطان تتأهب للإبحار نحو البلاد اللابعيدة، عجزت قدماي عن صعود الجبل، فأبت متخذا طريقي عائدا إلى غرفتي، محتملا جموح جدرانها وصخب بابها.

6

كيس خبز واستدارة صندوق صغير تصطف فيه أجبان مثلثة، وزجاجة ماء كبيرة، وأمامي باب شقة تحتوي على غرفة تضمني كمأوى دنيوي أخير، عدت إلى تسليتي الوحيدة، كيس أسود يقبض على أوراق بيضاء عليها خطوط ملونة يبدو لعبة يتلهّى بها طفل أضجره كل شيء من حوله، لم يبق الكثير من الأوراق، ماذا سأفعل حينما تنتهي؟
فاجأني سؤالي، ندمت على سماحي له بالتصاعد من داخلي، وددت لو قمعته قبل أن يقهرني بإجابته الغائبة، لكنه صعد وألقى مرارته في دمي، بحثت في الأوراق حيث انتهيت، وصلت إلى بداية أخرى لرحلة مجهول راسم خطوط خرائطها.. طاف على رأسي الطبيب، القابض على إجابة أحتاجها، لكني أعجز أن أسأله، النظرة تحرقني منذ أن ألقاها الجالس أمامه في عيني، أشعر بجمرهما مشتعلا في جميع شراييني، صفحة تترقبني بأعين مفتوحة:
"عرفت طريقي إلى بيت الواتورو ، يمينا من الباب الخارجي ثم إلى أقصى الشمال، وصولا إلى الإسطبلات، كأنها على الموعد، تجلس متعبة، مهمومة كما يحلو لأميرة أن تخطّط، جلست قريبا وأمضيت بالصمت حديث البدايات، قذّرت أن إقامتها بعيدا عن بقية اخوتها الصغار سبب همومها، ذكّرتها أنني شاهدتها تنتقل مع أمها إلى هذا البيت.
- لو انتقلتم إلى بيت الساحل، كنتم في طريقكم إليه.
- إنما رسونا قريبا منه، ولم ندخله، كانت أختي خديجه، شقيقة ماجد تنتظرنا في البيت الجديد، قريبا من بيت الساحل، أحببت دخوله لكن أمي منعتني، وعدتني بزيارته عندما يعود أبي إليه من بيت المتوني.. آآه على هذا البيت، افتقدته كثيرا، افتقدت اخواني واخواتي، الحركة التي لا تهدأ ليل نهار، افتقدت نهر المتوني أدفع في سواقيه زورقي الشراعي الجميل، لقد أهديته إلى أحد اخوتي قبل مغادرتنا، وجدت بيت الواتورو مملا، أصابني ضيق وضجر كبيرين، سألت أمي متى سنعود إلى بيتنا القديم، لكنها لا تملك الإجابة، هي تنفذ وصيتها لساره، أم أخي ماجد، تعاهدتا أن من تموت أولا على الأخرى أن تراعي أبناء المتوفية وكأنهم أولادها.. هي هنا لتبر بالعهد.
استمعت إليها، تحدثت سالمة كثيرا، بعود صغير كانت ترسم على الأرض تصاوير وحروف، لم تصمت: أتدري أنني وجدت ضالتي في صراعات الديوك المتكاثرة في بيت أخي؟! كل يوم كنا نأمر العبيد بإطلاق هذه الديوك لنمضي الوقت مستمتعين بنزالاتها.. حاولت ألا أقع أسيرة الضجر إنما أستنهض همتي في التميز، كان أخي ماجد يأخذني إلى أحد المزارع ليعلمني الرمي بالبندقية والمسدس، لم ترض والدتي كثيرا عن هذا الفعل، بل قبلته على مضض، وفي الأوقات التي لا يكون فيها ماجد معي يعلمني الخادم سرور على دروس الفروسية.
قاطعتها: وهل خولة تجيد الفروسية أيضا؟
ردت بغضب صغير: خولة؟ .. ما الذي جعلك تسأل عن أختي خولة؟ لدي أخوات أخريات فلماذا تسأل عنها هي؟
- لم أكن أعني..
- إنما تعني، أدرك أنك تعني، خولة أمر مختلف في هذه الجزيرة، ليس في هذه الجزيرة فقط، بل في كل الساحل الأفريقي وربما عمان، ذاع وصفها.
- رأيتها..
- رايتها حقا؟!
- نعم، لكني..
- لم تستطيع محادثتها، أعرف ذلك، خولة تدرك ما هي عليه من جمال أخاذ، منذ أن رأيتها في بيت الساحل وقد صارت معبودتي ومثالي، كانت فريدة عائلتنا في الحسن والجمال، والابنة المفضلة لوالدي السلطان، لا يقول غير ذلك إلا حاسد أو حاقد، فهي مضرب المثل في فتنة الوجه الجميل وسحر العيون النجل، مرة شاهدها قادم من عمان وقد كان يلعب بالسيف، وحينما أطلت خولة..
- وضع السيف على قدمه ولولا أن نبهه أحد أن قدمه تنزف بشدة لمات..
- إذن تعرف الحكاية.
- ومن منا لا يعرفها في الجزيرة وما جاورها من ممالك أبيك السلطان، إنما أردت معرفة أكثر عن الحكاية، فقد تنطوي على مبالغة.
- خولة ساحرة الرجال والنساء على السواء.
- نعم، نعم، خولة، زيديني أخبارا عنها.
- يكفيك يا هذا، إنها أسرار بيوت أبي السلطان، فامض بعيدا.
وتركت سالمة، الصبية المتدفقة بالحياة تفتّش عن طريقها بين دروب الحياة.
وتركتها ليهبّ ريح الحلم عليّ بقوّة، يد تمسك بيدي، يد السلطان بقوتها وحنوّها، بصمتي تدثرت أحاذر اللاحلم غائصا في الحلم بكل ما أوتيت من قدرة، أخذني سيدي السلطان إلى طريق يتلوى بين مزارع، حدثني كثيرا..
كان عبيد، أحد خدم السلطان القدامى ينتظر أمام بيته المزاوج في بنائه بين طين وأخشاب، بدا لي أن لديه مناسبة ما، خلته ينتظر قدوم سيدي السلطان أمام بيته ليحييه، عرفت لاحقا أن الأخبار وصلته باتجاه السيد لهذا الدرب، وقف ليرى ولي نعمته، أخذته الدهشة أكثر مني، جاء السلطان ليهنئه بمناسبة زواج ولده.. الدمع يملأ عيني عبيد، انكب على قدمي السلطان يشكره منفجرا في بكاء شديد، رفعه سيدي السلطان من ثوب دشداشته برفق، أوقفه على قدميه، بارك له سريعا ومضى آيبا، في ارتباكة الموقف أطلت مكوثي أمام عبيد، خرج سكان البيت واحدا بعد آخر، قدم آخرون من معارف عبيد، في انتحابه الصامت لا يجد قوة ليشرح.
أووووه، انتبهت فجأة إلى أن سيدي السلطان مضى دوني.. ركضت في الدروب الملتوية، متشابهة، كلما قلت أن الدرب هذه التي جئنا منها قالت درب أخرى أنها المسلك الصحيح، حلّ عليّ الليل وكأنه هوى فجأة، حينما داعب عيني النعاس استيقظت مخاوفي من زواحف تمرح بين المزارع وداخلها، حشرات أخشاها كثيرا، رأيت ولا أدري في صحوي أو منامي أن الماء يخرج من نهر المتوني بغزارة، يزعزع أسيجة المزارع وجدرانها، وأنا أصيح بسيدي السلطان أن يأتي لينقذني من الغرق، خنقتني المخاوف، مرة أشعر أنه مجرد كابوس شديد الرعب فاقرأ ما استطعت من القرآن، ومرة أراه حقيقة هائلة أمامي فأصرخ".
في مستطيل بخطوط أربعة ملونة بثقل بيّن ظهر من جانبها الآخر: "على مدخل سوق مطرح، قريبا من البحر، رأى العامل الهندي، جامع القمامة، شابا يهذي، حينا يقرأ آيات من القرآن، وحينا يستغيث، تجمّع عمّال يعرفهم السوق بعد كل فجر، رطانتهم لها صوت مجلجل، يرتفع شيئا فشيئا كلما زاد آخر.. فجأة فتح عينيه، تجول فيهم جميعا، واحدا واحدا، أصلح من جلسته، تمدد تحت السلم الموصل بين الشارع والسوق، ونام".

7

شعرت بالجوع..
مزقت بتوتر كيس الخبز، وسحبت ترتجف بخفة الخيط الأحمر المستدير حول صندوق الجبن، هرست بأصابعي الجبنة على استدارة الخبزة، أكلت واحدة، ثم أغرتني الثانية، يد تقبض على الخبزة المدوّرة، أخرى تمسك بورقة منبسطة.. عين تتبع الأسطر المتناثرة ..
"اتجهنا لبيت الساحل، حينما رأى الحارس سيده قادما من بعيد تقافز كظبي، كأنه غالب كبر سنّه فجأة، لحيته بيضاء تكاد تغطي كامل وجهه الأسود لولا فسحة للعينين والجبين، فمه شبه فارغ من الأسنان، سلمت عليه فلم يرد التحية، اكتفى بابتسامة السلطان، وكان وراءنا جمع من حشم السلطان وعبيده وحراسه، رأيت وجه الحارس مستعيدا بسرعة ملامح الغلظة والعبوس، ما إن عبرنا بوابة المنزل حتى جاءني صوت السلطان:
- هذا سعيد.. النوبي الوفي، خدمنا طويلا، قربناه لسبب آخر أيضا.
- ما هو سيدي السلطان؟.
- في لحظة غضب كدت أهوي بسيفي على أحد أصدقائي لولا جرأة سعيد وشهامته لكان من بين الأموات، ولندمت على ذلك ندما ما بعده ندم.. يا بني اذهب فانظر بيت الساحل وسأذهب لبعض أمري.
وكالمغمض العينين أخذني جوهر من يدي، وقال: تعال معي..
كأنني فتحت عيني فجأة، فلم يعد أمامي جوهر، سعيد النوبي يحرس بيت الساحل، رآني أو لم يرني، لم أتبيّن في غياب صحوي شيئا، رأيته أصغر من بيت المتوني، لكنه أكثر حركة، صعدت إلى الطابق الثاني، غرف جلوس عديدة تنفتح على شرفة واسعة ترتكز على أعمدة مرتفعة من أرض القصر إليها فتتعداها إلى السقف العالي لها، في الشرفة رأيت مصابيح لا يحصى عددها، بها جمع كبير من ساكني المنزل، بعضهم يجلس على كراسي وثيرة تتكاثر لتجمع أكبر عدد ممكن من القوم، لم يكن مشهد الميناء بعيدا، هناك رأيت سفنا كثيرا تستوي على البحر، سفن السلطان ومراكبه.
وجهت بصري نحو ساحة القصر من خلال الدرابزين، رأيت جمعا كبيرا من البشر، على المرأى سلّمان كبيران صاعدان إلى الطابق الثاني، وعليهما الحركة لا تهدأ صعودا أو نزولا، والواقفون تحتهما ينتظرون فرصتهم للصعود، والمنتظرون أعلاهما يتحينان فرصة للنزول.
نزلت باتجاه بقعة أخرى من القصر، أغنام وأبقار لا تحصى يعمل على ذبحها جزارون، ويتولى عبيد نقل كميات هائلة من اللحم للمطبخ القريب، يقال إن أكثر من ألف شخص يسكنون المنزل، أسياد كثيرون وعبيد يفوقونهم عددا، مجموعة ضخمة من العبيد حليقي الرؤوس يجلسون بجانب جرار الماء بكسل واسترخاء، لا يأبهون كثيرا لطلبات الاستعجال، يطل عليهم شخص ضخم الجثة يتطاير الشرر من عينيه، وفي يده سوط جلدي غليظ، عرفت أنه رئيس الخصيان، لا أثر لهم في لحظة، وفي لحظة تالية يعودون وعلى ظهورهم حمولة الماء، ليس ببعيد تجمع عدد كبير من الخدم أمام مراجل الطعام.. فوضى وصخب ومشاجرات لا يردع استمراريتها سوى ظهور شخص آخر ضخم الجثة ينهال بالشتائم والصفعات على كل ما تطاله يده من وجوه العبيد، تهدأ الفوضي قليلا، وتعاود كرّتها كلما غاب الرجل الضخم عن المكان، أثارتني الحركة.. دخان وضجيج ولحوم تلقى في بطون المراجل، وآخرون يتذوقون الطعام.
رأيت الرجل الضخم المشرف على المطبخ فهرعت إليه، قلت له أنني جئت مع السلطان، رمقني بغضب كأني به غير مصدق..
- هل يحتاج القصر إلى كل هذه الأطنان من اللحوم يوميا؟.
- هذا إن كنا نطبخ لحما، أما في يوم السمك فإن عشرات السلال تأتي به، والسمكة الكبيرة لا يستطيع حملها اثنان أو ثلاثة.
أدار وجهه بعيدا عني، رأيت طابورا من الرجال يتجه من ناحية باب القصر، لا أعرف كم كانوا على وجه التحديد.. ثلاثون.. أربعون.. خمسون.. على رؤوسهم سلال فيها فاكهة كثيرة، يلقيها الخدم المتعبون من الحمل غير آبهين بما يصيبها من تلف، يأتي رجل ضخم بعصاه الجلدية فيضرب من يتأخر في الهروب.
زوجات السلطان الشركسيات يمشين بخيلاء بين ضراتهن الزنجيات، يتفاخرن بنبل أصلهن، نظرات حاسدة كانها الشرر تنطلق من الحبشيات اللاتي يرين في لون أجسادهن نقيصة، تقاطيع أجسادهن جميلة، أدركت أن السلطان يجد في هذه الأجساد الملتهبة ما يغريه لاتخاذهن زوجات وجواري.
خليط غريب في القصر، ألوان وأشكال، أجساد ووجوه وعيون متباينة اللون والشكل، همس جوهر يأتيني.. جمشيد، بشرة بيضاء وعينان زرقاوان.. وشريفة، الجميلة والرزينة، شركسية الأم القريبة من السلطان، حصيفة الرأي، تزوجت من رآه والدها لا يليق بها، لكنه أدرك سعة أفقها فأعادها إلى قربه، تلك نونو، الطفلة التي تبحث عن عيون الأطفال لتفقأها، أمها تاج الحسن التي لجمالها سميت بتاجا، رزقها الله هذه الطفلة المحرومة من نعمة البصر، فكانت تسأل عن كل طفل يولد هل يرى، وكيف هي أهدابه، في العاشرة عاد إليها يقينها بأن القدر قال كلمته فتغيّرت، ترتدي زيها الأنيق وكأنها ترى نفسها في المرآة، تدور حول نفسها كما تفعل المبصرات إذ ارتدين المدهش من الأزياء".
عدة صفحات مضت دون مربعات أو مستطيلات أو هوامش، بحثت متعمدا عنها في الصفحات التالية حتى وجدته:
"هل عرفني حارس بيت الساحل حينما دخلت البيت؟
سألتها، لم أرها طفلة، كانت كبيرة، أكبر من الجسد الصغير الذي أراه.
أجابتني السيدة سالمة: آآه، سعيد النوبي، إنه رجل المفاتيح، نرهقه دوما، نخبىء مفاتيح القصر، وهي مجموعة كبيرة مؤتمن عليها، في زاوية بالقصر فينقلب حال المسكين باحثا عنها ساعات طوال وكأن مصيبة عظيمة حلّت عليه، مهما حاولت إخفاءها فلا أمتلك قدرة أخي الصغير جمشيد في ذلك، لديه قدرة فائقة، إنما سعيد يفرح بأنه عثر عليها ولا يستطيع المسكين فعل شيء ضدنا".
هامش في نهاية الصفحة تكاد حروف سطره الأخيرة تضيع على طرفها: "مضيت في التواءات دروب مطرح لا ألوي على شيء، يأخذني الدرب للدرب، عبرت دكان سالمين، ناداني بصوته المبحوح، تكرر مرات، التفت إليه على عجل، كأني رأيت فيه وجه جوهر، الوجه الأسود المستدير والعيون الواسعة ببياضها البيّن.. جوهر، مستر جوهر".
في الصفحة التالية بدا لي أن الخطّ مهتز بما يشي باختلاف كاتبه عمّا سبقه أو أنها حالة مزاجية صعبة المقاومة..
"سالمين أمام دكانه، رآه العابرون بين يدين متشنجتين تهزه، يناديه بجوهر، مأخوذا سالمين لا يجد كلمة أمام الاندفاعة الصادمة، جوهر، جوهر، جوهر..
أطلق صوته أخيرا، أنا عمك سالمين.. أنا عمك سالمين، أنا لست جوهر.
فجأة حطّت اليدان عنه، أصابهما خذلان مباغت، ومضى صاحبهما عنه يغمغم بما استطاع من قدرة على الكلمات.
رأى عابرون سالمين يسأل أحدهم عن جوهر الذي تشبّه به قبل قليل، ضحك من ضحك، واكتفى بعضهم بهز رؤوسهم، وقال آخرون كلمات من نوع مسكين.
أصلح سالمين ما أصاب دشداشته، محاذرا المزيد من الأعين المصوّبة إليه، انشغل بترتيب ما في دكانه، يتلفت على مهل كأنه يخشى أن تعود اليدان المتشنجتان صوبه ثانية.
هزّ سالمين رأسه بضيق واضح، تابع ببصره الدرب حيث تلاشى ذلك الكائن في آخر مدى، غاب بين زحام العمّال الباكستانيين والهنود المتحاورين بصوت كثيف، يتلقفون الأكواب البلاستكية يمتصون رشفات الشاي.
مضى نحو بيت تآكلت أسس جدرانه، هناك لمحوه.
على الباب المغلق يمسك مغلاقه..
كان بإمكانه تحطيمه بيد غاضبة..
يكتفي بوهم ما، يخشى شيئا ما.
تمدد أمام الباب.
بالكاد، التفت إليه عابر".
أحاول مع نفسي الكفّ عن الأسئلة.. الطبيب ومريضه، سالمين، اليد الواضعة لأسطر الحكاية، العقل المتسوّر موانع ممتدة بين عصرين، بين مكانين، هل هي يد واحدة ألقت بالكلمات مكتوبة؟ هل هو عقل واحد تسوّر تلك المسافات والسنوات؟!
انتبهت إلى أن الخبزة انتهت من بين يدي اليمني، وقد ألفيتها لا تقبض على شيء، تاركة لشقيقتها الانتقال من ورقة إلى أخرى، تخيلت جوهر يأتي إليّ متسورا نافذة غرفتي، يأكل معي خبزة ملتوية على جبنة، فجأة جاءتني رائحة حلوى، خطر لي أن أزور شعبان، ليس ببعيد عن مسجد طالب، في درب ما يمرّ هناك.

8

ألقمت الكيس الأسود نثار الأوراق من حولي، أبقيت قليلها المتبقي في يدي، شارفت رحلتي معها على الوصول للحافة الأخيرة، هي حافتي أيضا، سأفتقد هذه العزلة الباذخة وستأتيني أخرى باردة بحرقة الصقيع المرهق للروح فوق كل شيء.
صوّبتني فكرة إلى وجهتها، ألحّت عليّ أن أؤجل قراءة ما تبقى، شعاع أمل أعود إليه في أقسى أوقات الروح صقيعا، أتدفأ به، أوراق أخشى نهاياتها، بدايات لا أتبيّنها والمسار أمامي متعرّج حد الدوار، انكشاف الذات على عريها أمام سطوة العالم من حولها، هارب بمعنى ما، هارب مني، منهم، أحلم بأوراق أخرى من هارب أيضا، تعرفه أحجار سوق مطرح، بائعوها، المفتشون عن لقمة عيش بنكهة رطوبة البحر في صيف المدينة، بالبخور الدائر كدوامة يصافح أنوفا تمزج روائح البشر بروائح العطر، مزيج أسطوري ينفذ إلى الرئات المتكاثرة، القادمة من وراء الجبال ومن خلف البحار.
إلى أين أمضي؟
لا شيء إلا اللاشيء.
ومقهى في سوق مطرح يقبض على عنق المكان، وآخر يتفيأ السكينة يطل من الأعلى كتباين البشر الجالسين في المقهى السفلي وذلك الساكن فوقه.
السيد سعيد بن سلطان.. تهجيت الاسم كثيرا، انزلق على لساني طويلا، الحاكم الحكيم، ذاكرتي لا تسعفني بالوافر عنه، عنوان عريض في رأسي جاء من الأمس طاف عرضيا على هذه الذاكرة المثقلة بأكثر مما ينبغي.
تحركت عيناي صوب الأوراق المتبقية، سطر أول يتبع للآخر..
"لم يكن لي إلا الوداع، أنظر إلى سلطانة تبحر إلى انجلترا، حملت هدايا وخيولا عربية إلى ملكة انجلترا فيكتوريا، اختار السيد سعيد قبطانا أمريكيا أيضا يسمى ويلسون.. عامان مرّا منذ أن ذهبت إلى أقصى الدنيا، الولايات المتحدة.
جلت قليلا في طريقي إلى بيت أحمد بن النعمان لأخبره بما رأيت، حدّثني عابر سبيل صادفته أن ابن النعمان خرج للتو من منزله، تتبعت خطى أقدامي سائرة بين المزارع، كانت أقداري تأخذني إلى درب يمشي فيه ابن النعمان، صحت فيه من بعيد، التفت حيث الصوت يلاحقه، ملامحه موسومة بحزن عميق، تحاول العينان إبعاده عن المارّة..
- لم الكدر وأنت ابن النعمان، المقرب من سيدي السلطان.
- كدر دنيوي لا مناص منه، أردت شراء مزرعة لأولادي فعجزت عن تدبير سبعين دولارا أحتاجها لإكمال البيع.
- وأنت القادم من رحلة بعدها ما بعدها؟
- لم أعد من الرحلة إلا بنحو 242 دولارا فقط.
- ظننت أنكم تأخذون مرتبات ضخمة.
- ذلك ظنكم، أما نحن فيهمنا ظن سيدنا السلطان فينا.
ومضى ابن النعمان في طريقه، وأخذني ما يشبه الحلم في درب هبطت عليّ كسماء، أو نزلت عليها كأرض، رأيتني أبكي بحرقة، حدثني أحدهم، وكأنه الحلم بأن السفينة سلطانة غرقت حيثما كانت عائدة من الهند، جنحت مقابل جزيرة وارين القريبة من جزيرة بمبا، لم يكن إنقاذها ممكنا، شعرت أن جزءا غاليا مني مات فجأة، استعدت ذكريات أشهرا من حياتي على السفينة سلطانة، كيف يحرق الحلم السنوات في لحظة؟!، كيف تختزل أشباه الأحلام الأشياء في عيّنة زمنية قصيرة؟!.
اقترب مني جوهر، في ذهنه حكاية ما، حدثني عن خالد الذي قاد المعارك في ممباسا عام 1837 للميلاد وفي سيوى عام 1844 للميلاد.. سألت جوهر عن معنى تلك المعلومة وما وراءها، ذكّرني بأن السيد سعيد في عمان، قلت له: أعرف، قال إنه ولّى حكم إفريقيا لابنه خالد إلا أنه مات بمرض رئوي.. صحت كأني أدرك مدى حزن سيدي السلطان على ابنه: ماااات.
كان عمر السيد خالد 35 عاما.
عرفت أن سيدي السلطان حزن كثيرا، وأخبرني جوهر أن ما أحزن السيد حزنا آخر موت ابنه هلال وهو في طريقه إلى مكة.
يا لهذا الموت، أخذ مقربا آخر من سيدي السلطان، مات الشيخ حسن بن ابراهيم الفارسي، أمر سيدي السلطان أن يكون أحمد بن النعمان وزيرا لوزارة التجارة ووزارة الخارجية، في نفس منزلة الشيخ الطيب.
همست في أذن جوهر.. أصدقني القول يا جوهر، أين توفي السيد هلال؟
كأنه ألقى بضعة أفكار في رأسي، وقال: عليك بأحلامك إن أردت أن تصدقها دون غيرها..
.. رأيتني أتبعه في عدن، يترقب وصول بقية عائلته حيث اختار تلك المدينة مستقرا له، كانت ضمن القادمين زوجته الشركسية وابنه فيصل وكان عمره 12 عاما، ورأيت معهم نحو عشر نساء و22 رجلا من الخدم وستة خيول، وفي ضبابية المشهد قيل بأن السيد هلال قد مات، وبعد أيام رأيت السيدين سعود وفيصل ومعهم بقية الحاشية يركبون سفينة والدهم البغلة متجهين إلى مسقط، ورأيت السلطان يستقبلهم، كان حزن السيد على ابنه كبيرا..
سمعت ألمه يتصاعد: آه لو تدري حزني على هلال.. أأتوني بأبنائه سعود وفيصل ومحمد.
قال أحدهم لسيدي السلطان: كان من الممكن أن يفقد عقله.
هدأ حزن السلطان.. إلا قليلا.
- أين ذهب بك الحلم.
- أراني السلطان.
- السلطان في عمان، إنما تعال معي.
خرجت ممّا يشبه القرب من الحلم، ممّا يشبه البعد عن الغيبوبة، يدي في يد جوهر، قال: سأعرفك اليوم على الشيخ ناصر بن جاعد بن خميس الخروصي.
في الطريق إلى منزله حدثني عنه، يقال انه يجنّد الجن لخدمته، ذات ليل حمل رسالة من السلطان إلى ابنه ثويني في عمان، وأعاد له الرد في اليوم التالي، بما خفّف القلق عن السلطان، لم يشك لحظة في أن العالم الكبير حمل الخطاب في الليلة نفسها مسلما الابن الرسالة يدا بيد، وتسلم جوابه عليه يدا بيد، وفي الصباح حمل البشرى إلى السلطان القلق، وقال له اطمئن.
باب البيت لا يختلف كثيرا عن بيوت خاصة السلطان، خشبي يقاوم الرطوبة والأمطار، لم تمتد يد لتدق على الباب، وجوه سبقتنا وأخرى وراءنا تقصد بيت الشيخ، وقور يجلس في آخر مجلسه المستطيل والممتد بصفين من المخدات البسيطة على يمين وشمال يلتقيان بصف آخر حيث الشيخ يستمع إلى أحد ضيوفه، هيبته بادية وبلحيته البيضاء الكثيفة على وجه مشرق بصفاء الإيمان يعطي رائيه الثقة وسكون النفس.
حديث هامس لا يصل إلينا، الضيف يسأل والشيخ يجيب، ينهض الأول ويبقى الثاني منتظرا من يتقدم إليه، كتب بان عليها كثرة ما لمستها الأيادي، أخرى مدسوسة في جراب قماشي وضعها الشيخ فوق بعضها البعض، كاد أن يخلو المجلس من جالسيه فدفعني جوهر إلى الشيخ فتقدمت، صافحته فكأنما روحي كادت أن تحملني كريح، حلّقت بي فوق جنان ذات أنهار، وكان يتحدث وروحي تصعد بي نحو سماوات علا، ورأيت يدي الشيخ تضغط عليّ، وعيناي مثبتتان في عينيه، انزلقت يدي من بين يديه وانسحبت من مجلسه، جاءني صوت جوهر ورائي يقول: لا أسألك عمّا جرى لك بل أخبرك بأن القاضي هنا يحكم في بيته، ومن لا يريد البت في قضيته في منازل القضاة عليه أن يتوجه لبيت الساحل.
في طريق عودتنا عدّد جوهر بعضا منهم: الشيخ عبدالله بن مبارك النزوي والشيخ محمد بن علي المنذري والشيخ هلال بن سعيد بني عرابة والشيح محيي الدين ابن الشيخ القحطاني.والشيخ عبدالعزيز بن عبدالغني الأموي، وأخرون لم أعد أتذكر أسماءهم جيدا".
هامش شعرت باهتزازات اليد التي كتبته، ملقى في وسط الصفحة بلون أزرق: "لا يعرفون له بيت، يأتي فجأة، يغيب فجاءات.
لا يعلمون من أين تلقي به الحياة في أزقتهم، اعتادوا على الرؤية وعدمها، الحضور ونقيضه.
يرونه في أمكنة مختلفة، يقولون إنهم يلاحظون وجوده في أمكنة متعددة وفي الوقت نفسه، يحاولون تخيّل حياة أخرى له، يتسلون حينا بنسيج خيالاتهم إذ يتذكرونه، تزحف الحكايات إلى أمسيات مطرح في الليلة نفسها، تتناسل منه أخرى في الليالي التالية، والقادمون من خارجها قد يعودون إلى قراهم وفي بقعة ما داخلهم التصقت ذرات حكاية سمعوها من بائع أو مشتر.
يشيرون إليه بوصف ما، لا اسم له، لم يسألوه يوما عن اسمه، ماذا سيفعلون بالاسم وله صفات كثيرة.. المجنون، المخبول، أو ما شابه ذلك في اللغة واللهجات".
أكملت بقية الورقة:
"سألت جوهر عن سيدي التاجر لا سيدي السلطان، يبدو أني أضحكت جوهر حتى أنه لم يخف انفعال تقاطيع وجهه وحركات عضلات شفاهه مجلجلة بالضحك، قال: السلطان ليس بتاجر، تأتي السفن بالبضاعة فيقسمها بين عدد من التجار الهنود، كل حسب قدرته التجارية، وكان يفرض عليهم البضائع، كان هناك طلب عليها أم لم يكن، ويأخذ نسبة ربح منهم 20 أو 25 بالمائة، قلت بحدة: إن في ذلك ما لا يليق بسيدي السلطان، تجمّعت خطوط على وجه جوهر، زمجر بالقول: ذلك يحدث في الشرق كله.
رأيت السفن الأمريكية تحمل إلى زنجبار المنسوجات القطنية والأواني الفخارية والبنادق والبارود ومستلزمات بناء السفن والساعات والأحذية وصناعات لم تر زنجبار مثلها، وحينما تعود تحمل الصمغ والقرنفل والعاج.
وصل إلى مسامعي ما يفيد بأن سفينة تدعى غزالة ستكرر فعلة سلطانة، حاملة الصمغ العربي إلى أمريكا، عامان مرّا عن رحلتي تلك، ليتني أعود إلى هناك على ظهر غزالة، لكن أثار أمرها غضب القنصل الأمريكي ووترز، فاشترى شحنة الصمغ التي يريد السلطان بيعها في أمريكا.
وفيما أتأرجح في حبال رؤياي جاءني جوهر مسرعا وغاضبا:
- اركض أيها الفتي.
- وماذا هناك؟
- أحد أبناء السيد سيبلغ السابعة؟
- وماذا يعني ذلك؟
- سيتم ختانه، وستقام احتفالات كبيرة ستراها ثلاثة أيام.
استدرنا حول بيت الواتورو الذي أقام فيه السيد ماجد مع والدته وأخته السيدة خديجه (وينطقونها حينا خدوجي)، على مبعدة خمسة أميال عن المدينة رأينا بيت الراس، بدأت جدرانه في النهوض، يريده السلطان لإقامة بناته.
في الطريق إلى مكان الاحتفال حدثني جوهر عن سالمة: ألقت الرعب في القلوب هذا اليوم، تسلقت شجرة نارجيل عالية بدون حبل البنتكو، يا لهذه الصغيرة الماكرة، إنها تحب لفت الأنظار إليها، هي فرحة تشير إليهم من منتصف الشجرة، وهم في أشد حالات الخوف عليها، آآه لو رأيتهم في المساء يأتون إليها بالهدايا لأنها هبطت بسلام.
سالت جوهر عن البناء الملحق ببيت الساحل، قال: إنهم يسمونه البيت الثاني، آه لو رأيته في عزه ذلك البيت، كانت هناك الأميرة الفارسية شيزاده، إذا شئت سمّها الزوجة الشرعية الثانية بعد السيدة عزة بنت سيف، سكنت الطابق الثاني تاركة الأول لنحو مائة وخمسين فارسا من بني قومها جاءوا معها يوم أن تزوجها السلطان، لو رأيتها وهي تخرج في وضح النهار راكبة الخيل، فرس على فرس، تحب الترف والسرف، محبة لأبناء زوجها جميعهم، كنا نراها في حاشيتها جميلة فوق الوصف، مرتدية ملابس ليس من هذه البلاد، مطرزة باللؤلؤ الطبيعي، سمعت أن اللؤلؤ المتساقط من ملابسها تعطيه لخدمها.
- لماذا طلقها سيدي السلطان؟
- كانت تريد الثروة والجاه من السلطان، وقلبها مع غيره، وكاد عنقها يسقط بيد سيدي السلطان لولا...
- سعيد النوبي.
- نعم، سعيد النوبي..
- أمسك يدي السلطان.
- كيف عرفت؟
- هو المنقذ كما تروي الحكايات، أيمسك يد السلطان الهاوية بالسيف القاضي على المذنب.
- لا أجادلك، اكتفي بطلاقها وعودتها إلى بلادها.
سألت جوهر بما حسبته بريئا:
- وأولادها؟
- إنها لا تنجب.
- وزوجته الشرعية الأولى لا تنجب أيضا!
- ماذا تعني؟
- يا لحظ هذا السلطان، أبناءه من جواريه لا من نسائه الشرعيات.
- إنهن زوجاته أيضا.
.. ولم أجد سوى الصمت، عاجزا عن الفهم".
مربع يسكن منتصف الصفحة بأضلاع مستطيلة كأنها قيست باتزان مريب، وبحبر أخضر غامق: "في بندر عباس قاتل السلطان أعداءه الفرس، كأنه شاهد شيزاده مع الأعداء تقاتل، وتخبر جنود قومها بأفراد السلطان ليقتلوهم، قال جوهر الحكاية، بضع كلمات، وتوارى".
تعود الصفحة إلى الخط السابق الأزرق قبل أن يقطع تواصله المربع: "حدثتني نفسي أن أرى البيت الثاني، متصلا بالجسم ببيت الساحل، منفصلا بالاسم عنه، عبر رواق قصير يمر على حمام تركي اتجهت إليه، تخيلت الأميرة الفارسية تختال بين ما أصبح اليوم أطلال مجد، كأني رأيتها محاذرة الوقوع ترفع أثوابها تصعد السلم على الزاوية هناك، اللؤلؤ يتساقط، حبة تتدحرج نحو خادم يقف بذلّ، لا ينحني ليلتقط اللؤلؤ، ينتظر غيابها في غرفتها بالطابق الثاني، يزاحمه عبد آخر على اللؤلؤة، باحثا عن أخرى اندست وراء صندوق خشبي مزخرف، لكنها هناك لا تسمع سوى صوت أنوثتها فقط وهي تتأمل صناديق اللؤلؤ والمجوهرات.
اقتربت منّي فتاة لم أتبيّن وجهها جيدا في العتمة المضلّة، قالت: أنا سالمة، ألا تتذكرني أيها الغريب.
كبرت الطفلة، كبر جسدها، أصبحت امرأة في فورة شبابها تختال كطاووس يبين حسنها كلما عبرت بين خدمها، بلا مقدمات أشارت إلى بيت الساحل وملحقه البيت الثاني، راوية قصة الطاووس الذي كان يتجرأ عليهم حينما يتنقلون بين البيتين، ذات مرة هاجم الطاووس أخيها جمشيد، أصرت ورفاقها على الانتقام منه، تقول بفرح طفولي: نتفنا ريشه الجميل حتى جعلناه بشع المنظر مكسور الخاطر.
كأن العمر لم يجر بها سنوات تقارب العشر حكت عن الطفولة البعيدة، ذكرياتها الأثيرة في قلبها، قالت: ذات مرة جيء إلى القصر بفتاتين شركسيتين، حاولت إحداهما الاستعلاء علينا، تولت أختي شيوان خطة الانتقام منها، دخلنا غرفتها وكانت تغني أغنية بلهجة بلادها، حملناها من أرجوحتها السواحلية وألقيناها أرضا، ضحكنا بقوة ونحن نرى الفزع والدهشة في وجهها، ظلت تبكي وهي تتحسس جسدها المصاب برضوض في أكثر من بقعة.
قلت لها أخبريني أكثر عن سيدي السلطان، الأب الذي يعطي أبنائه لا السلطان الذي يهب خاصته وعامّته، قالت: إن أبواب الخزائن لا تنفتح إلا عندما يريد والدي السلطان، إن زادت العائلة فردا جديدا، مولودا جديدا أو زوجة أخرى التي حالما تصل تعطى ذهبا وجواهر ومالا.. في اليوم السابع للمولود الجديد يحمل السلطان هداياه ذاهبا إلى زيارته، يعطيه أكثر مما يعطي أمه، صمتت، عيناها في البعيد، تجنبت خدش مسارات تيهها بكلمة، عادت عيناها نحوي، كأنها تسترجع ما تريد البوح عنه: في بيت الواتورو كنت وحيدة، كرهت حياة الأديرة في بيت المتوني، عزة بنت سيف حوّلت حياتنا إلى حياة خالية من المتعة، إنما بيت الساحل حركة لا تهدأ، سألني والدي السلطان ذات يوم: هل وجدت في بيت الواتورو من يعطيك حساء الحليب؟، في هذا البيت عشت حالات القلق على أخي ماجد، لم يكن بمأمن عن نوبات الصرع، كانت أمي وخديجة تتناوبان ليل نهار لمراقبته خاصة وقت استحمامه، ينادينه كل بضعة دقائق ويرد من داخل الحمام: نعم، مازلت حيا، اليوم زرت ابنتي أخي خالد، شومبو وفارشو، ملتصقتان ببعضهما رغم أن أم كل منهما لها رأي مختلف".
كعاصفة حلّت فجأة، من ملامحها أدركت أنها مرأة شركسية، تشبه حد التطابق أم السيدة سالمة، لها قامة مهيبة لا يضاهيها أحد في المدينة، نظرت في عيني مباشرة، كم أدركت في لحظات قوتها، ونفاذ عيونها، ارتبكت، تسمرت في مكاني، سألتني السيدة خولة عن ارتباكي، وقبل أن أجيبها عرفت إجابتي، قالت: إنها خورشيد، زوجة أبيها السلطان، والدة خالد، والمتحكمة به، نصحتني: احذرها، فإنها ذات شخصية خارقة، مقامها في العائلة عال، لكنني لا أحبها.
أخذني جوهر من يدي وقال: أسرع، اقتربنا من بيت الساحل، سمعنا صوت غناء شجي وحنون، قال: إنه صوت عامرة، رأى في ملامحي عدم فهم، قال: هي فتاة عربية عمياء تغني في حضرة السلطان، لم يترك لي فرصة أسئلة أخرى، ذهب بي إلى الشرفة الواسعة، رايت السلطان بين عشرات من نسائه وعائلته، وتدور القهوة والعصائر، على مسافة رأيت الجنود السود بأسلحتهم كأنهم قطع ديكور في مشهد عائلي، همس جوهر في أذني وقال أنها طقوس السلطان بعد انتهائه من الطعام، يسمع أحيانا صوت تلك الآلة وتسمى الأرغن، لكن الجميع يحبون صوت عامرة.
في لحظة وجدت المشهد مختلفا، في الطريق خروجا نبتعد عن بيت الساحل، ناولني جوهر نبتة، وقال هذه تسمى البيتل فامضغها إن شئت، لكن إياك أن يراك السلطان تلوكها في فمك، شيئا فشيئا ستشعر بالخدر في جسدك، ولن تجد أفريقيّا لا يضعها في فمه.
- إنني لست من هذه البلاد.
- عليك أن تكون منهم، لماذا لا تطلب من السلطان أن يمنحك خدما؟
- وماذا سأفعل بهم وأنا كما تعرف من أنا.. الحالم لا يحتاج عبيدا؟
- في بيت السلطان وعلية القوم يبدأ الطفل بمربية، وبعد بضعة أشهر يمنح خادمين، وكلما كبر أكثر استحق خدما أكثر، ومن يموت لديه خادم يعطى بديلا عنه، أو مبلغا من المال مجزيا".
في هامش على صفحة قرأت: "رأيت في قصور السلطان الكراسي والأرائك والطاولات وخزانات الملابس وخزائن المال، والسجاد من كل شكل ولون، زخارف لا أجمل للعين منها، وتحف لا يحيد الناظر عنها".
أغرتني لعبة الهوامش، قلبت عددا من الأوراق لا همّ لي سوى هوامشها، وجدت عبارة زيّنت بخبر حولها، لم تكن واضحة كثيرا، حاولت تتبع كلماتها: "رأيت عربة من النوع الذي يجره حصان، لم أر السلطان عليه ذات يوم، سألت رجل الحلم عن ذلك، قالوا: إنه لا طريق تتسع لمرور العربة، وقد أهدتها الملكة فكتوريا للسلطان.
وضع دائرة على بضعة اسطر كتبها في الورقة بالطول: "رأيت اليوم سيدي السلطان من بعيد، راكبا حصانه، لم يرني، همس في أذني صوت جوهر، قال أنه ذاهب لمعايدة أحد الشخصيات المعروفة، يا لعظمة سيدي".
وضع خطوطا ثقيلة تحت الجملة الأخيرة، من وراء الصفحة بدا الحبر مخترقا الورقة.
هامش آخر: "اليوم توفي الشيخ ناصر بن جاعد الخروصي ورأسه على حجر السلطان، عن واحد وسبعين عاما".
مربع أخير في الورقة الأخيرة الباقية بين يدي، قرأتها بتمعن كبير، حرفا حرفا، أحاول أن أطيل من الزمن، كمحكوم عليه بالإعدام يسير خطوته الأخيرة إلى حبل المشنقة، النهاية الحارقة والباردة في آن واحد:
"تصل الكلمات إلى حلقي، أحاول قتلها بإخراجها من فمي، لكن لساني لا يساعدني للتخلص منها، الطفلة الشقية لم تعد طفلة، لكنها بقيت بشقاوة الباحث عن ذاته بين وجوه لا حصر لها، قاومت عجزي، وأطلقت رصاص الكلمات كما استشعر مخاوف انكشافها:
- لولا ظنك في عقلي لسألتك عن جوهر.
- جوهر؟! كيف تعرفت عليه؟!
- أعرف أنه ليس موجودا إلا في عقلي.
- لا أيها الغريب، إنه من قدامى الرجال الذين كانوا في خدمة أبي، حتى إنه أشرف على أمر انتقالنا..
- أمر انتقالكم من بيت المتوني إلى بيت الواتورو؟.
- نعم، كان ذلك هو جوهر.
- جوهر؟! حسبته رجلا لا يعيش إلا في خيالي فقط..
غبشت الصورة في عيني كثيرا، كأني ما رأيت جوهرا، ولا سالمة..
انتبهت إلى أنها تناديني..
- أيها الغريب، انتبه، سأقول لك إنه كان هناك، أمره أبي بالإشراف على ترتيبات الرحلة لثقته في إخلاصه لنا، إنما لا أعرف هل صعد إلى المركب معنا أم بقي في مكانه ليذهب ويطمئن أبي على نبأ مغادرتنا، لقد أخذتني نومة منذ أن غادرنا الشاطئ وحتى وصولنا المرسى قريبا من بيت الساحل".
وضعت آخر ورقة من يدي، تبعت سابقاتها على فراشي الباهت، واتتني حالة من البكاء، سعيت أن أمنع نفسي، بدت كآخر ورقة في دفتر أيامي.

8

المقهى العلوي يقاوم كسله الرطب، لا أثر له، أوراقي احترقت بانتهائي من حروفها، المدينة باردة، باردة جدا، الرطوبة تكتسح الملابس فتلصقها على الأجساد، تلهيت بمجلات وصحف اكتشفت وجودها على طاولة صغيرة داخل المقهى قريبا من المحاسب، قلبتها بسرعة، شدني موضوع عنوانه الحصان العربي الأسود، قصيدة كتبها مستشرق إنجليزي عن حصان للسيد سعيد، قرأتها بتشوق كأنها ورقة مستلة من الكيس الأسود الراقد في غرفتي، أو الهاجع على صدر صاحبه الغائب.
استأذنت أحد العاملين في المقهى وأخذت المجلة معي.. أغوتني فكرة البحث عن الشاب.. هبطت من السلم بوهم أنه ينتظرني في بقعة ما.. سرت من فم السوق المطلة على البحر نحو نهاياته في الجهة الأخرى، أجساد تصطدم بي، أتلافى غيرها، روائح البخور تلح على رأسي كأنها تصل إليه للمرة الأولى، آخذا دربي إلى مسجد طالب أتلفت برأسي في كل اتجاه، لعله يخرج من سكة صغيرة حاملا العصا في يده، أو دفتر إذ يأتيه صحوه، الخباز الباكستاني يضرب بيده داخل الفرن ملصقا الرغيف في بطنه، الطرقات ملآى، لا شيء سوى الوجوه التي لا أريدها، أخذت دربا ترابيا نحو حارة جيدان، وصلت إلى المقبرة، استدرت عائدا بخواء مقيت.
صعدت إلى المقهى مرة أخرى، تلقي المصادفات في أتونها كل شيء، جالس على ذات الطاولة التي كنت أجلس عليها، سرت نحوه بجرأة لا تحد، وضعت المجلة أمامه على الصفحة ذات القصيدة، رفع رأسه نحوي وكأنه لم يرني، غادرته مسرعا، لا أعرف ماذا يعتمل في ذاته، حرارة ذاتي متصاعدة، هويت إلى سيارة الأجرة، بدا لي أنه استوعب جيدا مقاطع صوتي تصل إليه رغم ضجيج سيارته الهرمة: وادي حطاط، مستشفى ابن سينا.
- تعمل هناك؟
- لا.
- تراجع المستشفى؟
- لا.
- سلامات؟
- هل تعرف السيد سعيد؟
- لا.
- هل تعرف شعبان بائع الحلوى؟
- لا.
- هل تعرف سعيد النوبي؟
- لا.
- سلامات؟
كانت طريق وادي عدي غاصة بالزحام، الظهيرة تلفحنا بشمسها التي تكاد تذيب الصخر من حولنا في الوادي المتسع حينا والضائق بأنفاس السائرين على دربه أحيانا.
نظرات السائق بطرف عينه لا تحتاج إلى تفسير، أشعر به يفكر في السيد سعيد وشعبان بائع الحلوى وسعيد النوبي، وددت لو ألقمته أسماء أخرى يتسلى بها المسافة المتبقية على وادي حطاط، التقت عينانا في اللحظة ذاتها التي كنا نحاول استكشاف بعضنا البعض بنظرة خاطفة دون أن يفطن أحدنا لما يحدث من الآخر.
- هل تذهب دائما إلى المستشفى؟
- لأراجع؟
- لا، أو بالأحرى لا أعرف.
- هل تبدو على وجهي علامات أنني...
- يا رجل، كلنا مجانين، من في هذه الحياة يمكنه التمسك بعقله؟! لو هناك فائدة لقلت لك أنني أريد موعدا مع طبيب هناك.
- لماذا؟ ما هي مشكلتك؟
- أعمل ليل نهار لأسدد دينا كبيرا للبنك؟
- ولماذا استدنت؟
- لأشارك في محفظة، لعنة الله عليهم، أكلوا أموالنا، وماذا نالوا من جزاء؟ أقصد ماذا يهمنا أن يسجنوا طالما أن أموالنا لم تعد إلينا؟! لعنة الله عليهم، عسى جهنم تحرقهم.
أحس السائق بطلبي، لم يناقشني، أوقف سيارته قبل الدخول في دوار وادي حطاط الذي بدا لي بعيدا تحت وهج الشمس، لم يمهلني لأفتش له عن أجرته، أبقاني واقفا على الرصيف، تبعته بعيني، استدار عائدا من الدوار، مرق جانبي وهو ينظر إليّ، لم أتبيّن ما يقوله وجهه.

9

المساء يعود بي، مرهقة روحي، مرهق جسدي، أرتق وجع أحدهما بآلام الآخر، بي قرف بالغ الحدة من الأوبة للغرفة الخانقة لروحي وجسدي، عدت إلى الشارع البحري، النوارس قبل الغروب تطلق جناحيها للريح، وودت لو أكون نورسة هائمة في هذا الفضاء، تعيش بين زرقتي الماء والسماء، أكثيرة عليّ هذه الأمنية؟!
استعدت الأمكنة الصاهدة في هجير الأوراق، البحر الممتد حيث ارتحلت السفن بالسلطان وبالأحلام، هناك غاص في حلمه حدّ الغيبوبة، من بقعة ما جاءه جوهر، نحو بقعة متناهية البعد حمله كضوء من الحلم.
يد تمتد إلى كتفي لتيقظني من سبات أحلامي، كانت يده، المجلة التي أعطيته إياها، في برهة غاب، اختفى الوجود الذي أدفن فيه وجودي، شعرت أن بين صفحات المجلة أوراق ليست منها، فتحتها، كان بها أوراق بدت لي كقطعة خشب أخيرة لغارق، بين الكثير من العتمة والقليل من ضوء المكان تلمست الحروف عليها:
"سألني سيدي السلطان: هل ستتبعني مرة أخرى في ذهابي لتلك البلاد اللابعيدة؟، مركبي النجمات الثلاث يروح ويغدو إليها، حاملا أخباري وهداياي إلى هناك، وعائدا إليّ بأخبار مملكتي الأفريقية، إن أردت الإسراع فاذهب معه، أو لتترقبني بعض الوقت.
جاءتني كلمات سيدي السلطان من حيث لا أدري، وشعرت بألمه من إصابة قديمة في رجله لحقته في معركة، ويا لكثر حروبه!.
وركبت معه بعد حين من الزمان..
يا بني هيّا، البلاد هناك تنتظرني، وعمان لا يقرّ لها قرار، وابني ثويني مجرب للحروب عارف بأخبارها، وسيكفيني شرور الفرس وفتن القبائل.
الكلمات تئن، حزينة لكنها لا تشي بانكسار العظيم..
قال إنه ودّع أمه بحزن من يخشى ألا يكتب الله لها عمرا فيراها مرة أخرى، رأيت على ظهر السفينة ألواح توابيت لا أدري سرها، شعرت بهمسه في أذني: أخبرتهم أنه من يمت على السفينة لا ترموه في البحر، احملوه إلى زنجبار، وادفنوه في تربتها، لها رائحة الزعفران والأرض المبتلة بالمطر.
وركبت حيث أمرني، وسرنا حين شاء وكيفما شاء، رأيت ألمه ظاهرا، وخشيت مقاديره وأقداري تلحقني في حله وترحاله.
ومع كل صعود لشمس من فم الماء كان ألم سيدي السلطان يشتد، وفي كل هجوع لشمس يوم أشعر أنه يزداد توجعا، خذلته قدمه فلم يعد يستطيع المشي، في زاوية من السفينة يمضي وقته جالسا، عين على اليابسة التي وراءه كأنه لا يزال يراها، وأخرى صوب يابسة تبدو أبعد من الاعتياد، سمعت أسماء أولاده وخاصته لكنني لا أكاد أرى إلا إياه، لا أشعر إلا بألم يبتغي إخفائه إلا أن الألم يصرخ بصوت ليس هو صوت السلطان، والبحر بدا أشد قتامة حتى في أشد ساعات النهار شمسا، والليل ليس هو الليل في سكينته الهانئة ونسماته التي يحبها سيدي السلطان.
السفينة قارّة من الحزن تمشي فوق دمع لا تكف ملوحته عن التصاعد باتجاه حلوقنا.
أنام فأرى نفسي أهذي، وأصحو فأرى روحي تقاوم هذياني.. ينسل الألم من جسد السلطان فيحل في أرواح متكاثرة حوله، نظرات السيد برغش حائرة بين الجسد المضنى والماء.
بين دوار البحر ودوار الذات ودوار التوجع تتقاذف روحي، ألم سيدي السلطان يأتيني كانفجارات تتساقط في عمقي، أذهب إليه، أقترب منه، الكبرياء في الوجه الممتحن، يقول يا بني اقترب مني لأحدثك عن بلاد ستتيتم إن فقدت أباها، أنا أباها فصدق ما أقول، ألمي قاتل، والدواء محال، والأجل يدنو، وفي الألسن أدعية لا تتشابه، منها يريد مني العودة لبيت الساحل، وأخرى لأحد التوابيت التي جئت بها من عمان، كأني بجسدي يهوي إلى قاع البحر في المسافة بين جناحي مملكتي، ستبكيني أعين أقوام وتبتهج أخرى، وستختلف البلاد عن البلاد.
يذهب في غيبوبة من الألم، وأدافع عن روحي غيبوبة قاتمة، أراني أتمعن في الجسد المبلل بالعرق أمامي، تدفعني الأيادي عنه، يدافعون عن أنفسهم عجزهم دون الموت المحلق كطائر بغيض فوق رأس سيدي السلطان، تدفعني غيبوبتي نحوها، ورأيتني أقف تحت المطر أواجه العاصفة أستمع لصياد عجوز يقسم أنه رأى أسطولا يقترب من اليابسة لولا أن المطر والريح حجبته عنه.
.. ومرة أراني على قارب تعصف به الريح بجانب السيد ماجد نرجو البحر أن يبين عن أسطول يحمل السلطان ومن معه.
.. وحينا أقف على رأس السلطان ينازع الموت، وجرحه يدفع إلينا بألم قاتل، فكيف بحامله؟!
ورأيت برغش ينظر ذات اليمين وذات الشمال، عين على العاصفة والمطر، وأخرى باتجاه السلطان الغائب في موته، وفكرة تطلب من القبطان انتظار حلول الليل أكثر فأكثر، ربما لييأس المنتظرون على الساحل المقابل والمستقبل، فجأة على يساري رأيت مستر جوهر، أسرّ إليّ بألا أصدّق كل ما سأسمعه، ألا أكذّب كل ما سأراه، لم أفهم، فقال: الرؤيا ستقودك حتما.
أغيب في ضبابية الرؤية، في لحظات أرى نفسي في سفينة السلطان تناور العواصف كي ترسو، وفي لحظة من غيبوبة الحلم وحلم الغيبوبة رأيت السفينة على الساحل، السيد ملفوفا بكفنه، وابنه السيد برغش يحمله سرا إلى مقبرة المدينة، رأيت جنودا تضرب حصارها على بيت الساحل، وآخرين يحاصرون بيت السيد ماجد، والمدينة تنتظر ماجد.. خرج تابعا أسطول والده بين المطر والريح، لم يعد حتى الآن، وقيل أن برغش لا يدري أن البيت الذي يحاصره قد غاب عنه سيده.
باغتني جوهر بالحضور، وسألني إلى أين قادتني الرؤيا؟ استوضحته الأمر، سألني مرة أخرى:
- هل تصدق أن السلطان مات؟
- لكنني رأيتهم يدفنونه.
غاب جوهر..
تتبعت غيابه طويلا..
ذهبت إلى بيت الرأس، وحده الوحيد هنا في هذه الجزيرة، لم يكتمل بعد، بقي حلما مبتورا، البيوت الأخرى غارقة في فوضاها، فوضى اكتشاف أن السلطان الموحّد لها جميعا يمكنه أن يغادر هكذا فجأة، دون مقدمات فيستعدون، نساء وحرائر وأطفال وسادة وسيدات، نحو ألف في بيت المتوني، آخرون في بيت الساحل، في بيوت المقاطعات الأخرى، يبكون سيدا مات، محور حياتهم، كسائرين في صحراء يتتبعون نجما يهديهم فأفل فجأة، صعدت إلى ما تكوّن بنيانه في بيت الرأس، متخيلا السيد يرافقني، يقول أنه سيضع في هذه الغرفة كذا وكذا، وفي هذا المجلس سيكون له مجالس.
عجزت قدرتي على المضي في التواطؤ معي، أسندت رأسي إلى حائط، كانت الأشجار وماء المطر المنهمر بقوة والرياح تعصف بكل ما فوق الأرض، والحزن يتجول كشيطان بليد، ما عدت أقوى على النظر، وجدتني مغمض العينين كأنني أرى حلما ثقيلا، وفجأة انسحبت الأشياء من رأسي، حل فراغ قاس، قاس جدا، حاولت أن أبكي، أن أحرك لساني الذي بدا قطعة لحم ميتة في فم من جليد.
على البعد لمحت ناصر اللمكي، يحوم حول سور مزرعة والده، تبعه عدد من الخدم، الخوف استيقظ في المدينة، المجهول يبسط رداءه الأسود على المساحة الخضراء، وددت لو أسأله عن صاحبه خالد، كل الاتجاهات حولي مغلقة.

ما حكاه الحلم:

"فتح عينيه فجأة.. اقترب الخبّاز منه، ناوله رغيفا ساخنا أخرجه للتو من التنّور، قبض على الخبزة بقوة..
بدأ ببكاء مكتوم..
ارتفعت حدته، أخذ صوت البكاء يعلو، بدا نحيبا مرّا، كمن أدرك للتو موتا أحاق بمن يحب.
يا الهي.. ماذا يحدث؟
لا أعي من أمره شيئا، ولا من أمري..
وقف، اتجه إلى جسر الشارع البحري، حيث يمكن للبحر المروق إلى مدخل سوق مطرح، أخرج الكيس الأسود من صدارته، كان يملؤه من ماء البحر، يدخل يده إلى داخل الكيس يهرس الأوراق بيديه، يعجنها بالماء المالح".

ما قاله اللاحلم:
عندما عدت إلى غرفتي البائسة نهايات الليل عاندني بابها على الفتح، تذكرت بغتة نسختي من أوراق الكيس الأسود، من حيث لا أدري خرج من قال بأنه من مكتب عقاري يتولى أمر هذه الغرفة، أشار إلى كرتون ضم ملابسي، وإلى أن الغرفة نظفت بشكل نهائي من أدراني.. ومخلفاتي الورقية.
قبل أن يهبط السلم خروجا ناولني ورقة عليها استدعاء من محكمة، بضعة أشهر لم أدفع إيجارها، وفواتير عليها كلمات الإنذار بالقطع مكتوبة بحبر أحمر.
وفيما كانت السلالم تأخذه هبوطا أومأ إلى عداد الكهرباء الفارغ مكانه، وبصوته أوضح أن الأمر ذاته مع الماء..
قرأت الرسالة من المحكمة، قرأت فيها اسم صاحب البناية، لأول مرة أعرف اسمه: ناصر اللمكي.
لم يكن يعنيني شيء، وضعت الكيس الأسود في صدارتي، واتجهت إلى سوق مطرح، قريبا من الساحل، بعيدا عن.. كل شيء.
أنظر إلى قلعة الجبل، وإلى البحر، كأن المياه ودّعت للتو سفينة النجمات الثلاث، صعدت سلالم المقهى أنتفض من شيء ما، اخترت آخر طاولة كالتي جلس عليها آخر مرة، في طاولتي رأيت ما حسبته أنا، وقد شعرت أنني.. هو.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الإحالات:
مقال: عمان في الصحافة الأمريكية في القرن التاسع عشر للدكتور عبدالله الحراصي.
كتاب ألبوسعيديون حكام زنجبار (ألفه بالانجليزية الشيخ عبدالله بن صالح الفارسي قاضي قضاة كينيا).
تقسيم الامبراطورية العمانية: الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي.
سلطانه في نيويورك (أولى رحلات الأسطول العماني لأمريكا عام 1840) لهرمان فردريك أليتس.
مذكرات أميرة عربية (السيدة سالمة بنت السلطان سعيد بن سلطان – طبعة وزارة التراث والثقافة).
الأسطورة والتاريخ الموازي لمحمد الخليفة.
جهينية الأخبار في تاريخ زنجبار للشيخ سعيد بن على المغيري.
زنجبار في ظل الحكم العربي (1832 – 1890) لمصطفى إبراهيم الجبو.
مواقع على شبكة المعلومات العالمية (الانترنت).




                                                  عودة  






















رواية " السيد مر من هنا " جزء 1

















السيد مر من هنا
رواية الكاتب العمانى
محمد بن سيف الرحبى


رحلة الحلم

1


السوق موارب عن الأعين، يطل بعينيه من زاويتين مختلفتين، واحدة على الماء، والأخرى باتجاه الجبال..
الأولى تلفحها رطوبة البحر صيفا حد الاختناق، وتشرب من نسائم الشتاء ما يجعلها متوقّدة البصر باتجاه السياح الجائلين على الشارع البحري معاندين الظهيرة، كاشفين ما تيسر من أجسادهم.. وأجسادهن.
السائرون بتؤدة قريبا من إشارات المرور يمكنهم سرقة نظرات إلى أجساد فاتنة ومتوهجة تفتّح ياسمينها في تلك البلاد التي لا يعرفون عن اسمها سوى أوروبا، آخذة بياضها من ندف الثلج، لم تجفف أزهارها شمس الجزيرة العربية، فتلتحف بالسواد مخافة الضوء.
العين الثانية تقبع في آخر التواءات السوق، هي بوابة أو عين ، كما هو حال الجانب الآخر، تحت عتبتها يجلس بائع الجبن المكوّر المصنوع من اللبن المحلي الرائب، يجمعها بضع كور صغيرة بحجم كرات تنس الطاولة، وربما شكلها الأبيض لولا الرمادي المائل للسواد علامة على تصنيع بائس في منازل قنعت ببؤسها، يجمعونها في أكياس نايلونية، وبقربها يعرضها بائعها للمارة، وهو يداري إزاره كي لا يقذف به الهبوب بمنأى عن عورته، ما قطفه من (صبارة) البيت، أو الجيران، أو المال المشاع الذي يثير اهتمام البسطاء كنخيل البلدية المزروعة على جوانب الشوارع الكبرى، يقصدها المهاجرون الآسيويون وفقراء البلاد.
اعتدت، ربما كما اعتاد أبي، وجدي وبقية الأسلاف من قبله، السعي بين عيني السوق، المطلة على خليج عمان وتلك المندفعة صوب باقي المدينة وجبالها، وبشرها المتناقضين جدا، قبائل ولا قبائل، أثرياء جدا وفقراء جدا، مثقفين وجهلة، متحدثين بلغة عربية لا لبس فيها، وآخرين يجهلونها تماما أو يحطمونها، يتساوى في ذلك من قيل أنهم مهاجرون منذ أزمنة، أو منذ أشهر.. يحملون في بطاقاتهم الشخصية كلمة عماني، أو غيرها.
حين يعييني التطواف أجلس إلى مقهى يقع قريبا من العين الأولى، نسمات البحر طازجة شتاء، مقززة صيفا، الشاي الثقيل بالحليب يأتي به الجرسون الهندي، أو أنه من بلاد أخرى تجاور الهند، لكن المصطلح أنهم جميعهم هنود، في الشتاء يمكن الاستئناس بأشياء كثيرة في ذلك المقهى: الطقس والبحر وشرب الشاي بعيدا عن اليد التي تتصبب عرقا في الصيف، فتحذر تمازجه مع مشروبك المفضل.

2

سر بتمهل..
لا تلتفت للتفاصيل المشينة، كثيرة حد التفزز، في الصيف تحتدّ الرائحة لتزكم الأنوف، رائحة المتسوقين تغالب بخور اللبان وروائح البهارات وكل شيء جميل في سوق مطرح..
في المحلات المدهشة بالفضة والقدامة سترى الغرباء الذين يبيعون تراث المكان للغرباء.. لا أحد غريب في هذه المدينة، الغريب أن تشعر بالغربة.. كل ما في المكان يدعوك للألفة، الرخام الصخري الذي تسير عليه، والسقف المزخرف الذي يظللك، والعيون التي تضلك.
سنوات أبعدتني عن هذا السوق، والمدينة، ظروف غيّبتني، حتى إذا عدت إليها تمنيت ألف رئة في داخلي لأنتشي أكثر بروائح الشتاء، روائح السوق في فصل الشتاء، لا عفونة الرطوبة ولا نتن الروائح المزعجة تنفخ تراكيبها نحو أنفك، ولا تأفف الباعة داخل محلاتهم التي تنفخ فيها أجهزة التكييف لكنها تتطاير في المكان الغارق في رطوبته العالية.
جلست إلى وجوه بدت لي أليفة رغم السنوات الخمس من البعد، تخيلتها أنها كانت هنا منذ آخر عهدي بها، أخذها الزمن قليلا إلى محلات كوافيره ليضيف بقعا بيضاء على الشعر، وتجاعيد خفيفة على أخرى، زمني أثقلني أكثر، لم يكن غيابا عاديا، قسريا حد البكاء، لكنها لعبة القدر.
حاولت أن أجلس كمن لا يخشى شيئا.. يمرق شاب في منتصف العشرينيات من عمره، سمين حدّ الشعور بأنه ليس طبيعيا، سيره مرتبك، يحمل عصا غليظة في يده، يجتاز السائرين من حواليه المحاولين تجنبه، يهذي بكلمات لم التقطها لسرعة تحركه، مضى في الجهة المقابلة للمقهى، غاص في سوق الظلام، لكن وجهه سكن حدقتي وقتا ليس بالقصير.
بين رشفات من كوب الشاي أمامي يمرق وجه الشاب المارق قبل لحظات أمام عيني، أعصر مخيلتي لتركيب صورة تشبهه تبدو في أعمق نقطة في ذاكرتي، أتوسل إليها أن تربط بين تقاطيع الصورة رغم أنف شروخ السنوات المارّة بين جسور الحياة، المتهاوية بإيقاع سريع، البادية على مهل في المسافة الفارقة بين رؤيتين.
نهضت من الكرسي الخشبي معامدا ظهري للتغلب على غياب مسند لمقعد لم أكن أخشى منه في الفائت من السنوات وجلا أو خشية على عمودي الفقري، ناولت البائع الخمسين بيسة ثمن كوب الشاي، كانت قطعتها المعدنية في جيبي، أردت التخلص من زقزقتها مع مفاتيح السيارة، بمسكنة واضحة المحيّا ذكّرني عامل المطعم بأنها بمائة بيسة كاملة، أعادني إلى مشهدية زمني، تغيّر حتى ثمن كوب الشاي.
بين المقهى وعين سوق الظلام أمتار قلائل لا تبلغ في عددها أصابع اليد الواحدة..
لا تأبه بالعدد، ولا بصيحات بائع البخور والبهارات والليمون العماني على يسارك، وقاوم ضجيج البائع الآسيوي الآخر يقلّب بين يديه معروضاته الرخيصة من ألعاب أطفال واكسسوارات نسائية جاءت من الصين أو من جاراتها الآسيويات.
اترك لعينيك متعة مشاهدة، لأذنك تقلبات اللغات واللهجات، لأنفك نكهات الروائح التي لا تطير في الأزقة الضيقة إلى السماء، ستجد طريقها إلى ملابس الجائلين وخياشيمهم.
لا أريد إلا وجهه، ذلك القارّ في ذهني، تتدافع صور وجهه في مساحات قصية داخل الذاكرة، أعرفه ولا أعرفه، نظرته قاربت بيني وبينه حدّ المعرفة العميقة، ملامح وجهه باعدت بيننا حدّ التنكّر.
حاذرت الدخول إلى أيّ من دكاكين سوق الظلام، ضيقة سكّته، اجتهدت لأقاوم الاصطدام بالبشر المتكدسين أمام مصاطب العلب الصغيرة المحشوّة بكل ما يخص النساء، بينها علب أخرى تبدو متأنقة لتعرض البخور واللبان العماني وعطورات الدنيا، وأشياء من احتياجات الرجال للتأنق، التناقضات تبدو عبثية، أو من العبث الركض خلفها، الماركات العالمية بأسعار متباينة لدرجة الدهشة.. غالية يدرك قيمتها الأثرياء، رخيصة يعرف رائحتها البسطاء.
باحت نفسي بسؤالها: أي ثري سيأتي إلى هذه المغارات الفائحة بروائح البشر لينتقي عطرا فرنسيا؟ تجاوبت مع احتمالات إجاباتي، رأيت بين أبناء القرى وبادية الصحراء من يكافحون لنيل تخفيض مناسب على عطور غالية.

3

البائع الهندي يسعى لإقناعي أن (المصر) ترمة أصلية، وثمنه الـ (يطلبه) مستحق، أو أقل بنسب متفاوتة، قلّبته بين يدي وعيني، لحظات وكدّس عشرات أخرى على الطاولة أمامي، يدفعني لتقدير جهده فأشتري، ساومته، أصرّ، أعرف لعبة الكرّ والفرّ، أقول لا أرغب وأخرج، يناديني أن اقترب وادفع واستلم بضاعتك، وعليك تحمّل عللها لاحقا.
القرويون يدفعون أحيانا ثمن طيبتهم، يقول البائع رقما عاليا، يخفضونه إلى النصف، يوافق بعد أداء دور تمثيلي حفظه لكثرة التكرار، يفرح القروي بما أصابه من توفيق في سلعة اشتراها بنصف سعرها، وفي القرية يقول لهم الرقمين للدلالة على مهارته ومعرفته بأحوال الباعة في مسقط، في الطرف الآخر للعبة يقف البائع سعيدا أيضا، ألوان الأشياء والتماعاتها تجذب القرويين، وفي لمحة خاطفة يعنّ للبائع سؤال الريفية عن أية قرية أتت منها، ويعرف بالاعتياد ماذا يهمها من (زري) وخيوط وأشكال وألوان.
بدأت اللعبة، خرجت من المحل، سمعت صوته بلغته العربية الكسيرة، أدرت ظهري للممر الضيق في السوق، رأيته يضع المصر في كيس بلاستيكي، فجأة بدت خلفي حركة لافتة، قبل أن ألتفت كانت عصا تهبط بعنف على ظهري، عصا شعرت بأنها غليظة، واليد التي هوت بها قوية وعارفة.
الضارب يركض بهمجية واضحة، ملابسه لها دلالة مختلطة..
قال الهندي: هذا مجنون.
وسألت نفسي: إن كان كذلك لماذا يترك في السوق لإيذاء الناس؟!.
قال الهندي: لكنه طيب.
لم أستطع إلا إعلاء الصوت في وجهه: والضربة على ظهري؟!
خطفت جسدي من فرجة مجانية توفرت للبائعين والعابرين، في عيونهم سؤال عمّا حدث لي من ألم الضربة، بدوت متناهي الصغر، ينقص حجمي أكثر فأكثر كلما أطلت المكوث.
الوجه الذي أطلبه قذفني في أتون فرجة أدهشت الرائين، وحكاية تسللت بسرعة بين الأفواه أبهجت السامعين.
يا لهذا القوم.. يضحكون إن ضرب شخص، أو تعرقل في سيره فسقط، أو أصابته غفلة فهوى في قاع احتيال، السرور البادي على سقطات الآخرين ونكساتهم، يشعرنا أننا جميعا معرضون للسقوط بمشهدية ما، على القدر أن ينبش في جرابه لينتقى لنا الطريقة المثلى.
تكدّس بشر في بقعة حادثتي خلال لحظات قلائل، رمقت بقعتهم وأنا أبعد بضعة أمتار عنهم، تلاحقني عيونهم، وأصابعهم لا تزال تشير، تركت لهم حرية العبث في ما أبقيت لهم في تلك البقعة، والمصر تقلّبه يدا الهندي الذي غدا شاهد عيان ونجما يشرح ما حدث كأنه في مؤتمر صحفي منقول على فضائيات.
بدا لي الأمر أن الشاب الضارب لا يكرر فعلته كالتي تركها على ظهري كثيرا، أو أن الباعة يتغيّرون في كل مشهد باستمرار!.
أشحت عمّا حولي لأطلبه، تملكني فضول أكثر من فضول المتفرجين على ضربة عابرة.
لم أره ثانية، بل عبرني بمرات لا تحصى في الزمن التالي لتلك اللحظة الفارقة، في السيارة وأنا أشيح بها داخل فم الشارع البحري ارتدادا من دوار حديقة ريام عودة إلى الجهة الأخرى من الشارع، الملاصقة للبحر، القلعة أصبحت على يساري، واقفة فوق ربوتها الجبلية، على يميني الميناء والسفن الضخمة البادية بحجمها أكبر من المدينة التي تغرس أنياب مراسيها فيها، على الدقيقة التي تغلقها إشارة مرور أمام عين السوق البحرية منّيت نفسي برؤيته، ربما يعبر في أية لحظة، أين سأزرع سيارتي لو مرّ فجأة على تقاطع خطوط المشاة أمامي؟
في المسافة بيني وأمكنتي التي أرتادها رأيته كثيرا، حين أغمضت عيني في ساعة متأخرة من الليل كفّ عن المجيء، وفي أول رمشة جفني لي كان أمام عيني، تلقيه الذاكرة بأكثر مما أحتمل.

4

مقهى وعامل آسيوي لم أتبيّن جنسيته لعدم حاجتي إلى ذلك..
ووجوه تتربع على المقعد الخشبي الطويل كأنها في قاعة انتظار داخل مركز صحي أو ما شابهه..
وأخرى، كثيرة - والنظر إليها جزء أساسي من الفرجة اليومية - تدخل السوق من عينه البحرية، أو أنها تصل إلى حافة السوق القريبة من العين، فتستدير عائدة، متخذة يمينها صوب عين سوق الظلام، أو تلتفت يسارا باتجاهها قبل أن تكمل الخطوات المتبقية على نهاية سوق مطرح.
- الشاب الذي يحمل عصا في يديه وملابسه بائسة هل رأيته اليوم؟.
- يأتي حينا ويغيب أحيانا.
- من أين هو؟
- لا نعرف عنه إلا كما تعرف أنت، نراه جميعا هنا حينما يأتي، ولا نراه جميعا حيثما يغيب هناك، يظهر فلا تتوقع مجيئه، ويذهب بعيدا فلا تدرك متى سيعود.
- وعادته؟
- تمر ساعات لا يأتي، تأتي أيام لا يمر، وأسابيع وأشهر.. العلم عند الله.
حيرتي في أنه يبدو لي: أعرفه أكثر مما يعرفه هذا الجالس المتفلسف.
أعرفه وأجهله.. قمت مع ثنائيتي، ودفعت المائة بيسة ثمن الشاي، ومائة بيسة أخرى قيمة ثلاث سمبوسات تمترس زيتها في حلقي فأغرقته بجرعات من الماء والشاي.
أيام لم أره.. بدت زمنا طويلا، حتى كادت تنسيني الوجه لزحمة الوجوه من حوله.
أخذت طريقي إلى مسجد طالب، رغبة حرّكتها مشاهد من طفولتي أمضيتها لعبا في الدروب المارّة أمامي المسجد أو ما جاوره، لصلاة المغرب روحانية أستشعرها حينما تغيب الشمس عن هذه المدينة وتشتعل أضواء المنارة بمصابيحها البادية كأنها من زمن عتيق.
منارته تجذبني إليها كل مرّة أتأملها، فيما جاوز ثلاثة عقود من العمر فتنتني في النظرة الأولى، مساجد قريتي لا منارات لها، حوائطها جافة دون هذا الرخام الأزرق المتأنق على نصف جدار المسجد، توضأت بسرعة، كان الإمام يقيم للصلاة، على طرف الصف وقفت، بجواري النافذة المطلة على شارع كادت ذكرياته تسيح متدفقة لولا أن الإمام ألقى بقوة تكبيرة الإحرام، قبل أن أحيل بصري من على النافذة..
رأيته.

5

تفتحت مسارب في الذاكرة الصدئة.. مهابة المسجد متبوعة بسيل الأمس، وشباكه الكاشف عن سكّة قديمة ووجه موحش.
في ذات السكّة عبرت بالزمن، عبرني الزمن، عبرت بالمكان.. وعبرني المكان، وجهي كان هنا، قبل سنين، أليفا في ملاعب طفولته، وجهه مرّ من هنا قبل دقائق، تناولت مصحفا كما كان أبي يجبرني قبل عمر يبدو كأنه ليس محسوبا من عمري، قرأت سورة مريم، في دمي كانت ذكريات أخرى تزحف نحو دماغي: قال ربي إني وهن العظم مني واشتعل الرأس شيبا، يأتيني كما الطفولة صوت المقرئ محمد سعيد نور يكاد يبكيني بقراءته لهذه السورة: يوم يموت ويوم يبعث حيا، يا لجمال الصوت، أقرأ بصوتي وأستشعر صوته يأتيني من مذياع قديم، في زمن قديم، كأني بالأمس ألوذ مخافة اليوم، أحاول تجميد اليوم كي لا يأتي الغد.. بين صوت المقرئ ووجه العابر بجانب النافذة على الضفة الأخرى من المكان مسافات أبدو فيها عابرا دون زاد.
يا لتلك النظرة في وجهه، كأنها خارجة عن تقاطيعه، غريبة عنه، لها شعاع لا يأبه بما تكدس على الوجه من سخام وغبار ومواجع، ماؤه اللزج يندفع متقطعا من عينيه وأنفه وفمه، أتخيله بصورته الذهنية في مخي: يمسح بأكمامه ما تدافع من مياه لزجة، عرج خفيف في قدمه اليمنى، مع ثقل جسده يهتز كمن يدفع نفسه بقوة لتنال الخطوة التالية.
بقيت وحيدا في المسجد، آخر المصلين خرج من الباب، كأنهم كانوا يتناوبون دخولا وخروجا، لكن بعد آخرهم لم يأت آخر، أغلقت المصحف وتبعته بباب المسجد أغلقه مخافة الكلاب والقطط أن تعبر نحو الداخل المقدس.
استدرت نحو النافذة التي عبر بجانبها قبل نحو نصف ساعة، السكّة صامتة إلا من عابر كل لحظات يسير الهويني في ليل يأتي كسولا، السكك هاجعة في تقاطعاتها إلا من كلاب ترقد على الأرض تحك أجسادها، قطط تفتش في المزابل عن بقايا البقايا.
جلت قليلا أفتش في الذاكرة عن ذكرى أليفة من زمن عبر وما بقيت منه إلا صور قديمة ممسوح غالب معالمها، بالتخيل نرتق ما تمزق من صور الأمس، أخذتني سكة إلى تاليتها، بجوار باب قديم اتكأ شاب بدا من بعيد كأنه هو، ترددت في الاقتراب، كأنني لم أرغب في رؤيته أياما، خطواتي تسير بي على مهل مرهق، هو أو يشبهه.
حرت في إجابتي، وقفت قريبا من رأسه، برغبة أن أبقى أو أطلق ساقي للريح اقتربت أكثر، موقن بأن الريح ستحملني كلي وليس ساقيّ لو انطلق المارد من نومه في ذهن هذا الشاب النائم بجسده نصف نومة، السابح بعقله ما أبعد من نومة.
فتح عينيه، التقت الأعين الأربع بمعرفة امتدت ألف عام..
رأيت النظرة تأتي من بعيد البعيد، أغمضهما مرة أخرى، كان دمع يسيل على دمع جف، تركني آخذا ناصيته نحو البعيد، بشر تأتي بهم الدروب وتأخذهم دروب، لا يأبهون بنائم مسندا رأسه على حائط جدار، ولا بواقف يفتش في غيابه عن حضور.
المدينة تسكع في غفوتها مع انغمار المكان بالعتمة أكثر فأكثر، يلوح المارة أشباحا تنسرب من بين البيوت التي لا يفصلها إلا مسافات تكفي لعبور شخصين في اتجاهين متضادين، ضوء شفيف لا يتوانى عن الوصول إلى وجه الشاب المتكيء على حائط بلغ سن الشيخوخة، وباب خشبي بلا لون يتصف به، يبقي رتاجه ضعيف الإحكام.
دخلت في شعور مباغت، انتظاري قريبا من رأس المتكيء على الجدار لا معنى له، كانوا، وهم قلة، يعبرون السكك لا يتوقفون، وكأن الحكاية عادية، تحدث باستمراريتها حتى فقدت إحساسها وحساسيتها، تراكمت مشاعري فوق بعضها البعض، فما عدت أميّز ما أريد.
ما أبحث عنه أصبح أمامي، ولا أدري ما أفعل بما وجدت، لكنه بعيد عني، ما وجدته جسده فقط، ما نفع كل تلك التلة اللحمية الصغيرة تبدو ميتة لولا بعض أنفاس تتحشرج حينا محدثة بعدها صوت شهيق يسحب كمية هائلة من الهواء ليعيد إفراغها زفيرا في الغبار الملتف بعتمة المكان.
الوجه ليس غريبا، العينان في انفتاحتهما الوحيدة أشعلا حطبا في جمجمتي..
- من أين هذا الشاب؟
- خلق الله في أرض الله.
- أليس له بيت؟ أعني أين يسكن؟
- في أرض الله.
لا أدري هل سألت حقا أحدا من المارّة، أو هل أجابني عابر منهم؟ بين شك ويقين أحسست أنني أطلقت أسئلتي على شخص له لحية بيضاء يسير بثقل، يدفع جسده الضئيل في السكة أمامنا، غيبوبته تتصاعد إليّ، أريد أن أرى عينيه لعل الذاكرة تشي بشيء.

6

ضاقت مطرح بمواقف تكفي لسيارتي، قطعت الشارع البحري ذهابا، وصولا إلى دوار ريام، عودة أخرى إلى الجهة الملاصقة للساحل، مسافات قصيرة تتكدس بالسيارات، لا قبل الإشارة الضوئية ولا بعدها سانحة للوقوف، وصلت دوار السمكة مرة أخرى، على يميني سوق السمك، أخذت يسارا لأبدأ دورة أخرى، المدرسة، جامع الرسول الأعظم، محلات بيع التحف والهدايا، بداية السوق، الإشارة الضوئية...
سوق مطرح، متعتي المفضلة، متعتي المتبقية، الوجوه التي أراها تدفعني بعيدا عن الوجوه التي لا أرغب في أن أراها.. زحامهما شديد فوق رأسي، سأشغل عيني بفرجة على وجوه اليوم، وجوه الأمس كئيبة وبشعة.
أوقفت سيارتي، ألقمت فم الجهاز خمسينتين، ووضعت الورقة الصغيرة على حافة زجاج السيارة، سيراه موظف البلدية ولن يكتب مخالفة لأني أسأت إلى قانون المواقف، من أين أتيت بهذا الاسم؟ اختراع جديد سأسجله في مفكرتي.
حجزت لساعة فقط، ساعة صباحية أشعل بها ضوء يومي برائحة تبدو قادمة من جنة قديمة سكنتها منذ عقود.
انتظرت لحظات لأعبر خطوط المشاة مع اللون الأخضر للإشارة، فوق عين السوق البحرية رأيت ما حسبته خيالا، للمرة الأولى أكتشف وجود مطعم صغير له شرفة تطل على البحر، روّعني الاكتشاف، خذلني، أفقدني ثقتي في نفسي أكثر فأكثر، أو أنه عرّاها بشكل أشد فظاعة.
- منذ متى هذا المطعم؟
- منذ سنوات.
- هل يقدم المشروبات أيضا؟
- لا، الشاي والقهوة والعصائر فقط.
نظرة الرجل الذي سألته وبختني على بحثي عن مشروبات، فطنت متأخرا إلى معناها الآخر، صعدت سلّمه القريب من مقهاي المفضّل، كأن نظرة العامل الهندي مصوّبة في ظهري، يشعر أنني خنته، صعدت إلى أعلى، مقهى أرقى، وشرفته بحرية، والصور المعلّقة عليها رسوم عصائر طازجة.
المكان خال إلا من شاب لا أرى سوى ما سمح الكرسي به من ظهره، أخذ ركنا قصيا، كأنه يريد الشعور بامتلاء المكان، يقرأ كتابا بين يديه، منشغل عن العالم من حوله، سألت العامل أن يأتي إليّ بالشاي مع الحليب، عادتي الصباحية، اكتسبتها ربما من قبل ميلادي، السفن السابحة فوق سطح البحر جبال ليست براسية، تتحرك بنايات ضخمة، يلوح على البعيد القريب ساكنو أحدها يستبشرون بالوصول إلى مدينة قد لا يعرفونها وجها لوجه، مفصلا مفصلا، تعبوا من سجنهم الكبير، يريدون الانعتاق في روائح المدن، لمدن الساحل أسرار.
يأتيني الشاي في كوب آنق مما لدى العامل الهندي في أسفل المكان، صحنه منقّش بوردة يأخذ تفتحها نصف استدارة الصحن، الشاب غارق في قراءة الكتاب، لم أتبيّن عنوانه، فجأة شعرت بحركة غريبة، الرجل يدفع إلى صدره كيسا أسود، أخذني المشهد بكلّيتي، صرت عيونا تسعى بفضول إليه، يحاول دفعه إلى الفراغ الضيق جدا بين دشداشته وقميصه الداخلي، لا احتمال آخر، لم أر الكيس على طاولته، أو أنني لم أدقق، عاد إلى قراءته، اندماجه..
انتهى الشاي من الكوب، وتعاقبت المشاهد أمام عيني: الشرفة البحرية باحت بما لديها من أسرار، وهبتني سرا ليس باليسير، حلّ عليّ سؤال بدا لي وجوديا فوق طاقتي على احتمال نأي الإجابة عن فضولي: ماذا يخبيء في ذلك الكيس؟ سواد الكيس لم يفارق بياض النظرة أمامي، هناك سرّ ما.
الرجل متخشب على كرسيّه، تململت على كرسي خشبي تحتي، آثرت الانسحاب، دفعت ثلاثة أضعاف لكوب الشاي، خمنت نظرة شماتة في عيني العامل في المقهى الأسفل، قلت في نفسي: إن ذلك ذنبه، لماذا لا يصعد للمقهى العلوي مكتفيا بالسفلي؟!
على ارتفاعة البوابة الأنيقة واجهني البحر كأني في شرفة المطعم لا زلت، ورائي كان، التفت إليه، رأيت الرجل الغارق في كتابه، تذكرت الكيس الأسود في صدارته، وجهه ليس غريبا، كدت أصرخ: مستحيـ يـ يـل.
عيناي لا تكذّباني، ولا تكذبان.
يجلس الشاب هناك، في المطعم الذي اكتشفته للتو، وغشيت عيناي عنه أسابيع منذ أن عدت للمكان، الشاب الغارق في قراءة كتابه، بدشادشته النظيفة والمكوية، يجلس هادئا، سابحا في ملكوت آخر لا عص في يديه.
كان.. هو.

7

أي ريح تقودني إلى نفق لا روح أثيرة تبدد عتمته؟!
هو أو شبيهه؟.. توأمه؟ نسخته الأخرى التي تظهر لتلقيني في بئر أخرى فتزيد من العتمات حولي؟!
الكيس الأسود، الشاب المنهال بعصاه على مشتر لمصرّ يريده لرأسه بعد سنوات من الغياب أو التغييب، الشاب الجالس بسكينة صافية على مقهى بحري، غارق في كتاب يلتهم صفحاته، اشتقت كثيرا لالتهم صفحات الكتب كما كنت أفعل قبل سنوات، هناك منعوا عني الكتب، كانت عقوبتي الأشد، حينها شعرت للمرة الأولى بأن عقابي أليم.. أليم جدا.
عينا الشاب تعتقلني، التمعتا
انجرفت منشغلا بأمر الشاب ليقصيني عن تبعات أمسي، يدفعني قدري إلى فضاءات لا حيلة لي في اختيارها، منذ أن سكنتني هزيمتي أفتش عن راية بيضاء أرفعها بيدي، أتكفّ جحافل الأقدار عن غزوي وقد أعلنت الهزيمة؟!
ما ضرّها لو تركتني قليلا؟ لا أريد سوى الفتات من الحياة، كوب شاي من مقهى السوق، وتسكع بين روائح الأمس تنبعث من دهاليز اليوم، وأعود إلى غرفتي أكمل بقية ساعات يومي، تلفزيون قديم ومكتبة قديمة وأثاث قديم.. وذكريات قديمة أيضا أحارب فيالقها لتنام نومتها الأبدية.
في الليل رأيت في نومي كيسا بلاستيكيا أسود، هائل الضخامة، يكبر ويكبر، حتى سدّ الأفق أمامي، حاجبا النور عني، مانعا الهواء، أريد أن أرى، أتنفس، في الحلم أو في اليقظة شعرت أنني رأيت في أحلامي كثيرا من الأكياس السوداء، وأنني أنهض منها مفزوعا إلا أنني لا أخافها في الحياة، يقول لي أحدهم - في الحلم أو الصحو- مفسرا: إنه أضغاث أحلام، واقول له: إن الأكياس السوداء تكاثرت علىّ فماذا أصنع كي تكفّ عنّي، ينصحني بقراءة آية الكرسي قبل النوم، وحين اليقظة، حين أرغب بقراءتها أنساها، لا أتذكر إلا مشهد الكيس الأسود الذي أرغب بقراءة آيات من القرآن الكريم.. لأتجنبه.
نهضت بحيرة مرعبة.
الكيس الأسود ماثل أمام وجهي، سرّه أو سرّ حامله.. مخبأ في أقرب بقعة للقلب.. النبض، للرئتين.. التنفس، والضلوع البادية كقفص صدري يحمي المحتوى من الداخل، أو يحمي ما وراء القفص من سواد الكيس.
على حافة الأشياء وقفت كثيرا، لم أر شيئا.
جاءني من لا أرغب في سماعه:
- اعترف، أفضل لك.
- بماذا اعترف، كل الأوراق بين أيديكم.
- لكنها تدينك.
- أعرف.
- ستلقي بك في السجن.
- هذه إرادة الله.
- لماذا فعلت ذلك؟
- ليس بي حيلة سوى أن أفعل ذلك، لم أشأ أن أتركه يغرق.
- لكنك غرقت أنت، أما هو...
- قدّر الله وما شاء فعل.
- يا أخي، ليس وقت إيمانيات الآن.
- لا ملجأ لي إلاها.
لجأت إليها كثيرا، حطمتني الحواف، كلما سقطت من حافة انتظرتني أخرى، الجبل لم يسقط عن كاهلي بعد.
8

رأيته دون أدنى رغبة في صبيحتي، أعاد عليّ مشهد النظرة، كمن يستعذب رمي سهم فيصيب به ويفرّ راكضا، ركضته بذات العرج الخفيف، جسده يرتج بشدة متمايلا محاذرا الاصطدام بالسائرين في ساعات الصباح الباكرة داخل السوق، مضى إلى حيث يريد، ومضيت أتبع خطو الذكرى التي مرّت من هنا، خرجت من بوابته الغائرة صوب المدينة والجبل، مشيت، لمحته من بعيد في الرصيف الفارق بين ضفتي الشارع باتجاه مسجد الشجيعية، تبعت قدمي متجاوزا المسجد وصهد الشمس رغم أن الصيف ماض في وداعيته الأخيرة، مستقبلا نهايات أغسطس، قدري يلحّ على أخذي صوب مفاجآته، على يسار الشارع مخبز يقدم خبز التنور، عيناي في النار الملتهبة داخل التنور، الرجل الباكستاني يسألني بكم أريد الشراء، لم أنتبه إلا متأخرا أن الشاب اقتحم المكان بحضوره الغريب، بتواطيء أغرب أخذ رغيفا ومضى، عيناي هربت من التماعة عينيه صوب صدره، شيء ما يتكوّم في المسافة القاتلة بين ملابسه الداخلية وصدره.. الكيس الأسود..
قال الرجل الواقف أمام لفحة نار التنور: إنه يكتفي برغيف واحد.. إنه مسكين.
- هل رأيت الكيس الأسود في داخل ملابسه؟
- نعم، به أوراق.
- أوراق؟!
- قديمة.
- أريدها، سأعطيه.. وأعطيك.. نقودا.
مقتني الرجل كمن يشعر بخلة ما في عقلي، ونظرته تأمرني أن أخرج من مخبزه.
ازددت عنادا، عليّ أخذ الكيس، هناك سر ما.. فكرت كيف أتدبر المال وهو سبب بلائي، إنما طاقة هائلة اندفعت بي، لا أدري إلى أين ستأخذني زوابعها هذه المرة.

9

أقداري تقودني بسهولة، لا حاجة لي إلى تفكير مؤلم كي أتبع أقداري، وحدها تأخذني..
في سكة قديمة بعد أن تهجع العتمة على حوائط المدينة وبشرها، جلت، محاذرا الكلاب الشاردة، خدعتني أقداري اليوم، لم أجده في إغفاءة كالتي رأيت.
الباب الخشبي واقف في صموده، فكّرت أن أدفعه قليلا لأرى ما داخل البيت البادي بهجر أصحابه له، تراجعت مخافة قدر آخر يتربص بي، مضيت نحو البحر، شفيعي حينما أجازف بالهرب من أقداري.
يا لها من قدرية مخيفة..
على البوابة التي بدت جسرا رابطا بن السوق ورصيف الشارع البحري اتكأ، ماء البحر يقذف بصوت الموج بجانب البوابة، اختار طرفا منها مستسلما لما يشبه تحليقا بعيدا، رأيت غيبوبته بين عينيه، والكيس الأسود في طرف طيتّه يطل من وراء القميص المتداعي، واتتني شجاعة مخيفة لم أصدقها في نفسي، اقتربت منه، عين على عينيه المغمضتين، وأخرى على صدره، اختلاط عجيب بين لوازج عدة تبدو أنها سالت من أكثر من مكان في وجهه، سحبت طرف الكيس، وعيني في عينيه المغلقتين، خشيت انفتاحهما فجأة، كأني آخذ ثأري من ضربة العصا، لم آبه بعيون تحاصرني من بعيد، وصلني ما توهمت أنه أصوات منها.
- لا تأخذ الكيس، سيموت إن أخذته.
- مسكين، هذه روحه فلا تنزعها منه.
سحبت الكيس، ومضيت بغنيمتي، لا ألوي على شيء، لذت بسيارتي أفتش ما داخله، أوراق كثيرة، أحبار بألوان عدة، خطوط، وهوامش، ما قيمة هذا الكنز؟!
هرعت به إلى مكان لتصوير الأوراق، طلبت منه تصويرها جميعا بالألوان، أعدتها إلى بقعتها الحارسة، كان في مكانه، خفت من الاقتراب، دسست الكيس الأسود بين الأوراق الجديدة، كان في حالة يرثى لها، مزق دشداشدته، ما يبدو أنه قميص داخلي خرج ممزقا من صدارته، البصاق يخرج من جانبي فمه، يمسح دمعه وعرقه وبصاقه بأطراف أكمامه، بدا لي عاريا تماما، رأيته بعيني عاريا، مع أنه كان يرتدي ما يستره.
فتح عينيه، رأيت النظرة تأتي من بعيد البعيد، أغمضهما مرة أخرى، كان دمع يسيل على دمع جف.. وضعت الكيس الأسود فوق صدره، ومضيت بنسخة من مفاتيح الكنز.
صعدت فوق الرصيف أطل عليه من أعلى المكان، كأنني أعدت إليه روحه، بدأت تسري روحا في جسده الملقى، تحسس صدره، تشنجت الأصابع على الكيس، يضغط عليه بقوة كأن كوّة ضيقة يمكن للكيس أن يعبرها بين أضلاع النائم، خامرني ندم مقيت، لم أستطع تكملة المشهد الناطق أمامي، انسحبت، قابضا بأصابع من حديد على نسختي من أوراق الكيس الأسود، كأنني أقبض على ثعابين تذكّرني بما اقترفته من كبير إثم في صاحب الأوراق الأصليّة.
ملامحه، ملابسه، قبضته المتشنجة، نظرات الناس صوبه، أشياء أخرى لا أتبيّنها في عتمتي الداخلية تدفعني للإسراع في الخطوات السائرة على رصيف الشارع البحري، نسائم مطرح طريّة ورطبة، يصل الموج باضطراب إلى حافة الحاجز الاسمنتي، يندفع مشهد من داخلي:
- البنك يطالب بحقه.
- وأنا لا أملك.
- تصرّف.
- لا حيلة لي، تعرفون أني لم أقبض ريالا.
- لكنك ضامن.
- لم يكن أمامي سوى أن أضمن.
- لكنه هارب.
- تلك إرادة الله.
- لكنه حق البنك.
- لم آخذ حقا من أحد.
بمحاذاة الإشارة المرورية وقفت.. ناظرا صوب عين السوق البحرية، يفصلني عنها الشارع بخطوط المشاة على أرضيته، رأيته يصعد باتجاه علوّ الشارع، وقف ريثما يخلو الطريق من سياراته المندفعة قبل أن توقفها الإشارة الحمراء، شاهدني - كمن باغته أمر- جرى بعيدا عني، يداه على صدره، خمنت أنه رأى أوراقي البيضاء ملويّة بشكل أسطواني في يدي، بدت له على البعد أنها أسرار ما في كيسه الأسود، وجدتني أضعها على صدري – أيضا -.

10

أعطيت الشاب العامل في محطة تعبئة الوقود ريالا، وقبل مغادرة المكان عرض عليّ شراء كلينكس أو جريدة، خيّل إليّ أنه رأى في عيني حكاية طويلة، وددت لو أقول له: أكره الصحف، أخافها، في كل صفحة أتخيّل إعلانا قضائيا عليه اسما يطابق اسمي بكامل حروفه، تعذر معرفة مقر إقامته، وهذا الإعلان إعلام له بالحكم.
سأذوب في مسقط، غرفة صغيرة بدون عقد إيجار، وريالات تبقّت من مغامرتي ستكفيني حينا من الدهر، ربما اليوم، أو غدا، بعد شهر أو أكثر سيعرفون طريقي، سأعود إلى سكّة أرادتها أقداري لي، غرفة ضيقة وخانقة في سجن الدسر، عليّ الكفّ عن التفكير في الغد، يومي هو أوراق بيضاء بين يدي منسوخة مما كان في كيس أسود، بياض اللحظات وسوادها.
عين على الشارع، أخرى تندس بين الأوراق، يد على مقود السيارة، الثانية تقلّب الكنز، مغارة علي بابا تنكشف بأوراقها، الغارق يرى في قشة طوق نجاة، هذه قشتي، ستكون رفيقتي في غرفتي الصغيرة، ألوذ بها عن حاضري، حقن للنسيان، حقن مؤقتة، مغارة تنسينا خارجها، عتمتها أليفة رغم أن الضوء قوي خلف عينها المطلة على حيوات تعيش صداميتها.
أريد مغارتي، أسبح في ظلامها، جدرانها القويّة أحتمي بها، لا بأس أن أسقط، فقط لا أرغب أن يراني أحد أقع، يطّلع على جروحي، يشاهد دمي يغادر جسدي، وحدي أعيش ألفة مع أشيائي، أحيا معها يومي، أما الغد فقد لا يتيح لي حتى خصوصية العيش مع جراحي.
على أرضية غرفتي العارية إلا من بساط نايلون ألقيت الأوراق، استعنت بمخدة لتريحني قليلا حيث أدخل في بوابة الكنز بقدرة أكبر على المكوث فيه ساعات أطول.
قلبتها سريعا متأملا ألوان الأحبار والهوامش المكتوبة بميلان حينا، وعلى امتداد حافة الورقة حينا بعد حين، خط متأنق يغوص أحيانا في تعرجات كانت على ورقته الأصليّة، اهتراء الأصل بين يدي صاحبها، الكيس الأسود حصنها من البلل وأشياء أخرى.
أمضيت ساعاتي أقرأ من أوراقه:
"من جانب الطور جئت..
متمسكا بريحي، تقودني إليك رائحتي.
متوسدا بقاياي، وما علق في باب شبه مغلق.
كأن السلطان العتيد أمامي، يستقبلني في ذروة أحلامي..
وكأنك الزمن المنسي خلفي.
وضعت على آخر الحكاية نقطة ما بعد السطر.. ووضعتني أقداري في طريقك نقاطا تسير فوقها، مدى يتلو مدى، ساحلا يزحف نحو ساحل.
المساءات تتداعى، أضع وحدتي على الرف قليلا.. لأحتضن روحك، بتجليها في روحي سأوقف تداعي كل شيء.. لتدعوك وحدك.
أقف على حافة جرحي، كان جبلي عتيّا، وكنت آخر المطلين من عل باتجاه النوارس الساكبة بياضها على شط المدينة.
البحر بساط من الزرقة أمامي، على حافته المقاربة للمدينة سفن ويخوت عملاقة، كأنها تقارع الجبال ضخامة، وصغيرة كالموج.
أيها السيد، وقد غادرت الساحل منذ أزمنة أراك تأتي لتأخذني في أفياء ارتحالك، عابرا للموج وللسواحل، ستأتي حتما، خذ بيدي، سأجلس في أية بقعة تراها مناسبة لفتى مثلي، في السفينة متسع لجسدي الهزيل، سأكتفي بالنظر إليك، بتأملك، منخطف من أزمنتي وأمكنتي أنا، لا أييم شطر روحي إلا إليك.
سأغمض عيني علّك تفي بوعدك، سمعتك تقوله لي حين أغمضت عيني آخر مرة، سأفعل مثلما فعلت حينها، هذا هو جدار القلعة، في البقعة ذاتها، والجبل يعصمني من الناس، وحارس القلعة ليس هنا، رأيته في مرتي الأخيرة واجما وحزينا، يقول أنه لم يجد من يقرضه ليفي بما يريده لأيام العيد، قال لي ابق هنا لكن لا تحاول صعود القلعة، سيقبضون عليك، وسيدفنونك في البخّار حتى تموت، أشار إلى قلعة الجلالي، الكوت القديم، لم أسأله عن مقدار جدّيته، صدّقته لأنه رجل طيب، مسالم كأن البندقية التي يحملها ليست أكثر من مجرد خشبة لا أثر للبارود فيها.
رأيته يهبط صوب استواء الأرض مودعا القلعة العتيدة، حانت منه التفاتة، أغمضت عيني، أغمضتهما أكثر.. رأيتها بقرب لا يفصله عني أمر.. نسيت الحارس، نسيت نفسي، انغمضت العينان دوني".

11

"أفقت متدثرا بحيرة متناهية..
وقد جهلت متى قد غبت عن نفسي.
ساءلت أقداري عن أي موعد كان لي معك؟!
عن آخر موعد ووعد:
بألا نفترق، أن تبقى الأبواب مفتوحة الضلفات،!!
كأن وهمي قال لي: كنت متكئا على جدار القلعة، آخر ما رأيت قبل الغياب، إنما البحر يزحف نحوي، وسفن السلطان زحفت بعيدا، لم أعد أرى القلوع، غيّبتني النوارس ببياض أجنحتها.
حدثتني روحي أن أمضي إليك، ما تبقى لي من رهاناتي الخاسرة، ماذا أفعل وقد حاصرني الغياب من جهاتي كلها، ستفاجئيني هذه المرة، ستطلين من وراء الباب، ستبتسمين كما كنت تفعلين دوما، ستعطيني الورقة الملونة وعليها خربشات جميلة ضاجّة بالحب، افتحي الباب، سأعدك، لن أقول لك شيئا عن السلطان، سأخبيء عنك حكاياتي معه، لن أخبرك أنه غادر مسقط بدوني تاركا إياي مرميا على رمال الساحل، أعرف أنك ستهربين صارخة حينما أقص عليك حكاية حارس القلعة، وصغاره الذين يروي مشاغباتهم لي.
سأخبرك فقط أنني اليوم سرت وحيدا بدونك، أخذني سوق الظلام إلى قاع ظلماتي، وجوه تكاد تتشابه، تقعد في مواجهة قادمين من أصقاع البلاد، وهي القادمة من أصقاع بلدان وبلدان، قابعة هناك في القريب البعيد بين جبال وأدوية، ولا تدري أي صقيع اختزنها في فوهة روحي.
لوّح لي البانيان بثوب قماشي يغريني أن أبتاعه، تبيّنت لاحقا أنه (المصر)، إنما كان مزركشا فوق قدرتي على تبيّن ألوان خيوطه، ربما رأى أن ما أضعه على رأسي يحتاج إلى إبدال وقد أنهكته شموس تشرق كل يوم حامية الوطيس.
قرأت في نظرتي عينيه ما أهاج سؤالا في ذاكرتي: هل رأيت السلطان مرّ من هنا ذات زمن؟. لوّحت لي العينان بأن حملة أسلافها قد حدثت لهم مثل تلك الرؤية، إنما رؤياي تنبؤني بأمر آخر.. دسسته على مضض، وعبرت في ردهات متتالية، كان باعة الذهب يجادلون نساء القرى على شراء ما حفظنه من ذهب، يبيعوهن الأقل بأكثر من قيمة الأثقل في صراتهن المخضبة بعرق وزيوت، سمعتهن بالكلمات المعهودة يقلن: كم آخر؟ فيستجيب البائع قليلا، هل ستحدثينني عن (المفرق) الذي اشترته لك أمك من الصائغ اللوتياني، وأنك بدوت عروسة تنتظر فارسها؟
لا جدوى، هذه الذات الأخرى تلتصق بي كلما هجعت إلى ذاتي، ذات راهني ، لا تلك المتوترة، الباحثة عن مكامن بعيدة.. نصحني الطبيب بالبعد عمّا يحفز ذاكرتي النشطة على ملامسة الأمس..
مرأى عقد الذهب يتراءى لي من مكان بعيد في الذاكرة، كأنني رأيته على صدر امرأة أطلت ذات رؤيا حدثت منذ قرون، أبصرته معلقا على واجهة دكان الذهب، كبيرا، مبهرا، تتصاعد لمعة صفرته مع فصوصه، اقتربت كثيرا من سلاسله الحاملة لما يشبه كتاب صغير، حمله ثقيل على عنق حامله، توقفت دقائق أعصر ذاكرتي، شعرت بالزجاج الفاصل كأنه اقترب كثيرا من جبهتي حد الملامسة، اقترب مني الجالس داخل المحل:
- أعجبك؟
- نعم، نعم، لكن.
- يا ولدي اذهب بعيدا من هنا.
- لماذا؟ أقصد كنت أتفرج عليه فقط، هل هناك نسخة أخرى تشبهه؟
- أحسن لك أن تبتعد من هنا.
- نعم، ممكن، ممكن جدا، لكني رأيت امرأة تلبسه.
- أين ومتى؟
- في الحلم، منذ لا أتذكر.
- يا ولد، خير لك أن تبتعد.
- لكن..
- لو بعت كل ما عندك لن تقدر عليه.. حتى لو بعت منزلك.
- سأبيعه، وسأشتريه، أقصد بيتنا، سأشتري هذا.
- لآخر مرة أخبرك، اذهب بعيدا من هنا.
لم أنظر ورائي، الزجاج له خاصية نفاذ الرؤية، أنفذ ببصري إلى داخل المحلات المكتنزة بالألوان الصفراء والبيضاء، وببصيرتي باحثا عن عقد رأيته ذات حلم لا أدري متى وأين.
أحكم العقد الذهبي المسافات أمامي، لم أعد أر غيره، امرأة الحلم تلوح من بعيد، ملاك يتشكل حينا من غيمة، في التماعه عقد من ذهب، أكاد أمسك على صورتها، ملامحها، تكاد لساني تقترب من اسمها، أعرفها كثيرا، أجهلها أكثر.
فجأة شعرت بأن سفينة السلطان تترقبني هناك، أصخت السمع، كان الباعة والمشترون يمضون غير آبهين بوقوفي الحائر، ليس لي مهرب إلا هناك، الباب مغلق، والجدران تعبث بها الكلاب حاكّة طهورها الملآى بالحشرات.
قعدت قليلا عند مدخل إحدى المحلات المغلقة، قلت لأجرب الجبل، سأذهب إليه..
الجبل ملاذي، قوتي بصخره، قلعته مطلة بغرور على مساحات الماء والبناء..
خلفت ورائي فوهة السوق القريبة من مسجد الرسول الأعظم، مقهى بائس يوزع أكواب الشاي بالحليب على عدد من البسطاء، مهاجرين ومواطنين، فضّلت السير قريبا من البحر، نظرت شمالا، ترقبت مرور حزمة من السيارات المتتابعة، قفزت بسرعة إلى الرصيف الفاصل بين الشارعين، كررت الفعل مرة أخرى، وصلت إلى الممر المزخرف، على يساري كانت الميناء تستقبل سفنا ضخمة كأنها فنادق تسير على الماء، نوارس لا تحصى تحتفي بوجبة خبر يلقمها إياها الخبّاز الباكستاني في ساعة سرور، أبهجني المشهد، نسيت أمر الجبل والقلعة العتيقة فوق قمة صخرته الكبيرة، طلبت من الباكستاني قطعة خبز، تفتتها إلى قطع صغيرة، ألقيها نحو الماء فتتسابق النوارس البيضاء إليها..
انتهت الخبزة من يدي..
انتبهت إلى أن الرجل الباكستاني فارق موقعه القريب مني.. لا أدري هل بقيت خبرة في يديه حملها معه أم أن النوارس أكلت كل حصيلته، نظرت لصاحبات الأجنحة البيضاء تحوم كأنها تنتظر مني شيئا، لكني أعجز عن فعل أي شيء.
بدا المشهد مغر، قطعة خبز وسحابة بيضاء من نوارس، وأنثى لها وهج ملاك ووجهه تلاحقني يزينها عقد كبير من الذهب، أخذني الوجه إلى البعيد.
كانت القلعة تطل بثبات من فوق قمة الجبل.
شعرت بالعجز، كأن حيلتي تخلت عني، رأيت وجها يرمقني بعطف غريب، اختفى فجأة، كأنه متخيل حلّ فجأة، واتتني قوة غريبة، بحثت عن منفذ لأهبط إلى البحر، متجها إلى الطيور الحائمة بكثافة بين الحائط الاسمنتي والماء".


12

بدت بقية أسطر الصفحة غير واضحة الكلمات، أصابها البلى، ربما تخلى عنها حصنها الأسود قليلا، ذابت الأحرف في عرق الصدر الذي تحتمي به، أو أنه يحتمي بها، الكلمات تتساقط بين عيني، وأسئلتها تقذفني في لجة من علامات استفهام، من صاحب هذه الكلمات على الأوراق الساكنة داخل كيس أسود يقبع على لوح قفص صدري لشاب يبدو مختلا؟!
الحكاية على لسانه، كأنه مؤلفها، من هذا السلطان الذي يرجوه آتيا على ظهر سفينته.
من أين له بكل تلك الكلمات ومسارات الحكاية؟!
تناولت قلمي أرسم بقية المشهد:
بين صراخ وضحكات باغت الطيور في مباهجها، عبث بالماء، مع الطيور، توقف البشر على الجانب الآخر من الحائط الأسمنتي، تهامسوا عن المجنون الذي يرونه أحيانا في سوق مطرح يحمل عصاته الغليظة ويضحك دونما سبب ويمضي غاضبا أحيانا لسبب لا يفهموه جيدا.
هو يضحك ويتقافز مع الطيور، وهم يتفرجون، سدّ الزحام الشارع، فاض على المربعات البيضاء بين إشارات المرور، أمام بوابة مدخل السوق..
فجأة سقط في الماء، لم يكن هناك الكثير من الطيور المتقافزة، مضت جموع المتفرجين تاركة المشهد في عبثيته، فاض عن حاجتهم للفرجة، نهض وجلس على صخرة تحميه من الغرق، رأى السوق من هناك".

13

"السيارة تقودني إلى وادي حطاط، لا أدري كيف مرّت وادي عدي على يميني، غصت في التواءات الوادي المتجه صوب العامرات، آسيويون يعملون تحت صهد الشمس، وآخرون يعبرون التحويلات الجانبية المقامة ليكتمل الشارع الجديد، لا علاقة بين الجالسين في غرف السيارات المقاومة لحرائق الصيف والقابعين عمّالا تحت وهجها المباشر.
اتبعت الطريق أنشد البقعة التي حفظتها بتكرار العبور، أبحث عن موقف لسيارتي الصغيرة، حفظت تسلسل الأشياء، أكرر المشاهد كداخل في عرض مسرحي مستمر غير قابل للتغيير، أهبط من السيارة ثم أمضي إلى المدخل الرئيسي، ممر قصير ثم انعطافة لليسار، أسأل عن الدكتور، لا حاجة لأن أقول اسمه، يعرفني من أصادفه أنني أقصد فلانا بعينه، أسلّم عليه ثم أسلم ذاتي - لا أدري أي ذات فيهما - إلى الدكتور..
- هل أنا مجنون يا دكتور؟
- تعيد نفس السؤال كأنك لم تملّه، أنت في مستشفى ابن سينا.
- مستشفى المجانين.
- لا يوجد مجانين، فقط هناك من يتوهم أن الآخرين ليس لديهم عقل.
- أعاقل أنا؟!
- جدا.
- إذن لماذا آتي إلى هنا؟
- أنت شخص مطلع وتعرف لماذا تأتي، أعني لو كنت تعرف طريقا لتتخلص مما بك لما احتجت للمجيء.
- السيد دائما، السيد، أفكر أن أزور زنجبار.
- أخشى عليك أن تغرق في مرضك أكثر، أو ربما تنصّب نفسك حاكما على زنجبار يا صديقي.
- فات وقت ذلك جدا..
- هل ما زلت ترى السلطان يركب سفينته باتجاه المدن البعيدة كما تسميها؟
- نعم، يخيّل إليّ أن المشهد متواتر أمام عيني، لفترات لا أعرف مداها أغيب في حكايات.
- اطمس عين روحك التي ترى المستحيل وافتح عين قلبك لتشعر بواقعك.
- يا دكتور.. كأنك تحمّلني ما لا طاقة لي به من الكلام المتفلسف؟
- لتشعر فقط أنك عاقل جدا.. إنما أنت ذاتان، يلزمك بعض الفصل، أن تنسى أحدها لتستعيد كامل صحوك دون الأخرى.
- يا لهذا السلطان العتيد، مرة أشعر بالسلطان يأتي ليخبرني آخر حكاياته عن البلاد البعيدة هناك، مرة أراني في هيئته، ألبس عمامته، وأنظر للصّافنات تحملني وحولي حاشيتي، يراني فيضحك، يعرفني بالاسم، يقول تعال معنا ولا تخف، ويقبض على يدي، يعرّفني على من معه، وجوه لا أعرفها أكاد أعرفها، وأمكنة أجهلها إنما معه أراها معلومة.
- أشعر أنك تحتاج للمكوث معنا فترة من الزمن.
- هل حالتي صعبة جدا وخطرة؟
- أخشى عليك أن تؤذي نفسك، مشكلتك أن عالمك الآخر يشدك كثيرا، إلى درجة كبيرة جدا، أكثر مما ينبغي.
- لكنه عالم جميل وعظيم، بعيدا عن عالم الخيانة والخداع والكذب، كلهم يتآمرون علي، كلهم، حتى أقرب الناس إلي، أمي، أبي، أخوتي..
- دعنا من هذا كله.. ألم تحب امرأة؟!."
فجأة انقطع الحوار بين الرجل عند هذه النقطة، بحثت في صفحات تالية ما أتوهمه تكملة لإجابة يبحث عنها دكتور معالج، لماذا بقي السؤال معلقا؟
أسئلتي - أيضا - بقيت معلّقة فوق جدار الوقت، بدت الأشياء أقل إعتاما مما كانت عليه قبل الأوراق التي أكملت قراءتها، لكنها ليست واضحة بما يكفي للرؤية الكاملة.
مثل لعبة الكلمات المتقاطعة بدأت أرصف الحروف إلى بعضها البعض لأرى الكلمة بما يكفي لقراءتها، أو تخيّل الحرف الناقص منها، قد يأتي حرف آخر ويكون للكلمة معنى، لكنها ليست الكلمة القادرة على تكوين كلمة أخرى حرفها جزء أساسي من حرف تلك.

14

"من طرف السوق أخذ دربه يسارا، في الالتفاتة الثالثة، عبر مصنع الحلوى، تضمّخت أنفه بالرائحة العبقة، طرق باب بيت، بابا خشبيا عتيقا، مغلقا دون قفل، كرر الطرق كما اعتاد، انتظر لحظات.. مثلما تعوّد، توهّم – للمرة الألف - أن ساكنا قد يخرج في أية لحظة، رمقه عابرون بنظرات معتادة أيضا، غمزه بعضهم بنظرات، والآخرون مزقوه بأخرى، تمهّل في سيره، خشي أن يتبعه أحد، ويرميه بشيء.
حدثته نفسه بفكرة عابرة، لن يطرق الباب مرة أخرى، سيكتفي بالصمت.. قد لا تفتح الأبواب بالطرق، ستكتفي بالوجه يرصد الضلفتين يرجوهما أن انفتحا، لم أجد السلطان يا حبيبتي، غادرت القلوع قبلي، كأنه سمع الجدران من حوله تتهامس، من ذرات التراب الآكلة في تماسك الأسمنت، الرطوبة الناخرة في الأماكن، كأنه سمع صدى البارحة في صوت الجدران..أمسك عليك زمام نفسك، فالصحراء مفاوز من الرمل، رمال فكرك تكتبها عيناك، هاتان المندفعتان إثر البعيد تترصده، رغم أن الريح كنست خطوات العابرين قبلك.
مسارك: تنقشه وحدك على اصفرار الموج، هي العواصف: صانعة الهيجان في الماء .. وفي الصحاري، هل ترى ضفاف الذاكرة أيها العابر؟
تسحب سنواتك الفتية وراء ظهرك، تحيطك ضلالها في قسوة اللهيب، زمامها في يديك، يتدفأ من وعثاء السفر، شق خطوك في الرمل، وأنت على موعد مع الغروب تنهي انسحابك إلى موقع تخطه بمزاج بدوي ولد على ترحال.
أمسك عليك زمامك ليتسع خطوك، مسامروك يعرفون لغة الرمل، وأنت لازلت تقرأ أي مفاوز ستغير عليها، أمامك، وراءك، حولك: لون واحد يرتقي إلى زرقة السماء، تلك التي تشمخ إليها أعناق ممتدة.. بحنين وإباء.
أسند ظهره للجدار، رأى الحلم يأتيه مرة أخرى، رأى حارس السلطان يأتيه، يقوده إلى القصر، يركبه سفينة، كل أحلامه لا بد لها من سفينة تمخر الماء في يوم مشهود، بقبضته القوية سار به السلطان بين حاشية وخدم، وقف به ومعه على مقدمتها، حدثه بحكاية البحر والبحّار، قال له: إن وراء الممالك ممالك، ووراء المحيطات ماء وماء، وهناك جزيرة خضراء، قد تشبه التي في أحلامك، بها فاكهة وعبيد، ومزارع القرنفل تمتد من طرف العين إلى أبعد نقطة تراها، وأبعد مما تراها، سترى العبيد يعملون في طاعة السيد، وكل صاحب مال فهو سيد، وكل من لا يجد المال فهو.. عبد.
لكن الحلم لا يكتمل، تنفتح العينان، وراءهما البحر، بحر عمان، أمامهما السوق.. سوق مطرح".
في وقت بدوت فيه قريبا من الرؤية غامت الأشياء أمام عيني مرة أخرى، من يكتب عن الآخر؟!، سارد آخر يدخل لعبة الحكاية، يتخيّل الشاب، يكتب عنه، في الأوراق السابقة كانت الكلمات منطوقة باسمه، في هذه الورقة ظهر سارد محايد، شعرت برطوبة الطقس تخنق فضاء الغرفة، ضغطت على زر جهاز التكييف، أطلق زعيقه، كثير من الصوت، قليل من الهواء البارد، استسلمت لما أسميه دوما أقداري، لائذا بالأوراق.. مخمنا أن الدكتور ربما يكتب أسطر الحكاية..
داخل مستطيل أنيق انتبهت إلى بضعة أسطر وضع تحتها بضعة خطوط..
" لن أطرق الباب، سأتوهم أنها خارجة للتو مبلل شعرها، وتستدير حياء نحو المرآة الطويلة في واجهة غرفتها..
لو طرقته قد يتساقط أمل، تنكسر جبال من الأوهام أغرسها في عيني، سأعود سريعا حبيبتي، فقط، سأذهب إلى الساحل وأعود، لا، لا، على الساحل لن يراني، سأصعد إلى جبل القلعة، وأصرخ به أن يراني، السلطان العتيد هناك سيغادر، أريد أن أراه، حلمي قال لي: ستراه، وستقبّل يده، وستبحر معه في سفينته، سيعود لي الحلم من جديد".
غصت في قبو الحيرة أكثر..

15

"ينظر الدكتور بترقب إلى الجالس أمامه، يستمع للحكاية، ينسى المريض والمرض، يرسل أذنيه متقصيا أسفارا ومدنا.. الراكب للموج، المتوّج بالرؤية والرؤيا، يحدّثه عن خولة، ابنة السيد سعيد، الجميلة التي لم ير مثلها، عن حبيبة متوارية خلف الباب لا تفتح ضلفتيه، من مطرح إلى قلعة الجبل، من زنجبار إلى حارة قديمة يتردد صدى الكلام، ترسل اللغة إشاراتها.. تنبيهاتها.. تقاسيمها.
يكتب الدكتور على أوراقه ما يستطيعه، كالمعتاد يعطيه نسخة منها، يلفها في يده..
- أنت طبيب استغلالي.
- كلما أسمع الكلمة المتكررة منك أراجع نفسي.
- لا تأخذها مأخذ الجد، تعرف قصدي، أعني أنك كاتب يستفيد من حكايات مرضاه، طبيب نفسي يخفي وراءه كاتب.
يخرج حاملا معه ابتسامة القلق، يدفع الباب بهدوء، يخرج جسده، يغلق الباب بهدوء – أيضا - كمن يخشى صدمة صوت لا يحتملها، يعبر سريعا الممر القصير، يدير جسده يسارا باتجاه الباب الخارجي، يبحث في جيبه عن المفتاح، يلقي بجسده على مقعد السيارة، ويبقى بضع دقائق كمن يحاول استيعاب ما جرى ويجري، يقرأ الأوراق، يعاند الشمس، ويقلب عينيه بين الأسطر".
بدت الأوراق في يدي ثقيلة الوطء، والسؤال هو السؤال: من مؤلفها؟.. مرة يلوح كأنه كاتب الكلمات، أحيانا يرويها محايد كأنه الطبيب، أي سر بين دفتي الأوراق؟!
اقتربت من بقعة ضوء.. الطبيب كاتبها، أو له دور فيها.. الشاب، وربما في حالات صحوه قادر أيضا على رصف الكلمات بتلك القدرة، تساءلت بيني وذاتي عن المسافة الممكنة من الشساعة بين حالات الغياب والصحو.. الشاب الدائر في سكك السوق وحارات المدينة، المتكيء على جدار قديم، تذكرت فجأة: إذن الباب هو ذلك الباب.

16

"أخبرني حارس الميناء أن القلوع أبحرت قبل قليل، فاجأه السؤال كما فاجأتني الرحلة / الإجابة..
قلت له كيف حدث ذلك أيها الحارس، أخبرني السلطان أنه سينتظرني، السلاطين لا يخلفون مواعيدهم.
صمت الحارس، نظرته الحائرة لا زالت في عيني، التصقتا بي، بالغت في النظر إلى الموج سأحدثه، سيفهمني حتما، سأسوق إليه ما رأيته بعين الروح وعصف الريح..
إليك أيها السلطان العتيد.. كأني أراك تبحر من هناك، تجر وراءك أسطولا من الأخشاب والمحاربين، على ظهور السفن حملة أسلحة وبضائع، يقولون إن في تلك البلاد ما يكفي لإمداد البلاد بالمؤونة، حين تحاصرها سنوات عجاف، يجف فيها الضرع ويموت الزرع.
لوّحت بيدي، كأني أراني في الحلم أقف على ميناء مسقط، أراه السيد المبحر، لا أتبيّنه إلا شاخصا عمامته الزرقاء بألوانها وأهدابها تتربع عرش رأسه وتفيض الخيوط الوردية منها، بوجهه الحاد كالسيف، بعيني صقر ينظر إلى البعيد يحاول أن يتبيّن كل سفينة يبين بها الفضاء البعيد، عبرت الميناء رايات عديدة الألوان، حملتها سفن قادمة من أعالي البحار وأدناها.
كأن سفينته اقتربت مني كثيرا، رأيته على القرب، بين ضباب يكاد يحجب الرؤية عرفته، إنه هو، عين قلبي لا تخطئه، سرت بخطواتي إليه، رمقني بحزم ومضى، ركب سفينته ومضى، انتظرته بحزن ربما يعود، وجدت يدي فجأة في يد رجل شديد السواد، له قامة ضخمة، انفتح فمه على أسنان بيضاء كاللؤلؤ، أنزلني مما أظنه مصطبة خشبية عالية، وجدت أقدامي في الماء، كان الماء يقفز إلى وجهي كالموج، بين الضباب غاب وجه السلطان، رأيت سفنا لا تحصى تغيب في الضباب، غالبت الموج أن يحبس أنفاسي، بحثت عن الرجل الضخم، أشعر بقبضته لا زالت على معصمي، لكنه غاب، تحسست يدي، وفركت بها عيني، آثار ما أحست الأولى بمشاهد ما رأت الثانية، علّهما تعينان بعضهما على الوصول لمساحات رؤية أشد اتساعا.
صعدت إلى الجبل، القلعة في غبش الرؤية تكاد تتوارى، وجدت حارس القلعة، الجندي الوحيد، لم يسألني عن شيء، إنما وجدت الباب مغلقا".
في الحكاية أكثر من باب مغلق.. أكثر من شخص يكتب الحكاية، دققت في الخطوط كمحقق يفتش عن دلائل لجريمة وقعت، أبعدت الصورة بسرعة، أرعبتني، لمت نفسي على هذا التشبيه، الشاب يحلم بسلطان يسافر إلى زنجبار، والدكتور يعالجه في مستشفى ابن سينا، ما يعنيني من وضع كلمات الحكاية في هذه الأوراق.. الحروف لا تدل على شيء، قلت في نفسي: كاتبها قد يكون أكثر من شخص، لكن ناقلها إلى هذه الأوراق شخص واحد.
الأوراق غير مرتبة بأرقام، خشيت أن تطل ورقة قبل تاليتها، لا مناص من ذلك.. صوت جهاز التكييف يرتفع أكثر.. تذكرت الأربعين ريالا التي نقدتها محل بيع الأدوات الكهربائية المستعملة، ضاعت كلمات تطمينه على قدرة الجهاز، والصوت أعلى من الكفاءة، يحدث هذا في بني البشر ايضا، عدت إلى الأوراق..
"أراه كثيرا يا دكتور، البارحة بدا لي ما يشبه حلم حالم، رأيتني أسير في سوق مطرح، كانت عيني تتابع الدرب وأخرى على السقف الخوصي المانع للشمس من الوصول، تحملها جذوع تعبت من حملها وتعاقب الزمان عليها، كان يدفعني في الدروب الضيقة محاولا تفادي البدو القادمين من خارج المدينة وهم يتقافزون كالظباء محملين بأسلحتهم التي لا تفارق أكتافهم، الرجل الضخم بسواده بالغ ينتظرني في زاوية السوق، قال اتبعني لترى السلطان قبل أن يهم بالسفر، قلت له أريد أن أرافقه، فهل ستحقق لي أحلامي، قال: أنا رجل الأحلام أيها المتعب بأحلامك، وبدا الرجل الضخم عامرا بالمحبة والشفقة في آن واحد، عدوت، ورأيت أقدامي تحملني على أخف ما أكون..
ورأيت أقدامي بالكاد تلمس الرمل الناعم على ساحل مطرح، على الرمل سرنا، لم يكن نظيفا، حاذرنا ما تبقى من مدافع قال: إنها برتغالية، تركها الغزاة حينما غادروا سواحلنا، تطل من فتحات الرمل حيث تنبعث كميت من قبره.. نصحني الرجل شديد السواد أن أحذر الأذى منها، لم ير أقدامي لا تلامس الرمل، والسلطان هناك يعدد مراكبه، حاشيته من حوله أكاد أراه ولا أراه، حبل الرؤية يفقد تماسكه أمامي.. درب الرؤيا ينقطع، بين فضائين أتردد بسرعة مذهلة، كمن يشارف على فقدان وعيه، يضع قدما على باب غيبوبته".
انتهت الورقة، وضعتها جانبا، تاليتها تبدأ ببضعة أسطر، شطبت بلون آخر، اجتهدت في تقصي حبرها الأصلي، عجزت.
أغرتني لعبة الحكاية، تناولت ورقة بيضاء، كتبت فيها ما تخيلته بقية المشهد:
رآهم يعبرون الدروب، يصنعون لخطوات أقدامهم معنى، يحاولون غمس حياتهم فيما تبقى من عسل البارحة.. تركوه ومضوا.. نهض من بقعته، لم يشأ حتى النظر إلى الباب المغلق، ترك كل شيء، ومضى إلى حيث تأخذه أقدامه، بائع الجبن ليس هناك، الظهيرة طاردته، بائع (الشاكليت) يستظل بآخر نهايات سقف السوق، الباعة الهنود يرقبونه بلا اكتراث، تأتيه أصواتهم عارضة بضاعتهم الرخيصة ثمنا وقيمة..
جلس إلى مقهى مدخل خور بمبه، لم يكن يسمع إلا صوت البحر، كان عاليا بما يكفي ليغطي كل صوت آخر، لم ير نفسه بينهم، أغوته بقعته تحت السلم الواصل بين السوق والشارع ليلقي بجسده متأملا ما يأتي من ماء البحر عبر فتحة يطل بها على مدينته التي باعدوا بينها وبينه.
رأوه في بقعته شاردا، محملقا في اللاشيء، كمن يسترجع حلما.. أو حياة لا يمكن القبض على منافيها.
ضع آمالك في الصحو، حدّث البحر بما تريد.
كم موجة وصلت إلى الساحل، خاوية إلا من الزبد، موحشة إلا من التناهي، والامّحاء على رمل يفصلها عن المدينة.
لا تراود البحر عن أمانيه..
غيابك حضور الموج.
موجك لا يعنيك، بل هو موج البحر يتراقص في شغف أمامك.. تدافع الماء على الماء، ذهب السلطان دونك، عد إلى بابها، قد تفتح لك هذه المرة.. لا تيأس، البحر لا ييأس من بلوغ المدينة، يحاول في كل موجة، وأمواجك ستصل إلى بابها، وستفتح لك الإبتسامة التي كانت، الباب يباعد بين ضلفته، وهي تباعد بين شفتيها، وستشهق أنك يا أنت، أعدت؟! وستسألك بشفافية السؤال الأول: هل رأيت السلطان؟
أغرتني الحكاية بالاستمرارية في لعبة حبالها، دخلت احتمالية وجود مؤلف آخر، يعطيني يقينا ما أن هناك كاتبا حقيقيا على الأقل في الحكاية، هو.. أنا.

17

"طرفت عين السلطان ورآه يلوّح من بعيد، صاعدا فوق جبل القلعة، أمر السلطان حراسه أن يأتوا إليه بالفتي، وجيء بالفتي وهو يرتجف فرحا، السلطان أمام عينيه وروحه وقلبه، هبّت كل تلك لتقبل يد السلطان، إلا فمه بقي مغلقا.. لا يدري أنه وقع مغشيا عليه، وأن حرس السلطان أخذوه بعيدا عن المركب الكبير، إلا أنه توهم بأن السلطان أخذه من يده وقال له تعال يا بني، اركب معنا ولا تخف، سترى البلاد اللابعيدة التي رأيتها كثيرا في أحلامك.
حكى له قصص البحر، وسار به يجيله على أنحاء السفينة، هنا يا بني غرفتي السلطانية، وتلك التي تجاورها لخاصتي من عائلتي، وهناك غرف لحراسي، البحر لا أمان له، والراكبون فوق سطح الماء لا أمان لهم أيضا، البحر أقل غدرا، لكن أرواحنا على أكفنا، قد تطير بها الريح على سطح البحر، أو يغرقها الموج في أعماقه.
قال له: يا بني لا تقصص أحلامك على أحد فيكيدون لك.
الأحلام مثل النوارس التي تراها تتقافز فوق فضاء الماء، تطير قابضة على البياض، والبياض محض هواء أحيانا.
".. وتنازعني صحو وغياب.. أكاد أقبض على الرؤيا فيمنعني وهج غريب، شمس تنبعث من عتمة خفيفة يحتاجها الحلم لمواصلة خيوطه الحريرية، هل تعرف كيف يكون المرء يعيش حلما جميلا، ويدرك أنه بالصحو سيغتاله، ويريد البقاء في نومه كي يمسك على ملاك الحلم؟!
أفقد حبل الرؤيا بين جبال الموج، فأنازع غرق الصحو، أريد أن أمضي في حلمي، مرة أخرى، وبين الصحو واللاصحو تذكرت السلطان يضغط على يدي، رأيته أسفل جبل القلعة، دعاني للنزول من علياء المكان، يصافح علياء المكانة..
- عمّاذا تبحث أيها الفتى؟
- أريد أن أذهب معك.
- لكن البلاد بعيدة.
- لكنها بلاد لامستحيلة لمن هو مثلكم.
- أمحارب أنت؟
- لا.
- أتاجر أنت؟
- لا.
- أتجيد الزراعة؟
- لا.. لا أجيد سوى الحلم.. أريد أن أرى ما تراه يا مولاي.
- هذا لا يكفي، لكن امض في بحار مخيلتك واتبعني".
- أريد أن أتبعك بعيدا عنها.
- لا تقاطع حديث السلاطين أيها الفتى، قلت لك اتبعني من حيث أمرتك".

18

".. وتبعته يا دكتور، رأيته بقامته الشامخة يدخل السفينة السلطانية، يتبعه عدد كبير لا أعرف لماذا يحتشدون حوله هكذا.. مازحني كأني كنت أقرب خاصته، ورأيته يبتعد عني كأني أبعد عامّته.
.. وركبت السفينة مع السلطان، وكأنني للمرة الأولى أفعل ذلك، مع أنني تذكرت بما أحدثه حلم سابق، غالبتني غيوم تحرّكها عواصف الرؤية، سار الركب، واستوت سفينة سيدي السلطان على موج أزرق ناعم، وهبوب ناعس يداعب العمامة الملونة فوق رأسه، جبال مطرح تختفي من مدى رؤيتي، تتلاشى في رطوبة تحجب المكان شيئا فشيئا، تحسست خشب السفينة، نظرت إلى أشرعتها، المكان له رائحة غريبة, لم أهتد إلى كنهها، كأني رأيت الرجل الضخم بسواده، تبعته حيث مرق، أخذت دورة كاملة حول سطح السفينة، خشيت دخول أحد الأبواب المغلقة المفضية إلى حيث لا أعرف، خشيت كل أمر قد يثير غضب السلطان وقد أخذني في رحلته صوب الأماكن البعيدة.
فجأة رأيتني في مجلس واسع، نوافذه كأنها لوحات لبحر حقيقي يتحرك ماءه، أخذ السلطان صدارة المجلس، وحوله سادة وحشم وخدم، ورأيت غلاما أسود يدور بالقهوة في دلّة لم أر مثلها، قال السلطان - وقد وجّه عينيه باتجاهي - يا بني اقترب لأحدثك.
فاقتربت محاذرا ما لا أتخيله في تلك اللحظة، سألني السلطان مبعدا فنجان القهوة عن فمه: هل رأيت زنجبار من قبل؟
قلت له: أبدا يا سيدي السلطان، أسمعهم يقولون أنك حاكم عمان وزنجبار.
قال: إنك الآن في المسافة بينهما، عمان وراءك وزنجبار أمامك، يفصلهما البحر، وأوصلهما أنا بحكمي وحكمتي.. سترى بلادا غريبة على عينيك قريبة من فؤادك، السير فوقها كالسير فوق جمر متقد، تحاذر رصاصة تأتي من خلف جدار، ومن خنجر يستتر بما أمنت إليه، القبائل رصاص غادر، والغزاة وعد كافر، من تشتريه اليوم يبيعك غدا، والكريم معك صباحا لئيم إن جنّ الليل.
سألني إن كنت فهمت ما يرمي إليه فصمتّ، لم أرم الإجابة، فعاجلني بحديثه: من يجلس على العرش يفهم أكثر، ومن يحكم بلدين يفصلهما بحر يدرك أعمق، إن لم يأتك الموت فيهما ففي المسافة بينهما.. هل تدرك أيها الفتى ماذا في قاع البحر؟ قلت له يكفيني ما أراه من عظمة امتداده، قال لي أن الامتداد الأعلى له آخر أسفله، أشد توحشا ومهابة، هناك يا أيها الفتى جمال أخاذ قد نراه رؤيا العين، لكنه لا معنى يفسره سوى العدم، هكذا هي المسافة بين مسقط وزنجبار، هل فهمت؟
وقبل أن أجيب بعجزي عن الإجابة نهض السلطان، ونهض الجالسون، تفرقت بهم مسالك السفينة، إلاي بقيت، عين على الماء وأخرى صوب باب دخل عبره السلطان، أغمضت عيني متأملا اللحظة، في عتمة الإغماض تكون الرؤية أعمق، وضع أحد ما يديه على وجهي، لم أقاوم، استسلمت للأصابع الضخمة تغلقان عينيّ، جاءني صوت الرجل الضخم:
- هل أدركت ما قاله السلطان؟
- وما يدريك أنت ما قاله؟
- كنت بجانبك أسمعه وأسمعك.
- لم أرك.
- تراني حينما أشاء أنا، لا حينما تشاء أنت.
- من أنت؟
- قلت لك سابقا، أنا رجل الأحلام، محقق رؤياك، أين تتخيل نفسك الآن؟
- أنا في سفينة السلطان، أغادر عمان بصحبة السلطان إلى حيث البلاد البعيدة زنجبار، سأرى فيها ما حلمت برؤيته.. قرّبني السلطان إليه كثيرا، حدثني عن ممالكه ومسالكه، شربت فنجان قهوة كالذي شربه من قليل..
سمعت ضحكات قوية، كان الرجل الممسك بوجهي يضحك، يضحك بقوة أرعبتني، انتظرت حتى خفت رعد قهقهاته:
- بل أنت ملقى في ساحل مطرح، أنظر إلى جانبك وسترى الحاجز الأسمنتي للشارع.. ألا تسمع ضجة السيارات؟
- لا أصدقك، لن أفتح عيني، تريدني أن أخرج من جوهر أحلامي.
- أنا جوهر أحلامك، أنا جوهر، نادني جوهر، أو كما أحلم أنا أيضا، سمّني مستر جوهر، قادتك حاستك لتعرف اسمي، إذن افتح عينيك لترى أين أنت.
.. وفتحتهما، وجدتني كما قال الرجل الضخم، لم يكن أحد بجانبي، فقط عيون أشعر بها من بعيد تبعث إشارات مشاة لم يتخيلوا أن يكون النائم على الرمل الذي خلفه الجزر رجل به ذرة من عقل، صدمتني الرؤية، فتشت عن دروب أعبر بها إلى رؤياي، غالبت المشهد، أغمضتهما لأرى الرؤية أعمق.. عادت الأصابع تلتصق على عيني، جاءني صوته:
- هل رأيت؟
- ما أقسى الرؤية!.
- إذن سأتركك في رؤياك.
وقبل أن أتكلم أردت مباغتته برؤيته، فتحت عيني، وجدتني على ظهر السفينة، الباب ليس ببعيد، كأني سأرى السلطان يخرج منه، يأتي ليحدثني عن المسالك والممالك.
ورأيته قادما باتجاهي، نهضت مسارعا خطوي إليه..
قلت له: يا سيدي السلطان حدثني عن تلك البلاد، قال:هي بلاد خصبة، مياهها عذبة، بها أودية وأنهار، سهولها منبسطة، لها طول ممتد نحو 85 كيلومترا، ولها عرض يصل إلى 39 كيلومتر، يقال إن صعدت إلى أحد تلالها في يوم مشمس سترى الساحل الإفريقي، لها ساحلان، شرقي وبه صخر تجنبناه، وآخر غربي متعرج ملنا إليه، فموانئه طبيعية، أمطارها يعرفها الشتاء والصيف، غزيرة تلتقي بأرض طيبة، تلك زنجبار قلب ما سألتني عنه، لكن هل تريد معرفة ما هي أخصب مكان هناك؟
أجبته: نعم يا سيدي.
قال: انها بمبة، جزيرة حولها مياه عميقة تجتذب السفن إلى الرسو فيها، ساحلها متعرج، وتربتها خصبة، وسميناها الجزيرة الخضراء.
صمت سيدي قليلا، ثم قال: كان يحكمها البرتغاليون، لكن الإمام سلطان بن سيف وصل إليها عام 1965 للميلاد، وطردهم منها، وأعلنت ملكة زنجبار موانا مويما ولاءها للإمام سلطان بن سيف دافعة له جزية سنوية"।








19

الأوراق تأخذني بخفة مريبة.. الحروف غائرة في أجساد بعضها البعض.. تحتاج إلى وقت لأعزلها فأتمكن من قراءتها.. شعرت بالنعاس، غالبت النوم، إلا أنه غلبني..
رأيتهم كما تخيّل الفتى الجائل في سوق مطرح، أو ما شابه ذلك، صاحب الشقة يأتيني بينهم، المحقق يسألني عن إجابات لا أملكها، أكرر عليه أنني ضحية ولست نصّابا، هناك من سرقنا جميعا، لا يصدقني، يريد خيوطا موصول بعضها ببعضها الآخر، أجهل ما يريد، وأجهل أيضا ما أريد..
أنهض من نومي محاولا إيصال الخيوط كما يريد المحقق، يخيّل لي أنّي رأيت في نومي السلطان، وتخيّلت جوهر، والشاب يجلس إلى جانب ذي العمامة بخيوطها الملونة، وفنجان القهوة في يديه، ثمة طارق لبابي، لا أعلم الوقت في هذه العتمة، أشعل الضوء لكن لا شيء يبلغني أين تقف عقارب الوقت في لحظتي هذه.
تكاثرت الطرقات على الباب المنهك، الواقف منذ سنوات طوال على فتحة في أحد جدران الغرفة الأربعة، يئس الطارق، ومضى، لم أحفل بمعرفته، تصاعد خوف مقيت في بدني فجأة، لم أر الأوراق بجانبي، كمجنون بحثت عنها، اندست تحت اللحاف كمن يبحث عن دفء، قلبتها جميعا، السؤال يلحّ: من كاتبها؟!
الشاب أو طبيبه أو هما معا، أو شخص آخر محايد؟

20

"اقترب مني الرجل شديد السواد، أخافه كأني أراه للمرة الأولي، قال: لماذا الخوف مني، إني معك.. حارسك وتابعك..
أخبرني الرجل شديد السواد - وقد كان ممسكا بكتاب ضخم - أن الطفل لما يبلغ سبع سنين بعد حينما مات أبوه، قالت له عمته، أخت أبيه، السيدة موزة بنت الإمام أحمد بن سعيد، يا سعيد، أنك السلطان صرت، سأحميك من مكائدهم، سأكون أنا مدبرة الأمور وحاميتك مما في الصدور..
فاجتمع إليها وزراء الحكم مرغمين، تحاسبهم وترشدهم، تقود الأمر حيث صعب الأمر..
حدثني الرجل أن المحاربين حاصروا المدينة، ارتدت السيدة موزة ملابس الرجال وقامت بتفتيش المراكز العسكرية ليلا شادّة من أزر عساكرها في الأماكن المكشوفة، معرضة نفسها للموت مرات عديده، ولما لم يبق في أقبية المدينة رصاصة جاءت السيدة بما لديها من دولارات فضية وأمرت بصبّها لتكون الرصاص الذي يحمي المدينة من محاصريها، وحشيت المدافع بالمسامير والحصى كما أمرت السيدة الوصيّة، كانت تجول على جيشها تثير الحماسة فيهم، وأمرت بمعركة أخيرة، هي الحياة لما تبقى من حكم، أو النهاية، باغتتهم حيث ترقبوا نهايتها، فتفتت شمل المحاصرين، وبقيت الآمرة الناهية حتى إذا بلغ الصبي سن الحكم وجد البلاد في أحسن حال، مستقرة دون وجع التشظي، آمنة من مكر الطامحين في سلطة أو فتنة".


21

"في اليوم الذي لا أعرف حسابها قال جوهر هل رأيت رأس غردافي؟ سندور عليه، يبدو كلسان يستقبلك في القارة السوداء، رأى في عيني لمحة ما، قال: هي سوداء كجلودنا، نحن وهي سواء، نحن الأرض، قلت له خفف الوطء يا جوهر، أعاد عليّ حكاية رأس غردافي، آخر نقطة برية قبل أن يأتي ساحل الشرق الإفريقي..
- هل رأيت مقديشو من قبل؟
- لا.
- هي من موانيء ساحل البنادر لو كنت تعرف، لكنك لا تعرف، بعده يأتي ساحل ماريما، هل تعرفه؟
- ربما سمعت به يا أيها الجوهر.
- هو ما يعنيك، عليه تقع زنجبار، البلاد البعيدة التي حلمت بها.
- لم أحلم بزنجبار، بل بسيدها السلطان.
ضحك جوهر، ما زلت أسمعه يضحك، قال: سترى قبلها على ساحل ماريما ممباسا، ثم بيمبا، هذه لا يحدها سوى الماء كما هو حال زنجبار، سألني مرة أخرى عن ساحل مانغاو..
جفّ نبع صبري، قلت له صارخا: لا أريد أن أعرف سوى السيد وأمكنته، زدني علما بها يا جوهر".
على الهامش قرأت:
"وعلى البر الآخر لاح اخضرار عجيب، وانسكب المطر قويا، وماج البحر قليلا إلا أن البحر هدأ حينما أراد السلطان ذلك، هبطا ووراءهما الجنود، ويده في يد السلطان العتيد، قوية كانت وضخمة، شد عليها كأنه يخشى أن يصحو من حلمه كما اعتاد ولا يجد سوى فراشه المهتريء فوق بساط مصنوع من قصب الوادي".
شخص آخر يدخل في نسيج الحكاية، محايد يرصد حركة الشاب، ويده في يد السلطان، وصف لحالة الحالم بالسير مع السلطان، له فراش حقير لا يفصله عن الأرض سوى بساط من القصب.
الأوراق متوزّعة بين يديّ، بعضها في يمناي، وأخرى في يساري، وأقلّب النظر بينهما، مكافحا الرغبة في مواصلة القراءة قبل فهم من أعطى ذلك الشاب هذه الأوراق؟ قفزت إلى ذهني صورته مقتعدا كرسيا في شرفة المقهى الجديد يقرأ بعمق، شعرت برغبة عميقة في تغيير بوصلة أسئلتي لتكون صوب الشاب.. من يكون؟! وما هي مشكلته؟!
حدثتني نفسي بالذهاب إلى مستشفى ابن سينا، سأسأل عن طبيبه الذي يحاوره، لكن لا اسم له، كما أنه لا اسم للشاب.
ضعت في حيرتي.. نهضت بسرعة كما باغتته فكرة يخشى من نفاذ فرصتها، ارتديت ما تيسر من ملابسي، قبل أن أغلق بابي للخروج تذكرت الأوراق، خشيت عليها من قدر قد يقود إلى المكان صاحب الشقة، قد يكون لديه مفتاح آخر، عدت سريعا إليها، جمعتها إلى بعضها البعض، فتشت في دولابي الخشبي العتيق عن ما أدفعها إلى بطنه حافظا إياها كما حفظ الحوت يونس عليه السلام، لم أجد شيئا في بطنه، وضعت يدي فوقه متحسسا ما قد يكون هناك من كيس منسي، شعرت بكثافة الغبار، وسمعت صوت كيس، خطفته على غفلة منه، نافضا الغبار المتكاثر عليه، وضعت الأوراق في بطنه، لم أجد لها مكانا آمنا فيه عليها من جيبي..
وأنا أهبط من السلم انتبهت متأخرا على أنني أضع في جيبي كيسا من الأوراق، عدت إليه مستكشفا لونه، إعتام يهبط على سلالم الضوء رغما عني، كان بلون أسود.
بقعة سوداء أخرى تهبط عليّ لم أعرها اهتماما وسط فوضاي، السيارة لا تستجيب لمحاولاتي تشغيلها..
سرت مسافة.. أعلاي شمس تلقي حممها على رأسي أولا فسائر جسدي، الشارع مزحوم بالسيارات، عدا سيارة أجرة، تأتي متأخرة، أشير على السائق بوادي حطاط، مستشفى ابن سينا، لعل قدري يكون أبيض بقية النهار، قد أصادفه هناك.


22

أخرجت الكيس من جيبي، لا أدري أين وصلت، بحثت عن أوراق لم تر عيني حروفها بعد، غصت في فوضى الحروف:
".. وجاء السلطان فجأة - وعيناي بين فتح وإطباق - قفزت واقفا على قدمي لا أعرف من أمري شيئا، قال: يا بني لا تخف، ذلك وطن ولدنا في ترابه، وهذا آخر نأكل من خيرات ترابه، ولدت في سمائل، عام 1206 للهجرة 1791 للميلاد، في العام الذي مرض فيه والدي سلطان بن أحمد، وقادتني أحلامي إلى زنجبار، ليست وحدها إنما ما جاورها من بلاد ووهاد.
يا بني إنني زرت البلاد البعيدة لأول مرة عام 1828 للميلاد، وعندما شاهدتها قلت: إنها ستكون المنطقة الرئيسية لوجودنا في الساحل الافريقي، وفي عام 1942 للميلاد أدخلت إليها زراعة القرنفل حيث جاء بها الشيخ صالح بن حرمل العربي من جزيرة تدعى ريونيون، وساعده في ذلك رجل فرنسي يدعى سواسي، وعددها الآن ثلاثة ملايين ونصف المليون شجرة في كل المناطق، ولولاها لما عرفت زنجبار هذا الرخاء..
تباسط معي السيد كثيرا..
.. ورأيته يحكم ربطة عمامته وقد داعبها الهبوب برعونة، يهمّ بالنزول إلى المدينة التي شعرت أنني رأيتها ذات كثير من الأحلام.. مدينة ملتحفة بالاخضرار على غالب أرضها والسواد في أكثر ناسها.. كانت امرأة واحدة تقف بشموخ تستقبله، قال نفر من حولي: هي زوجته السيدة عزة بنت سيف، سألتهم هل السلطان يكتفي بامرأة واحدة؟ ضحكوا كثيرا، ضحكوا وضحكوا حتى تساقطت دموعهم من هياج الضحك، أشاروا إلى مائتين من النساء، هنّ محظيات السلطان..
أيها الآتي من زمن لا يشبهنا.. سيدنا لا يكتفي بامرأة واحدة، أنت في غير الزمان والمكان.
وقف السلطان وجموع تأتي، صغار يرافقون كبارا، وكبار في هيبة السلطان كأنهم ليسوا هم، يقبلون عليه، ويقبّلون يديه، وكلما صافحه أحد كان صوت جوهر يأتيني يلقي في أذني اسما، ازدحمت الأسماء كثيرا، فوق طاقة أذني وذاكرتي، ذلك السيد تركي وقد عاش في تلك البلاد فترات طويلة، وذلك السيد ماجد، وعدّد جمعا كبيرا من أبناء السلطان، عرفت منهم السيد برغش والسيد خليفة والسيد علي والسيد محمد والسيد عبدالوهاب والسيد جمشيد، ذلك ما استطعت أن أذكره من أسماء، فطنت إلى أن عددهم تجاوز العشرين، وفيما أنا في حيرة الأسماء أسرّ إليّ جوهر بأن للسلطان 19 بنتا.
سألت عن فتاة لها هيبة السلاطين وحسن الأميرات، أومأ لي جوهر أن اصمت، في حضرة السلطان لا ينبغي الكلام إلا له، أو من يأمره بذلك.. رأيتها تعطي السلطان ابتسامة من طرف فمها، وددت لو قبضت على الابتسامة لأدرك مغزى أطل كلمعة شهاب وتوارى، لا يمكن استدراكه مرة أخرى..
تلاشى الجمع بعد ساعات من اجتماعه حول السلطان، إنما بقي رسم الفتاة التي لها هيبة السلاطين قارّا في رأسي، أحاول استعادة الوجه فيتلاشى أيضا كالجمع المتكاثر حول السلطان".
سائق سيارة الأجرة يدندن بأغنية قديمة، أنظر إليه، يقول: يا أخي دعنا ننسى الهم، أسأله عن همّه، يجيب بلقمة العيش وغلاء المعيشة، يعمل نهارا في الحكومة وفي المساء على سيارته (الأجرة)، يرن هاتفه كثيرا، ينظر للشاشة، يفتح أحيانا، يقول كلمات عامة، يبتسم بخبث ناظرا إليّ.
لم أنظر لوجه السائق مرة أخرى، عدت إلى أوراقي، أقرأ فيها من جديد..
"رأيت نفسي وحيدا، في مكان بالغ في إغوائي وجهلي به، لا يعرفني فيه أحد، سرت في درب أخضر، تجاوره أشجار خضراء من كل صوب، رأيت بشرا كأنهم الليل لا يفقهون ما أسألهم عنه، اسأل عن السلطان أين صار في هذه البلاد، تهت عنه، هو مرشدي إلى (هنا)، وفي زحام أحلامي وتيهي تمنيت أن أصادفها، الفتاة التي لها هيبة السلطان تقودني إليه، لعلها تعرف أينه الآن، الابتسامة التي رأيتها في طرف فمها ترددت عشرات المرات وأنا اصعد جبل تيهي، غريبا يسير".
بلون أزرق مكتوب بحبر جاف، وداخل مستطيل تم تحديد خطوطه بنفس القلم إنما بالمرور عليه مرات عدة قرأت: "في غيبوبته رأى الفتاة التي بهيبة السلاطين، والباب المغلق الذي لا ينفتح أبدا، خيّلت له غيبوبته أن الفتاة ستطل عليه ذات يوم من وراء الباب المغلق، وستبتسم تلك الابتسامة المرتعشة بالمعنى من طرف فمها، ستذوب الأحلام في بعضها، ما يترقبه وراء الباب المغلق ستأتي به الأقدار من وراء البحار، ستقوده من يده، تمشي معه المسافة الفاصلة بين الحارة القديمة والساحل، ستصعد معه الجبل، ويحدثها عن البحر وعن السلطان وعن الجنود الذين يراهم كل لحظة غياب ينزلون من قلعة الجبل ليوقفوا زحف الغزاة، سيحدثها عن ...".
انتهت مساحة المستطيل، الورقة أضيق من احتمال تكاثر الكلمات داخله، تمنيت معرفة عمّاذا سيحدثها، ومن وضع هذا الكلام داخل المستطيل، الكاتب المحايد القافز أحيانا ليصف الشخصية بمنأى عنها، وضعت الورقة وراء جميع الأوراق كما أفعل حينما أنتهي من واحدة، في وسط الورقة التالية مستطيل آخر، قفزت إليه مباشرة: "المؤذن بصوته يكسر حدة هدوء الليل في الحارة القديمة، المتجهون لمسجد طالب لمحوه في اعتياديته يغط في نوم لا يبدو كنوم.
الباب الخشبي العتيق كأنه يتحرك من مكانه يحتضن مجالسه طوال الليل، يحميه من برد المدينة، حيرة ساكنيها، يرمون إليه بالنظرة متجهين إلى المسجد والمآرب الأخرى.
أجهد خيول أحلامه..
ونام طويلا.
سمع صوتها يناديه.
فتح عينا، خشي أن يفتح الآخرى.
لم يكن السلطان هناك، ولم تكن هي.. هنا".
في طرف المستطيل سهم بلون أحمر، أحمر فاقع كالدم يبدو كأنه وضع لاحقا، يشير إلى أسفل الصفحة، لكن لا مساحة باقية فيها.

23

أوقف السائق سيارته (الأجرة) بجانب مبنى يبدو بسيطا من خارجه، لا يشي بداخله ودواخله..
- هذا هو ابن سينا.
- ابن سينا؟! آآه، نعم، تقصد مستشفى ابن سينا.
- خمسة ريالات.
- لماذا؟ هذا كثير، ليس لدي هذا المبلغ.
- ألا تعرف قبل أن تركب السيارة أن المشوار بعيد؟
- بصراحة لم أحسب حسابي أن أدفع نقودا.
- هل أنت تراجع المستشفى لمواصلة العلاج؟
- أرجوك.. أرجوك، لك خمسة ريالات وستحصل عليها، أعطني رقم هاتفك لأتصل بك مساء، سنلتقي وستأخذ نقودك.
أخذتني غفلة بمنأى عن الرجل، قلبت فيها بصري في جدران المستشفى وأشجاره، ماذا يمكنني أن أجد هنا؟ الطبيب، أي طبيب سيكون؟! أو الرجل يأتي صدفة فأتبعه لأعرف من يتولى مقابلته هنا، سائق سيارة الأجرة يضرب بقبضته على المقود بعصبية يحاول أن يخفيها، فتحت الباب، قلت له انتظرني بضع دقائق.
أسرعت في خطوي، دخلت مكاتب الإدارة، طافت عيناي على لافتات وضعت بإحكام على الأبواب، أحذر في كل لحظة من مجنون يخرج لي من زاوية ما، الأوراق في جيبي، ربما ستقود الطبيب إلى معرفة معالجه الذي أبحث عنه.. شاب في الثلاثينيات من عمره يظهر فجأة أمامي:
- تفضل.
- نعم، نعم، أنا أبحث عن طبيب.
- عليك أن تستخرج بطاقة أولا، ثم تعرض نفسك على طبيب.
- أنا لست مجنونا.
- لا يوجد أحد يقول عن نفسه إنه مجنون.
- لو سمحت، أنا صحفي أريد مقابلة أحد الأطباء.
- هل جئت برسالة من وزارة الصحة.
- لا.
- إذن لا يمكنك فعل ذلك، خدمة أخرى؟
- لا، شكرا.
مشى معي حتى يتأكد من خروجي من المبنى، لم أجد مفرّا من مغادرة المكان، أمام الباب مباشرة وقفت سيارة الأجرة، السائق ينظر إليّ بذات النظرة المتشككة في عقلي، لم أجد مهربا منه، ألقيت بنفسي على مقعد السيارة معتمدا على قدر لا أتبيّنه يخرجني من أزمتي المقبلة معه لا محالة.
- وجدت الطبيب؟
- ما أدراك أنني كنت ذاهبا للطبيب.
- طبيعي.
- هل تشك في أنني مجنون؟
- حاشا لله يا أخي، وهل هناك من يقول عن نفسه...
- إنه مجنون، سأكمل لك ذلك، سمعتها للتو داخل المستشفى.
قطعت حبال الحديث معه، لم أجد ما يمكنني قوله، أخرجت من جيبي كيسا أسود، ومنه أوراق بيضاء، رأيت نفسي نسخة أخرى من ذلك الشاب، ارتعشت فجأة، كيف أمكنني تقريب أوجه المقارنة، أبعدت كل أمر عن ذهني، ومضيت في الأوراق أتتبع السطور.
"رأيتني على أرض خضراء أنام على وثيرها العشبي، وفوقي سماء صافية ألتحف بزرقتها، مغمض العينين أرقب نفسي في تمددها فوق اخضرار الأرض وتحت زرقة السماء، أتاني فيما يشبه حلمي، أو ما يشبه يقظتي رجل شديد السواد كالعاصفة، تبيّن لي أنه جوهر وقال انهض أيها الفتى في الحال، عليك الذهاب إلى البنجلة، قلت بحدة: البنجلة، لم أفهم المفردة، وقال: اتبعني وستفهم، ولم أجد بدّا من إتباعه.
ووصلت في طرفة عين ما عناه جوهر بالبنجلة، وجدتها ساحة كبيرة أمام قصر السلطان قريبة من البحر، بناء دائري الشكل مفتوح من جميع أطرافه، بدا لي سقفها كأنها خيمة.. أرضيتها خشب، سقفها خشب، تتراص كراسي الخيزران بجوار بعضها البعض، قوم من أجناس وألوان جلوس ووقوف وبعضهم يكثر من الانحناء كل بضع لحظات، حين يدخل أو يمر أحد المعتمرين عمائم كأنها تيجان من حرير، جذبني جوهر من انجذابي، وقال: أيها الفتى.. السلطان يأتي إلى هذا المكان مرتين أو ثلاثا في اليوم لتناول القهوة فيه، وتظهر معه زوجته السيدة عزة والبالغون من ذريته، ومن يتيسر من أمهات أبنائه.. من يرد من عائلته الحديث معه يلتقه في البنجلة.
- لكن أين سيدي السلطان؟
- سيصل في الحال.
- وإن تأخر؟!
- عادته ألا يفعل.
- أخشى أن أصحو من حلمي قبل مجيئه.
- إذن عليك المضي في حلمك.
وتلفتّ فرأيت المركب الخاص بالسلطان والمسمى الرحماني ليس ببعيد، عرفته فور أن رأيته وعرفت اسمه وخبره، قال جوهر: المركب ييقظ الناس للسحور في رمضان، وكلما أرادت عائلة السلطان جولة بحرية صغيرة كان الرجال على المركب الرحماني مستعدين".
- تفضل.
- ماذا؟
- وصلنا إلى المكان نفسه الذي أخذتك منه.
- شكرا، شكرا.
على حافة باب غرفتي تذكرت الرجل، سائق سيارة الأجرة، وقعت في حيرتي، لا أدري كيف تركته ناسيا أجرة ذهابي وإيابي، ما الذي دار في ذهنه حينما راقبني، كما أعتقد، من زاوية عينه اليمنى، ورآني أخرج دافعا الباب موليا ظهري له ولسيارته.. ولما دار في ذهنه عني.. ولأشياء لا تحصى تتبعني كظلي وأخرى لا يهمها أمري.

24

وضعت أسئلتي جانبا وتخيلته يسير في سوق مطرح، متجها إلى المقهى ذي الشرفة، ويجلس هناك يقرأ، فجأة صعقتني فكرة: هل من الممكن أن تكون أوراقه زادت أخرى؟
وضعت احتمالاتي أمامي وتمعنت فيها، أوراقه كائن مكتمل وضعه مرة واحدة في كيس أسود، أو أنها كائن ينمو كل يوم، أو كل أسبوع، متى وجد كاتبها وقتا ليضيف إليها..
احترت: كيف تصل إلى الكيس الأسود ومتى؟ والأهم: ممّن؟!
حملتها كمن يتفقد وزنها، معاينا أطرافها، بدأت مع مرور الوقت في التشكل قريبا من هيئة الأوراق الأصلية في صدارة الشاب، فتحت على صفحة منها، وغبت في قراءتها..
"من سنام جبل أطلّ على البحر الساكن بطمأنينة..
بدا كمن روّعه كل هذا السكون، استيقظت المدينة للتو.. قرص الشمس يخرج من سنام الجبل مفترشا أرض المكان بالضوء، كانت الميناء راقدة ملتحفة بسكينة الليل، كأن شعاع الشمس فاجأها، وكانت السفن تصطف على الأرصفة باحثة عن أمان.. أخرى تتبعثر بأعداد قليلة على السطح الساكن.
رآه ذلك الجندي يقبض على بندقيته، يحرس البحر.. والبحر كان دوارا محرقا، يتصاعد بحمم ساخنة، أي غاز سيأتي مرة أخرى يوجّه مدافعه صوب المدينة؟!
تصاعدت أبخرة من الذاكرة..
رأى الجندي يستدير عائدا إلى بيته، تعب من انتظار الغزاة، لم يأتوا كما تخيلهم، رغم أنهم أتوا.. ودخلوا المدينة، وسكنوها، وارتدوا ملابس أهلها، فلم يعرفهم أحد، وتعلموا لغة سكانها، ونكحوا بناتها، وتناسلوا"..
أي جندي هذا؟!
أتعبتني أسرار الحكاية، ورواتها.
السارد بدا محايدا في بضع جمل، ثم عاد مرة أخرى ليكون بطل الحكاية..
"سرت بجوار نهر المتوني، لا وجه أمام عيني سوى وجه خولة، ما إن أتجلى في استحضاره حتى يحلّ عليّ فجأة وجه سيدي السلطان، بنظرات حازمة بادية الغضب، تلك الصورة المنطبعة في ذهني، كأنه غاضب من استحضاري لوجه ابنته الحسناء خولة".
كأنه وراء الباب المغلق قريبا من مسجد طالب يتوهم خولة، أو أنها استحضار وجه حبيبة غابت ذات فقد بأخرى تساوره في أحلامه.. خولة، فريدة العقد البناتي في نسل السيد سعيد بن سلطان، أعود للحكاية تنبت من خلال الأوراق..
"الماء يجري بهدوء النهر الصغير، تتبعته حتى دخل القصر، بيت المتوني، لا أدري كيف عبرت حراسه، بنايات تراوغ الأشجار، أو أنها الأشجار تمرق باخضرارها الجميل بين الجدران المرتفعة.. أبنية لا تتناسق فيما بينها، مسالك وممرات متعرجة أصابتني بالدوار، أين أمضي؟! مسلك يقود إلى ممر، ومنعرجات تعود بي إلى بدايتي الأولى، خشيت أن أدخل المتاهة ولا أعرف درب الخروج، خدم كثر يمرقون أمامي، كأنهم لا يرونني، يأتيني صوت جوهر أن أمضي أكثر فأكتشف، درت بكامل جسدي لأرى أين هو الآن، من حيث لا أدري حملني صوته إلى جناح الاستحمام، مشيت كثيرا حتى وصلته، في طرف القصر، اثنا عشر غرفة تتجاور بانفراد.
جلست تحت شجرة أتابع الغادين والرائحين، لا يكفون عن ارتياد تلك الغرف، خفت أن يرونني، أنا الغريب عن القصر، وكأني غفوت، وبدا لي أنني دخلت ما بين الغفوة والصحو إحدى الغرف، لم يكن بها أحد.. دكّة على اليمين تقابلها مماثلة على الشمال، وعلى كل منهما حصير جميل، جاءني صوت جوهر ليوضح لي ما استغلق فهمه وخفي علمه، قال: إنهم يقضون الساعات الطوال في هذا الجناح، نوم ومرح ولهو وعمل وصلاة، قلت له أخرجني من هنا، نهضت إذ رأيت فتحة صغيرة واطئة، بعدها انكشف المكان على اتساع كبير، السماء الزرقاء في صفوها اليوم تطل من وراء الزجاج الشفاف، رأيت حوضيين كبيرين يقابلان بعضهما البعض، هبطت درجتين إلى قعر الحوض، آنست إلى الماء، يفصلني عن غيري قنطرة حجرية مقوسة تتسلق على أحجارها نباتات وأعشاب، جاءني صوت جوهر: إياك وأن تتخطى مكانك، لكل حدوده أيها الغريب.
.. وتعجبت أني لم أخرج مبتلا، مع أني شعرت بانتعاشة الماء على بدني، مشيت في حديقة القصر، بشر بألوان شتى، وأعمار متفاوتة، اتسع لهم القصر، كما اتسع لحيوانات تآلفت مع بقية الساكنين، رأيت فيما رأيت غزلانا ونعامات وببغاوات، ورأيت طواويس تتهادى بخيلاء وغرانيق تدوس الأرض بكبرياء، ورأيت من الطيور ما عرفت أنه ديك الهند، وآخر ديك الروم، بط وأوز، أطفال يطعمونها، وآخرون يشاغبونها، كأني رأيت روح السيد حاضرة لتجمع هذه الأرواح في ألفتها، مضيت نحو البيت، رأيت أمامي سلما ضمن سلالم كثيرة تلوح من حوالي، ارتقيت بقدمي درجة، الأخرى متباعدة عن الأولى، حاولت الإمساك بالدرابزين الخشبي، بدا لي قديما ومتهالكا، يرتفع فقط بشكل عمودي وبحدّة، انقطع نفسي بعد بضع درجات صعدتها، حاولت الصعود أكثر، واحدة فأخرى، رأيت كم ارتفعت عن الأرض، خالجني خوف غريب، الأرض تبدو بعيدة، وكأني على شجرة عالية لا أدري كيف ارتقيت جذعها، تصبب عرق كثير من وجهي ورقبتي، أصابني دوار، قبضت على الدرابزين الخشبي بقوة استنجد من السقوط، تضعضع الخشب تحت ثقل جسدي، مضيت إلى الهاوية، أطلقت صرختي".
يا لهذه الرحلة الغريبة، كيف تأتّت له؟!
مستطيل مرسوم بزخرفة خفيفة لونها أزرق، وخط الكتابة داخله ما يشبه البنفسجي، لم تكن آلة النسخ دقيقة في تحديد اللون بدقّة، قرأت فيه:
"اقترب إمام مسجد طالب من الصارخ، باغته الصوت المفزع، ظنه شرا أحاط به فجأة، فتح الصارخ عينيه، العرق يبلل وجهه ورقبته، كان ينظر إلى الإمام بعينين تدوران في فراغ لا تستقران على شيء، حرّك يديه متحسسا وجهه ورقبته، كأنه يتأكد من وجود عرق كثير يبلل وجهه ورقبته".
دققت في خط الكتابة لأتبيّن الفارق بين ما داخل المستطيل وما خارجه، عجزت عن تبيان شيء، أحدهما مختلف عن الآخر، واحد يكتب عن أحلامه، وآخر يصف واقع صاحب الأحلام، الدالف نحو ساعة الزمن يستحضر عبرها حكايات داستها قرون من السنين.
سهم أحمر آخر داخل المستطيل، مشيرا إلى صفحة تالية، أقلب الصفحة..
"مطرح تسفح مطرها بشدة..
تسلل الماء من تحت شارعها، رويدا فرويدا داخل بوابة السوق، تحاشاه السائرون وهم يبحثون عمّا يعصمهم من وابل المطر.
كانت السماء باتجاه البحر بيضاء، السحاب الأسود قبل قليل تفتح عن بياض مبهج، ركض على حافة الشارع، مقابل سور اللواتيا، يمزج صراخا بضحك كلما تهاطل مطر.. يفرح كطفل.. يصرخ كمعتوه.. يضحك كبائس.. أسنانه ترسم مشهديته العابثة بكل شيء، يتقاطر لعابه، مختلطا بالماء المنهمر من السماء، تبللت ملابسه، وكلما أثقله الماء ازداد خفة، يتقافز من رصيف إلى رصيف..
رآه الآتي من بعيد، من وراء الجبال، يضحك في وجهه، يحمل عصا غليظة، هوى بها ناحيته، مرق الآتي من بعيد متفاديا الضربة، ضحك حامل العصا الغليظة، واضحك آخرين رمقوا الحكاية المتكررة ومرقوا متسارعين يهزون رؤوسهم، تجاهلوه كعادتهم..
شعر بالجوع، دخل مخبر الباكستاني، رآه يكوّر الطحين ويحلجه في دوائر واسعة، ضحك في وجه الخابز، أخذ خبزة صعدت للتو من التنّور، لم يقل الواقف أمام التنور شيئا، سمع دمدمة آخذ الخبزة خارجا من مخبزه، يعرف أنه سيذهب إلى مدخل خور بمبه، وهناك سيجلس، وسيأتي له العامل البنغالي بكوب شاي بالحليب، وسيأكل به الخبزة، وسيمضي.. لا يدري إلى أين لكنهم يعرفون جميعا، كأنهم متفقون، بأنه سيمضي، ولا محالة.. سيعود".
أرهقتني حيرتني، العتمة هبطت على فضاء الغرفة.. عركت عيني، أخذتني الحكاية إلى أبعد مما توهمت، سرقتني من واقعي وأوهامي وهمومي، باعدت بيني وبينها، شعرت بشوق إلى رؤيته، أعدت دشداشتي إلى جسدي، أعدت إحكام ربط الإزار على وسطي، أصلحت ثنيات الدشداشة ليختفي تحتها إزاري، بدأ يفقد بياضه كثيرا.
وحين هبطت من سلالم البناية تذكرت أمر الريالات القليلة المتبقية في محفظتي.. يلزمني تدبر الأمر، خياراتي قليلة وبعيدة.
سيارتي في موقف البناية هامدة، فكّرت: يمكنني بيعها، كآخر الأشياء التي تخصني وتجد اهتماما من مشترين.
تذكرت الأوراق، لم أحفظها جيدا، عدت إليها بسرعة، وجدتها هامدة بجوار فراشي المتواضع، ألقيت نظرة أخيرة إليها قبل أن أعيدها إلى الكيس الأسود، قرأت لمحة في مربع يبدو هامشا.. لم أستطع قراءتها بسهولة، أضأت المصباح، التمع بصفرته، وجّهت عيني إلى الورقة..
"يغيب أياما بعيدا عن ذاكرته.. ويعود كأنه لم يكن هو.. ويعود أياما إلى ذاكرته، ويغيب.. كأنه ما كان ذلك الغائب عن ذاكرته أبدا.
لن يقول له الباكستاني صاحب المخبز أنك أخذت خبزة ولم تدفع ثمنها، ولا البنغالي سيذكره بكوب الشاي، متواطئون معه لينسى غيابه.. يأنسون لحضوره، رغم أنه لا يفكّر فيهم كثيرا، يشعر بغرابته عنه، ينظر صوبهم كأنه رآهم ذات غيبة، في زمن سحيق لا يتبيّنه جيدا".
لو أعرف لارتحت، هل يدرك معنى ما يحمله من أوراق؟!
قمت بحساب الأوراق، تذكرت فجأة أنني لا أعرف عددها، وفيما كنت أعدّها رأيت ورقة مختلفة في طريقة كتابتها، لا تبدو ممتلئة كالأخريات، وضع أعلاها عنوانا، حلم الباب المغلق، أكملت العدّ، وعدت إلى الورقة الحاملة لما يشبه القصيدة، قرأت:
يا وجع الروح والنزف ممتد..
جناحي أرهقه الطيران، وسماؤك جد بعيدة..
قرّب سماءك إلى ارضي،
لا أقوى على السير، فوق اليابسة،
أتعثر بخطوي، وبأخطائي.
.. والريش تساقط عن أجنحتي.
أخبرني.. ولو لمرة أخيرة، أين أجد أحلامي، وأنت الحلم؟!.
أينما أيمم حلمي أجدك..أينما أيمم قلبي أفتقدك..أينما أيمم روحي، أموت بين يديك.
قاس هذا الليل، وطويل حد الموت.. نهارات الحياة مغرقة في سباتها،
أنا الوحيد أردد النشيد، ضاقت الجوقة بالكلمات، وانسحبت..
ضاقت الكلمات بكل شىء.. وانتحرت.
بقيت أرقب ضوءك، من هناك،
ربما ستصعد الخشبة،
ستأتي إلي كما تفعل في كل مرة، ستعيد للكلمات حياتها، ستغني..
غني أيها الغائب، الموسيقي ستأتي،
على وقع كلماتك ستأتي..
ستكتبنا، ستتلونا، ستغنينا، سنسترد أجنحتنا،
سيعطينا الضوء أجنحته،
قل للقمر الجميل في سماه أننا التقينا،
غني له كما اعتدت،
سيكبر القمر، سيكبر، سترقص معه النجوم كلها.
ربما ستأتي.. هي من سيفتح الباب الموصد، وستطل كأميرة لها هيبة السلاطين، سيتحد حلمك القديم بالمستحيل، سيكون له وجه واحد، عشقك المندس كخنجر في صدرك، وحلمك الدالف من بعيد البعيد.. لكنك لا تثق في الأحلام كثيرا..لا تثق في الضوء، ولا ما يقوله القمر".
انتهت الصفحة، سهم أزرق يرشد نحو الصفحة التالية، أثارني السهم، تتبعته، كان حوارا:
- أنت شاعر، يلزمك مزيدا من الصحو لتكتب ما تريد، هل ما زلت تراها حبيبة القلب..
- مرة أراها كما كنت أعيش الحكاية قبل سنين، وأحيانا أرى في طرف فمها ابتسامة لفتاة لها هيبة السلاطين وحسن الأميرات.
- مرة أخرى تعيش مشهدين في مشهد واحد، ألا يغريك المشهد بكتابة رواية؟
- أحاول أن أكون معافى اولا، وبعد ذلك يمكنني أن أكون ما أشاء، تعرف يا دكتور أنني أشفق على نفسي من نظرات الإشفاق التي أراها مع أني لا أتذكر شيئا مما يقول عنه أولئك أنهم رأوني فيه، يقولون أنهم رأوني طوال الليل، رأوني في أمكنة، رأوني في...
- طبيعي جدا، لا تدرك ذلك لأنهم رأوا ذاتك الأخرى التي ليست هي ذاتك الآن التي تكلمني.
رأى نفسه يخرج من الباب الذي يغلقه بهدوء كل مرة، ويمضي في الممر القصير مستديرا لليسار باتجاه الباب الخارجي، وفي المواقف الملفوفة بالغبار تنتظره سيارته، يمعن النظر في الأوراق الملويّة في يده، ينسى أحيانا إدارة مقود السيارة، حرارة الجو تذكّره أحيانا، ربما بعد أن يكون العرق قد غسل جسده وملابسه.
غرق في ذاته، أخذته إلى مدى لا يقاوم فيه الغرق.
سعيد بن سلطان بن أحمد بن سعيد، كرر الاسم مرات، تهجّاه كلمة بعد أخرى، ضغط على الحروف كأنه يخشى عليها من التواري في فمه.
رآها واقفة أمام سيارته، تبتسم له، ارتبك، الممرضة بمناوشاتها وتلميحاتها الجنسية التي تتهادى إلى مسمعه وهي تمزح مع صاحباتها، تسأله إلى أين يمضي كي يأخذها في طريقه، يقول أنه ذاهب إلى السلطان، يسمعها تضحك، يتركها واقفة، كأنه يهرب من ضحكتها، كأنه يتخيل صوتها يأتيه.. مجنوون، يزيد من سرعته، ماضيا إلى مطرح".
تذكرت أمر الخروج، أعدت الأوراق إلى قلب كيسها، مكتوب على مثل هذه الأوراق أن تأنس فقط إلى كيس أسود، حيث لا يمكن رؤية الحقيقة عبر السرداب المعتم.
لا طاقة لي بالتفكير في أمر هذه الأوراق، عليّ الخروج من قبوي هذا، أخذتها معي، أمشي وأقرأ، عين على الدرب، أخرى على الورقة.

25

"تخاطفته أقدامه.. خرج من سوق مطرح، التفّ نحو طريق خلفي يبعده عن أعين القادمين والعابرين للسوق، ترك حارة العرين سريعا، ركض بما أوتي من قوة، أخذ الدرب الخلفي وراء مستشفى الرحمة، لم يتأمل طاحونة الهواء كعادته، رمقها كأنها لا تعنيه أبدا، خرج من حارة اللولوّة، استدار عائدا مرة أخرى باتجاه الشجيعية، أهمل نظرات المصلين الداخلين لصلاة المغرب، ناداه صانع الحلوى، شعبان، الرجل الطيب الذي لا يبخل عليه بـ(ديس) حلوى صغير كلما مرّ عليه وحدّثه أن السلطان سيأتي ذات يوم ويريد أن يعطيه هدية تليق بالسلاطين، يقولون أن السلطان يحب الحلوى ويأخذها معها كلما أراد السفر إلى زنجبار.
- أعطني "دست" حلوى لسيدي السلطان سعيد.
- السلطان ليس اسمه سعيد يا ولدي.
- بلي يا عمي شعبان، اسمه سعيد، سعيد بن سلطان.
- لا أعرفه هذا.
- لو عرفته لصنعت من أجله ألذّ حلوى تبيعها.
- هل ستحملها إليه؟
- نعم يا عمي، نسيت أن أخبرك، انك تشبه كثيرا رجلا يأتيني دائما يحدثني عن السلطان، تشبهه كأنك أحد أقاربه.
يضحك شعبان، ويمضي في تقليب حلواه"..
داخل مستطيل بحبر أخضر: "شعبان يناديه هذه المرة، لكنه لا يسمعه.
لم يستجب لنداءات بائع الحلوى عليه، ركض باتجاه البيت ببابه المغلق، خيّل إليه أن الباب ليس مغلقا كما كان، هناك شق صغير يمكنه العبور ببصره من خلاله، قرّب عينا، كأنه يريد إرسالها من وراء الشق الصغير، لم ير شيئا، العتمة تهبط بتدرج، رأى حتى أحس أن عينيه لم تعد ترى، خالطته غيبوبة، أحنى رأسه على الجدار، نادى الصمت من حوله..أيها الصمت المقيت رويدا.. قد تطل هذه المرة من وراء الباب، تفتحه الابتسامة التي تصفو بها أكدار وتحلو معها أقدار".

26

وضعت كوب الشاي الثاني بجانب السابق الفارغ، اغسل المكان بأعين فارغة، المقهى شبه خاو، وذهني يواجه خواء الأشياء داخله، ومن حوله، قد يأتي صدفة، تنشق الأرض فيصعد منها، أو تمطر السماء فيهبط مع الماء، حرت في أي منهما أحتاجه في حيرتي، أحدهما انشقت صدارته عن أوراق، والآخر جلس ذات ساعة يقرأ في المقهى المطل على الشارع البحري، يبدو أن الأوراق في الكيس الأسود له، الأول يضمها في صدارته يحميها من دثار آت يبدو له قاب قوسين أو أدنى.
السوق يدفع تكراريّته إلى مشاهده اليومية، الفرجة تفتح مآقيها للجالسين والعابرين، صوت البحر يتقاذف من تحت البوابة المتأنقة، الموجات كأنها تتساءل أينه الآن، الدروب الغافية قرب مسجد طالب حافية من سيره، تصاعدت الأخيلة في ذهني، خولة ابنة السلطان قد تكون مندسة وراء الباب المغلق، بين وجهين غارق، هما وجه واحد؟!
وجه يمر بدا أنني أعرفه، تذكرته بعد حين، الخباز الباكستاني، تتبعته حتى ذاب في الزحام القليل مبتعدا صوب الشارع البحري، وددت أن أسأله عن الذي يأتي فيأخذ منه خبزة، هل أخذها اليوم؟
صعدت للمقهى ذي الشرفة، رأيت المشهد يواتيني كما أحلم، الشاب جالس في ذات المقعد، اخترت كرسيا قريبا منه، يشرب ما حسبته كوب شاي لا أكثر ولا أفضل، في عينيه حزن عتيق يبدو قادما من قرون، فطن إلى أنني أراقبه، أدار كرسيه لاتجاه آخر، أمامه حافة المقهى العلوية، أمامه أوراق يقرأ منها، ممسكا بقلم عليه غطاء بنفسجي، تذكرت المستطيلات المرسومة على أوراق الكيس الأسود بألوان بينها لون البنفسج، عبور الدقائق يزيده توترا، الرجفة في الأصابع تهز كوب الشاي حينما يدفعه إلى فمه، صوت عودته إلى الصحن مجلجلة كأنها جرس إنذار، تصاعد توتره، فجأة نهض يجمع الأوراق في الطاولة بعصبية، غادر الطاولة ملقيا نظرة لا يمكن محوها، لمحت ما يمكن أن نسيه في الكرسي المجاور، قمت نحوها بلهفة متناهية الابتهاج، كمن حصل على مفتاح كنز، جلست على طاولته أقرأها..
"رأيت الرجل الغريب يصعد لسفينة السلطان، قيل لي أنه جمادار تنغاي، يثق فيه السلطان ويحبه لذكائه وإخلاصه، كان ضابطا في الجيش، ثم وزيرا للمالية، هو أول من يصعد لسفينة السلطان حينما ترسو على الشاطىء الافريقي، ويقدم له تقريرا عما جرى في غيابه، ليأخذ السلطان علما بما جرى، وليفكر ماذا يقرر بعد أن يهبط من سفينته على ساحل مملكته وممتلكاته.
لم يكن وحده الرجل الغريب هناك، كان الهنود والمجوس يتولون جمع الضرائب في الميناء، ويسميهم أهل البلاد بالبانيان، يستأجرون الموانىء لعقد مدته خمس سنوات، بعدها يطرح استئجار الموانيء في مزاد، من يدفع أكثر يحصل على الامتيازات، ولهم في ذلك مبالغ طائلة يحصدونها..
- أراك تحفظ المعلومات جيدا.
- ذاكرتي ملآى إنما عليك احتمالي.
- يا عزيزي ثق بذاكرتك كثيرا، حدثني، هل رأيت خولة؟
- لا أتمنى الدخول في عالمي ذلك إلا من أجل أن أرى السيد سعيد وابنته خولة، آآه، نسيت أن أخبرك يا دكتور، بدأت سالمة تغزو دماغي.
- أمر طيب، سأجد لديك المزيد من الحكايات إذن.
- وستجد ما تكتبه أيضا.
- حكايتك تصلح رواية.
- ربما سأكتبها بنفسي.
- تستطيع ذلك طالما أنك عاشق للقراءة، لكني متحمس لكتابتها أكثر منك، هات ما عندك.
تناول الطبيب الأوراق من يدي، شعرت أنني أعطيه جزءا من مملكتي".
انتهت الورقة ناقصة بضعة أسطر، في الورقة التالية..
".. وفجأة وجدتني في مجلس السيد، لا أدري أين، تنقّلت رؤياي فوق قدرتي على الفهم، مجلس كبير، رأيته بعمامته وهيبته، يأخذ صدر المكان، ويأتيه الناس ليجلسوا أمامه لحظات يقولون له ما يشاءون، يشتكون ويطلبون ويسمعون ثم يمضون.
رأيته بين وزرائه، قال لي رجل الحلم بأن ذلك السيد سليمان بن حمد البوسعيدي، يعرف مع عائلته ببيت الوكيل، وضعه السلطان رئيسا للوزراء ووزيرا للداخلية، لا يتحرك شأن في شرق افريقيا إلا بموافقته، وهو الوصي على الحكم هنا حينما يرتحل السلطان إلى عمان، لا يوجد أشد مهابة منه إلا الحاكم، كلمته هي القانون، وتجارته معفية من الضرائب، يسكن في ماليندي ميزينجاني.
أما ذلك الجالس هناك فهو الشيخ حسن بن ابراهيم الفارسي، أمير اسطول السلطان، حاذق في اللغة الاتجليزية والملاحة وفروع من العلم، يحبه السلطان وأوكل إليه تعليم ابنه الثاني السيد خالد، وفي عام 1832 عينه السلطان وزيرا للخارجية ووزيرا للتجارة، فكانت قراراته كأنها من السلطان نفسه.
وذلك الشيخ أحمد بن نعمان الكعبي البحراني، مولود في البصرة عام 1789، هو قائد أسطول السلطان، يتحدث الانجليزية والفرنسية بطلاقة، محاسب ماهر، زعيم لقبائل الشيعة في شرق إفريقيا.
وإذ كنت في مجلسه قيل له يا سلطان البلاد إن سفينة أمريكية تدعى ذا بيكوك عادت مرة أخرى إلى مسقط آتية لتبادل وثائق الاتفاقية الموقعة بين بلادكم وأمريكا، إلا أنها جنحت لساحل مصيرة، ونجت بعد أن رمى بحارتها جزءا مما على ظهرها من أسلحة، فما كان من السلطان إلا أن هبّ نجدة، وبعث إحدى سفنه الحربية لمساعدة السفينة الأمريكية، وفرقة من حراسه تضم المئات لحماية طاقمها إن قرروا النزول إلى البر.
وكأن آلة الزمن دفعتني فسحة من الأيام فرأيت سيدي السلطان يقرأ أوراقا بين يديه، جاءني جوهر يهمس في أذني وقال أنها اتفاقية مع أمريكا، رأيت السلطان يقرأ الاتفاقية والغضب باد على ملامحه، انفجر صوته: العرب حينما ينقذون أحدا من الموت غرقا أو من رصاصات قاتلة فإنهم لا ينتظرون تعويضا، إن هي إلا أخلاقهم، علينا واجب تقديم العون والحماية وتزويدهم بما يحتاجون حتى يعودوا إلى بلادهم، سرّ الحاضرون والوافدون مما قال السلطان.
رآني أحدق في ملامحه، في وجهه الحاد وعينيه الأكثر حدة، في شعر لحيته الهاجع بسكينة وتأن يحيط وجهه، قال: اقترب فاقتربت، أمعن تحديقه في وجهي ثم تهللت أساريره، لكني في غمرة حلمي لم أر إلاي يجلس أمامه، قال: يا بني دعني أقص عليك بعضا من قصص تلك البلاد، انها قصة البقرة؟
قلت له: إنها معروفة كما وردت في القرآن الكريم، فقال: هي بقرة أخرى سمينة كانت في زنجبار.
أنصت إليه وهو يتكلم: حسب التقاليد فإن بقرة سمينة معدة للذبح تحت شرفة البيت الذي نقيم فيه، لأشاهدها كعادتي كل عام تقدم فداء للبلاد، وفيما صعد محضروها إلى مجلسي مستأذنين في إطلالتي لأرى عملية ذبحها وقد سعدوا بما بلغت بعد إطعامها عاما كاملا فإذا البقرة ليست في مكانها، مرّ عليها الهندي المسؤول عن الميناء جايارام سيفجي فأطلق سراحها، فقلت لهم: اذبحوا بقرة غيرها، قالوا: أنه لا يوجد مثلها، قلت لهم: اذبحوا عشرا، قالوا: ولا مائة تصل إليها فلقد اختيرت وبوركت وعرضت في أنحاء المدينة، فقلت لهم وما العمل إذن. فقالوا لا شيء إلا القوة.
فسألتهم: لماذا تذبحون بقرة في مثل هذا اليوم؟
قالوا: لمنع الشر عن المدينة وسكانها؟
فقلت لهم: ودخولنا بيت الهندي بالقوة أليس فيه شر وإراقة دماء؟ وهل ستسكت بريطانيا عما سيحدث لأحد رعاياها؟ قلت لهم أن الشر لن يكون إذا ذبحتم بقرة أخرى، فذبحوها، وهم ليسوا براضين.
أنست لحكايات السلطان، فرحت أيما فرح، لولا أنني رأيت الرجل الضخم ينظر إليّ من بعيد، واقفا يحملق باتجاهنا، اقترب من مجلسنا، فطن السلطان إلى أنني منشغل بأمر ما، جاءني صوته قويا ثم بدأ في الانحسار عن سمعي: إلى أين أخذك تفكيرك؟ كأنك اشتقت إلى أمكنتك الأولى؟
شعرت بالأصابع حول وجهي، قلت له دعني أمضي في السفينة، لا تسرق مني أحلامي، أحسست بالأصابع تذوب، رأيت السفينة ترسو، والبلاد غير البلاد.. رأيت البيوت بيضاء تبدو من وراء أشرعة السفن في مينائها، والوجوه بسمرتها تترقب السيد، مئات يحتشدون، وزخات من الرصاص ترحب بسيد البلاد، رأيت وجها حسبتني رايته آلاف المرات، بحسن يتبدّى خارج مشهد السمار المتكاثف، كومضة برق سرت في مشهد تال، رأيت السلطان يسير في بيت كبير أحسبه قصرا.. حشد كبير توجّه صوب قاعة ضخمة، جاءت الصحون بالأرز وعليه اللحم، وصحون عليها أنواع غريبة لم أرها في حياتي.
اقترب أحدهم من السيد وقال له: جمادار على الباب، فأمر بدخوله، دخل جمادار على السلطان وهو يهم بتناول الطعام فسأله ما بك؟ ردّ جمادار بأنه سيقول بعد أن ينتهي سيدي السلطان من طعامه، فتوقف السيد، وقال لن آكل حتى أعرف.
بدأ جمادار الحكاية، قال أنها حادثة وقعت في مقاطعة كيتوندوا وهي مملوكة للشيخ سالم بن عيسى البرواني، بدت الحيرة على لسان جمادار في تخيّر الكلمات الهادئة خشية تكديره صفو السلطان والطعام بين يديه، رأى السلطان يصوّب نظراته إليه فتابع حديثه: سمعت ضجة، فأخذت أغذ السير نحوها لاستكشف الأمر، رأيت عبيدا بجرّون شجرة قطعت من أرض حكومية، وقيل لي: إنها ستستخدم في بناء احدى السفن الحكومية، إلا أن ابن الشيخ سالم واسمه عبدالله رفض نقلها من خلال أرض أبيه، ولمّا لم يطعه الخدم المأمورون من ابنكم السيد خالد أمر عماله بمقاتلتهم، فمات عدد من خدم الحكومة، فما إن علم السيد خالد بذلك حتى أرسل قوة من جند الحكومة لمهاجمة كيتوندو وسقط من رجال مالكها البرواني جند كثير لقوة جند الحكومة، وقيّد أربعة من شبّان المقاطعة بالسلاسل كما أمر السيد خالد بذلك.
نهض السلطان من مجلسه وقد غضب غضبا شديدا من ابنه، ردّد بأنه لا يريد عداوات مع قبيلة البراونة وهو يخوض حربا مع قبيلة المزاريع، فأمر فأحضر الشبان الأربعة وتحدث إليهم بود، ودعاهم لتناول الطعام معه، وأمر ابنه أن يذهب في اليوم التالي ليعتذر لأهالي الشبان الأربعة.
حدثني جمادار أنه سار مع السيد خالد والشبان، وكان السيد غاضبا ويوجه كلمات الشتائم لجمادار متهما إياه بإثارة الفتنة بينه وأبيه، وكان جمادار يقول له: سيدي، إنني لم أفعل سوى ما يتحقق به أمن حكومتكم.
يقول جمادار: ووصلنا إلى حيث يسكن أهالي الشبان الأربعة، إلا أن السيد لم يقل كلمة لأنه لا ينوي الاعتذار، حتى تكلمت وقلت: السيد سعيد أرسلني إليكم لأعيد أبناءكم، ومعي السيد خالد ليسألكم العفو والصفح عنه.. فلان غضب القوم.
وفي اليوم التالي جاء رجال البراونة إلى السلطان، ورأيت السلطان في أبهة حكمه وجلال حكمته، أقسم على معاقبة ابنه خالد فأقسم البرواني أن يعاقب الشبان الأربعة، وتصاعد الحديث حتى اقترح القاضي الشيخ محيي الدين أن العقاب متفق عليه، إنما الكيفية مختلف عليها، فليرسل الجميع إلى جزيرة لقضاء يوم كنوع من العقاب، وهم في سن السابعة عشر أحوج ليتآلفوا، فتحقق المراد كما رأى القاضي.
وفيما كنا جلوسا جاء شاب معتدّ بنفسه دون غرور، أخبرني السلطان بصوت خافت لا يكاد يسمعه غيري، قال: هو ابني هلال، أمه أشورية الاصل، ولد عام 1817 للميلاد..
في وجه الأب ما لم أفهمه تجاه ابنه.
رأيت السيد خالد، جريئا وصلبا، أخبرت جمادار بما توهمت أنني اكتشفته، أومأ برأسه موافقا، وقال: أمه من جورجيا واسمها خورشيد، وهو صاحب ثروة لحبه التجارة، لكنه محارب".
انتهت الورقات الخمس، لم أجد نقطة باللون البنفسجي عليها، مرة يكتب عن نفسه، حينا يكتب عنه آخر، كأنه استلّ هذه الصفحات من كتاب تاريخ، بدت لغة عادية، مختلفة عن أخرى سكنت حروفه في الأوراق الهاجعة في كيسها الأسود داخل غرفتي، أو في كيس أسود آخر لا أدري أين وضعه الآن، في صدارة أيّ كائن من الكائن الواحد، هل هما اثنان؟ واحد يكتب ويقرأ يجلس متهندما في مقهى ذي شرفة، والآخر يخبئها تحت ملابسه البالية؟!
فجأة هوت يد من حديد على الأوراق، في لمحة عين لم تكن في يدي، رأيته يمضي سريعا صوب باب المقهى خارجا، وقفت على الشرفة أنتظره يهبط من السلم الخارجي للمقهى، كأنه ينتظر ذلك، هوى علي بنظرة من نار، تفاديتها عائدا إلى طاولتي.

27

شقي بأشواقي هذا المساء، رمال قريتي وأراجيح طفولتي..
أصدقائي الذين يبحثون عني بأوجاع الأحلام المتصدّعة على عتبات أوهامي.. أنا السارق.. أنا المسروق، أنا اللغز المحيّر في دفاترهم، أسماء أعرفها جيدا، وأخرى من خلال حروفها فقط، تفتش في دروبها عن أثر لي، سر كنوزها الضائعة في ظروف مريبة.
الضحية جلاد، والجلاد ضحية..
لكن الفحم المشتعل أحرق الملايين من حبات اللبان في لحظات كانت الأحلام فيها تتصاعد إلى سماوات مشرقة بشمس تعشو العيون عن الرؤية السليمة، كلنا صعدنا مع أشعتها، توهمنا أننا صاعدون، وفي لحظة انكشاف وجدنا أنفسنا نتجه صوب القاع بسرعة هائلة، لم نكن نملك من أمر قيادنا شيئا.
الكيس يخرج بعض أوراقه ليدعوني: تسلّى بحلم حالم.
والغرفة تكاد تضيق، تقترب جدرانها شيئا فشيئا من بعضها البعض.
تعبت من أوراق حكاياته وأسئلتها، قلبتها باحثا عن صدى لأوجاعي، وجدت ورقة مكتوبة بالقلم البنفسجي، تذكرته في المقهى، هل كتبها بيده أم أن الطبيب نقلها عنه، وأيهما صاحبها: قاريء الأوراق في المقهي ذي الشرفة أم حاملها في صدارته؟!
"هذه المتاهة تطول سيدي الحزن، فألقني إلى ضفاف حبيبتي، لعل الفجر يعود بي مع أول موجة مسافرة اليها، أو لعل الموجة ترسم لي شمسا تأتيني بها.. فيولد الفجر على جبين حبيبتي.. دون حزن.
سأتركه لكم، قلبي المترع بحدبات السنين.. سأترك لكم ما تبقى من حزني القديم لتغسلوا عيونكم من دمعه.. وتصلوا ركعتين من أجله، تانك عينان .. ذرفتا كل حزن.
سأترك لكم مفكرتي تغتسل في حدقات حروفها مواويل الوجع، وأوهام التواريخ الهاجسة بي لمن تكتمل الأزمنة يا ترى؟
وقد تركت لكم قدري يحبو على شريانه طفل غرير، كم تهجس الأقدار بي كي أكون .. ولا أكون.
كم ترسم الأوجاع دربي، ودمعي عاصفة تلوح من خلف السكون.
سأترك لكم ما تبقى من كل شيء ليكتمل الكحل في عيني حبيبة، غابت وما عادت كما كانت، صادف حزنها حزني، فكم بكينا، وكم وقفنا فوق أهداب الكلام.
لكن دربي يعود بي وحيدا دون خطو أتبعه، فقط: كي لا أعود دون .. أي شيء.
.. وأنتشي وحدي، لليل ذاكرة مريبة، ولي ما تبقى من حبر معتق أجره سطرا فسطرا.. تلوح من خلف النوافذ، ملامح للقصيدة، أولد دون قصيدتي، يضن بها ليلي..
فأسامر جمري والشتاء!!
آآآآه كم ثقيل هذا الشتاء، وددت لو ألقمه جمرا، يحترق في أتون الروح، لكن البرد عابس فوق احتمال الجمر، سنخبو معا..
فحمتان تجاوزتا حد العذوبة، واستفاقتا فوق مقصلة العذاب.
سأتركه لكم: لا الليل يبقيني بمنأى عن أوجاع النهار، ولا الشموع تزيح العتمات عني، أي ليل خبأناه معا وقد أسرج الضوء حصانه نحو مفاوز لا ينتهي الرمل في حدقاتها..
دعني أفكر يا حبيبي: أي موت يأخذ الصبوات منا، ونحن لم ندس في أجفاننا سوى لون الحياة؟ سأقول: إني احبك، ألف حب وحب، ألف قلب وقلب، سأقول: أني مغرم، وأني عاشق، هل يزول الليل بلمسات قمر عاشق؟!
سألقي إليك تعبي أيها الليل لعلني.. لعلني أحلم لانام، أو أنام لأحلم بحبيب لا ينام.
هذي شموعي اوشكت أن تغادر ليلها، وليلها ليلي، وبكاءها بكائي، لكنها تعبت من صمت المقابر، آه.. حين يستحيل القلب مقبرة للصمت وتتماهى مساحات الكلام؟!.
أيقظوا الشمس من غفوتها كي تأتي فتشهد على مرويات ليل ظل مشغولا بظلمته، أيقظوا الضوء، لتستريح الظلمة ولو قليلا، أحتاج إلى خيوط الضوء أشغلها شموعا لما تبقى من الحياة.. فهاتوا برهانكم وتعالوا، اقرؤوا ما تبقى من سيرة الضوء، ليستريح القلب".
أعطني بعض الضوء لأفهم..
قليلا من سيرته لأسير.
"تمر أسابيع لا أرى فيها السلطان، وينقطع عني جوهر.. امضي الوقت في السير بين المزارع أو قريبا من البحر، أحصيت ما لدى السلطان من سفن، أبهرني العدد، كأنها كانت سبعين أو ثمانين سفينة شراعية، بعضها عليها من المدافع أربعة، وبعضها أكثر لتصل إلى أربعة وسبعين مدفعا، رأيت الضباط يراقبون النجوم لتحديد خطوط سيرهم، وبيدهم أجهزة ميقات لم أرها في حياتي.
وقفت على الساحل تحدوه أشجار النارجيل، وتحده الوجوه السمراء كأنها كائنات خلقت للعمل وتنفيذ طاعات أولياء الأمر، السواعد لاصفة تحت شمس المكان ورطوبته، كأنني لمحت مستر جوهر يخرج من بين غابات الأقدام ولهاثها بين البحر والبر، ناديته ولم أنس تقديم لقب مستر كي يبتسم عن أسنانه البيضاء الصافية كهلال الليلة يخرج مبتهجا فوق سماء سوداء لامعة بالنجوم، وبصيحات البحارة كأنها تبعث نداءات الحنين إلى البعيد، البعيد جدا.
صاح مستر جوهر على العمّال أن يسرعوا، الهواء يبشر بالمطر، والمطر لا يريده المشرعون بالسفر فوق الماء، يكفيهم الماء الذي هو أسفل منهم، قال لي أنظر أيها الحالم، رأيت السفن تزدحم في مملكة سيدي السلطان.
سألته: أين خولة؟
- من خولة؟
- سيدة هذه البلاد حسنا ومكانة.
قال: أغمض عينيك وستأتيك، وأغمضتهما، لا أرى سوى غيوم سوداء..
- لا أراها.
- أغمضت عينيك؟.
- نعم.
- فتحت أبواب الحلم؟
- لم تنفتح لي.
- لن تراها.
أطلقت لجناحي حريتهما محلقا في سماوات بدت بعيدة، متناهية في أبعادها، مضى وقت سبحت خلاله داخل العتمة حتى انشق ليل البصر عن نور البصيرة.. فرأيتها، أخذتني بشغف، تتبعت خطوها سائرة باتجاه بيت الساحل، تبين أو لا تكاد تبين بين رفقاء دربها، في غابة من سواد المحظيات تأتلق بفتنة، لا تسير إلا وسط حاشيتها.. تتبعتها حتى غابت في القصر، كانت أشجار البرتقال تحجب عني جناح الاستحمام بكثافة مبهجة، لم يغب عن عيني مشهد أطفال القصر يتسلقون أغصانها، كأنهم طيور كبيرة تتطاير مختبئة وراء أكمات الأوراق.
روى مستر جوهر أن لاعبا بالسيف كان في ساحة بيت الساحل، وحينما أطلت خولة أسند ذقنه إلى السيف متأملا الحسناء في إبهارها فانغمس الحديد في اللحم ونزف الدم من الذقن حتى أغرق السيف.
قلت: يا مستر جوهر حدثني عنها أكثر، قال: هي حلم حتى لم لا يعرف أن يحلم، إن اختالت في البيت فهي تتوهج بكبرياء عجيب، وإن خرجت إلى الساحات العامة فإن جميع الرائين، رجالا أو نساء، يتحولون إلى عيون تنظر وقلوب تبصر، كأن تلك الحسناء لم تخلق سوى لزرع بذور العشق أينما حلت وارتحلت، هي قمر المدينة الذي لا يعرف تعداد الأيام والمطالع، لكنها بكت بعينين لا يمكن تصور الحزن في مآقيهما يوم أن ماتت أمها نجمة الصباح.
قلت له: زدني خبرا عنها يا رفيق الأحلام، قال: إنها موضع حب عظيم من أبيها، وبعد أن ماتت أمها نجمة الصباح تولت تنظيم بيت الساحل لثقة أبيها في حسن إدارتها شؤون البيت، ولم تر في الرجال من يستحقها، مهما كبر شأنهم وعظم أمرهم.
مضى مستر جوهر في الوصف كأن لا بنات للسلطان غيرها، فجأة، وكأنه تذكر شيئا: أمسك عليك لسانك أيها الغريب عن المكان والزمان، فللسيد بنات لا تتسع ذاكرتك لحفظ أسمائهن، فمنهن خديجة ومية وشريفة وشيخة وعائشة وريا وزوينه وزينة، و، و، و.... سالمة.
سألته بحدّة: من؟!
أجابني بغيظ: سالمة.
بدا الاسم الأخير واضحا جدا، كبيرا في أذني، وقع عليهما قويا، سألت جوهر عنها، حدثني طويلا، غبت في عتمة الحكايات، لكن وجه خولة كان أشد سلطة".

28

تبعت خطوي لا سواه..
قلت لصاحب سيارة الأجرة: مستشفى ابن سينا، جفلت من نظرته، ألقيت جسدي على المقعد الأمامي، أنساني حضوره وقفات السائق باحثا عن راكب آخر طوال الطريق، ومن ركب معنا ومن اختلف معه في اتجاه المكان والسعر.
- أريد الطبيب الذي يعالج شابا يحب القراءة والكتابة.
- عفوا، بأي صفة تتحدث؟
- أريده مضطرا، لمصلحة المريض.
- من اسمه؟
- لا أعرف، إنه يتخيل نفسه مسافرا مع السيد سعيد بن سلطان.
ابتسم الشاب باتساع مدهش، حاول مداراة ابتسامته، كأنه عرفه، أخذني إلى غرفة قبل نهاية الممر بأمتار قلائل، طرق الباب، ودخلت، انغلق الباب ورائي، شاب في أول أربعينياته، وراءه مباشرة دولاب صغير به كتب عناوينها بأكثر من لغة، عرفت من كعوبها المكتوبة باللغة العربية أسماء كتب في علم النفس وأخرى روايات ودواوين شعر، نسيت أمر الرجل، التفت صوبي مغادرا بعينيه الشاشة التي كان ينقر عليها.
- تفضل.
- جئت أسألك عن مريض تعالجه.
- ما اسمه؟
- لا أعرف، إنما هو يعرف السيد سعيد بن سلطان.
- ماذا تريد بالضبط؟
- أي شيء عنه.
- هذه أسرار خاصة به وبي.
- لكنه..
- هل أنت قريب له؟
- لا، أقصد كان زميل دراسة قديم.
- لكن..
- سأشرح لك الأمر، أراه في سوق مطرح كثيرا، تجرأت ذات مرة وأخذت منه الكيس الأسود..
- مستحيييل، انك كأنك تقتله.
- نسختها وأعدت إليه الأصل، وقرأت نحوا من نصفها.
- فعل غريب وغير منطقي، إنما ماذا وجدت؟
- حيرة كبيرة.
- لن تفهم مهما سعيت.
- من كاتبها؟
- خذ ما حقك أن تعرفه، هل أعجبتك الحكاية؟.
- جدا.
حديث بدأ بغربة طافية، تواصل برغبة استكشاف متبادلة، وانتهى بمودة كأنها حلم آخر بعيد المنال، قلت للطبيب أنني أمتلك حكاية ما ربما سأقصها عليه حينا من الدهر قد يأتي على ذهني ما يدفعني للمجيء إليه طالبا العون، ضحك، قلت له كالمازح أن يحجز لي سريرا هنا، أجابني كالجادّ أن معالجة الواقع بالواقع أكثر جدوى.
نهض من مكانه، تناول أوراقا بدت نسخة من أصل، وضعها في ظرف..
- سأضع بين يديك أمانة، اقرأها، وأعدها خلال يومين فقط.
- ثق تماما.
- لا أعلم كيف أثق بك، ولا لماذا أعطيك هذه الأوراق، لكن إحساسا داخليا يأمرني أن أفعل ذلك، وعادتي أن أتبع إحساسي، ليكن ما لديك عنوانه حلم الرحلة.
- الرحلة؟!.
- نعم، الرحلة، وكأنك نسيت كلمة حلم، لا بأس، إنما لا تسألني من كاتبها ومسافرها.
- هكذا تزيدني حيرة.
- إذن اتركها.
- لا، سآخذها، ولن أسأل، إنما تبدو كرواية.
- لتكن مثلما تريدها.
طويت الدرب، لم أنتبه إلى شيء، حاملا كنزي، سأغرق في لجّته حينا من الوقت، سأقاوم كوابيسي بورقه.
وضعت المفتاح في منفذ القفل الداخلي، وعلى فراشي البائس بدأت في قراءة حلم الرحلة.


حلم الرحلة

لا شيء أعيه إلا السيد والبلاد البعيدة والسفينة الحلم..
خارج ثلاثيتي محض غيبوبة أعيشها، أحيانا أتذكر الشارع البحري، والقلعة الحارسة للمدينة، والبحر، والحارس العنيد أمام باب قلعة الجبل، والمخبز والباكستاني الواقف يقلّب كفيه بالرغيف يدوّره في يديه، والهندي في المقهى وكوب الشاي البلاستيكي.. تبدو ارتجافات ذاكرة في لحظة بين الوعي واللاوعي.
وحدي، والرمل، واقفان نتهيأ لغرق الشمس في لجة البحر البعيدة، ليل زنجبار يبدأ التكدس في المسافات الفاصلة بين الأشياء، سفن هجعت على حافة الماء أعينها على اليابسة القريبة، قد تأتي أخريات مع مشرق الشمس غدا، قد تذهب من بين الهاجعات إلى مدن لا أعرفها، وموانىء أسمع بها، أشرعة كجبال صغيرة فوق سفن تستسلم لدفعات الموج من بين أخشابها المبتلة بالماء، لسيدي السلطان سفنه، وللآتين والذاهبين بين زنجبار والمدن التي هناك سفنهم.
أراه يطل من نقطة متناهية البعد في ذهني، حيث أشار إلى البحر، وقال: هل عرفت سفني من سفنهم؟!
رفعت عيني صوب عينيه لكن داهمني إحساس أنه يرى سفنه غير راغب في رؤيتي، قال: أيها الفتى انظر إلى هناك حيث الطرف المقابل للبيت الكبير ذي اللون الأبيض والمزخرف هناك، تلك سفينتي ليفربول، بنيت في حوض السفن في مومباي بالهند عام 1826 للميلاد، عليها أربعة وسبعون مدفعا، وتحمل مائة وخمسين بحارا وضابطا.
وتلك اسمها الأمير الوصي، أهداني إياها ملك انجلترا، وقدمها لي أحد حكام الهند، أما تلك فسميتها فيكتوريا، باسم ملكة انجلترا حين تولت العرش، وهي المفضلة عندي للسفر عليها، وستجدها محملة بأربعين مدفعا..
تنقل نظري بين سفن عديدة تقف هنا وهناك والسلطان يعددها لي، فتلك السفينة شاه علم وعليها 52 مدفعا، وتلك السفينة كارولين وعليها 40 مدفعا، وهي أجمل السفن، وتلك بيدمونتيس المبنية في كوشين الهندية وتحمل 36 مدفعا، والسفينة الرحماني أسرع السفن وعليها 40 مدفعا، والسفينة مصطفى المبنية في مسقط، وعليها ستة وعشرين مدفعا، وليس ببعيد عنها السفينة أرتميس وعليها اثنان وعشرون مدفعا، وقد خصصتها لنقل حاشيتي بين عمان وزنجبار، وتلك السفينة كارلو وأخرى سلطانة والتي تراها في البعيد عنك السفينة ناج وبجوار افريقية وسالم وسليمان شاه وهرمان شاه ونصر وغزال وسيرنال.
أبصرت الفرح طاغيا في وجه سيدي السلطان يوم وصول السفينة سلطانة قادمة من بومباي، تروم السفر إلى أرض بعيدة، قيل أنها تقع وراء بحار ومحيطات، هبّت نسمات ناعسة على أشرعتها فتمايلت السفينة على ساحل زنجبار كحسناء ترفع وجهها كبرياء، بديعة الحسن، زاهية بما أوتيت من فضل لدى السلطان، اختارها لتكون عليها رحلته الأولى إلى أمريكا.
سرت معه يبوح لي بأخبار وأسرار، مشينا على طول المرسى، والعين لا تنظر سوى سلطانة واقفة بزهو على الماء الساكن بهدوء لولا النسمات الراسمة لحركة خفيفة على ورقة سطحه.

##

قال له: يا بني سر مع سفيري، واركب السفينة لا تخش من الغرق، واصطبر، فدونك وتلك البلاد محيطات وجبال، موج كأنك لن ترى الحياة بعده، وريح كأنها تخطف في كل حين روحك.. إنما الحياة موحية بأخطارها، والنائم لا يعرف سرها.
- يا سيدي لا أريد إلا قربك.
- هناك سترى ما لم تر.
- إلاك سيدي السلطان.
- سأكون معك، أينما يممت وجهك في السفينة ستراني.
.. وتجهزت بجهاز السفر وألقيت برحلي إلى السفينة، ذكّرني سيدي السلطان بأن اسمها سلطانة تيمنا باسم زوجته عزة بنت سيف، وقال: إن هناك في أقصى الأرض مدينة تدعى نيويورك.. كأني بين صحوي وغيابي أسترجع الاسم فتحول بيني وبينه غيوم وأبخرة تتصاعد بين عيني وذهني.
لاحت من بعيد السفينة سلطانة، حاملة أحلامي إلى البعيد، أن أرى حكاية أخرى تمشي فوق هضاب الدنيا، أضع على هامتي أمر سيدي السلطان بأن أبحر مع رسوله إلى ما وراء المحيطات.
فطنت إلى أحمد بن النعمان مادّا بصره بين الأفق البحري أمامه والسفينة المتراقصة بدلال على وقع الهبوب الرطب قريبة من الساحل، ذكّرني وقد كنت أعرف أنها كانت قبل أسابيع في بومباي، فما كانت السفينة الأمريكية ارسيبا لدجراسي تغادر زنجبار إلا وأيقن السيد أن أوان المغامرة قد حان، اختار هذه السفينة لأنها أحسن سفنه وأسرعها وأنسبها.
سألني أحمد بن النعمان: هل تتذكر اسم السفينة سلطانة؟
دهشت، كأني رأيت ملامح وجهي على حين غفلة، كيف لي هذا التذكر يا سيدي؟
قال: إنها المفارقة، فالسفينة التي اختارها السيد لتذهب إلى أمريكا هي من أنقذت القنصل الأمريكي وسفينته بيكوك..
قاطعته: تقصد في مصيرة؟
أجاب: نعم، في مصيرة، لذلك فهي تحمل المعاني والرموز أكثر مما عليها من حمولة، انتقاها السيد بذكاء معروف عنه.
حدثني ابن النعمان عنها، قال: يا بني هي سفينة لا تشبه أخريات، حمولتها 300 طن، وبنيت في مومباي عام 1933 للميلاد، أوروبية التصميم، وخشبها من نوع يدعى التيك، تحمل أربعة عشر مدفعا ولها ثلاث صوار.
رأيت جوهر يعدو بقوة، كل لحظة تجعل قامته أكبر، يقترب كأنه الريح، رأيته يلقي ببضع كلمات في أذن أحمد بن النعمان، ويجري الآخر وراءه، تركوني وحيدا، لا أعلم من أمري شيئا، ازداد الهبوب يغرق وجهي بالرطوبة، كأن الحشرات استيقظت فجأة، ضربت وجهي متكاثرة، التصقت في وجهي، تكاثفت الرؤية من حولي، سعيت إلى ماء البحر ألقي فيه جسدي ووجهي، كانت السحب تزداد كثافة، شعرت بإحساس غريب، أين أنا؟ كأني انفصلت فجأة عن عالمي، جوهر رأيته مرة أخرى، سألت نفسي عمّا أعجزني عن طرح أسئلتي التي أثقلت عليّ طوال فترة غيابه.

##

في خلوتي كنت مهيأ دوما لاستقبال طيف سيدي السلطان سعيد مودعا سفينته سلطانة، كأني لا أرى غيره على الشاطئ المزحوم بالبشر، وددت لو رأيت خولة، بجمالها الساحر، غاص حجر كريم في قاع الفؤاد، لو جادت أقداري بنظرة إليها قبل أن تسافر القلوع، آه يا خولة، تلك لرؤيا القلب، أما رؤيا العقل فبحثت طويلا عن الطفلة سالمة، بملامحها الحادة ونظرتها الباحثة عن البعيد، ابتعد وجه السيد قليلا فقليلا كلما غصنا في زرقة البحر، غيّبنا الضباب عن رؤيته، وددت لو لم أسافر وأبقى قريبا منه، لكنه أمرني بالسفر مع سفيره، قد أرى ما لا أحلم بأن أراه، وحلمي لا يتجاوز رؤية السلطان كل حين، مفتخرا رأيته يودع سفينته الذاهبة إلى ما يقول عنه إنه البعيد جدا، أول زعيم في أمة العرب يقيم علاقة تجارية مع ما اسمع أن اسمها الولايات المتحدة الأمريكية.
قال ابن النعمان وهو يحدثني أن السيد سعيد بن سلطان استقبل ذات يوم في قصر المتوني القنصل الأمريكي روبرتس، قال له أن سفن بلاده تعاني من صعاب في المياه العمانية، ولا تعامل كالسفن البريطانية، وقال له: أيها السلطان لماذا لا تكون بيننا علاقات تجارية ستكون في صالح زنجبار وبقية امبراطوريتك؟، وعرض عليه مشروع معاهدة تجارية.
أخذني أحمد بن النعمان من يدي وهو يشرح لي، مشيرا إلى الساحل الافريقي، ممتدا بين بر أخضر كأنه لا آخر له، وبحر أزرق كأنه لا نهاية له، وقال: المعاهدة وقعها السيد عام 1833 للميلاد وصدقت عليها حكومة أمريكا بعدها بسنة، وجاء روبرتس بالنسخة التي تخص السيد، إلا أن سفينته بيكوك جنحت في مصيرة وكادت أن تتحطم لولا أن السيد سعيد أرسل فرقة أنقذتها، تلك حكاية تعرفها جيدا، لكن دعني أضيف إليك ما تجهله، بالمعرفة ستفهم أكثر، ظلت يا بني سفن التجارة تأتي محملة وتذهب محملة، ومات روبرتس، وجاء بعده ووترز، وعرفت ميناء زنجبار في فترة قصيرة وصول إحدى وأربعين سفينة منها، اثنتان وثلاثون جاءت من أمريكا حاملة المنسوجات القطنية والأواني الفخارية والبنادق والبارود وما يحتاجه بناء السفن والساعات والأحذية، وكان لنا ما كأنه أعاجيب الزمان، ولا تعود السفن فارغة، فكانت تبحر مودعة ميناء زنجبار وعليها الصمغ والقرنفل والعاج وغير ذلك مما تعرفه بلادنا، وحين رأى السيد ما أحدثته السفن في تنشيط تجارته وتجارة بلاده فكر بما يعود بالنفع إليه وبلاده مباشرة دون وسطاء، أراد أن يكون لتجارته مكانا في تلك البلاد البعيدة وراء المحيطات، تحفزه أحلامه التوسعية نحو بلدان العالم.
كان ابن النعمان يختال كأنه ملك البحار وقد انتقاه السيد ليكون أول مبعوث له يطأ بلاد تسير إليها سفينة في أول رحلة، والبلاد بالغة البعد، سألته: لماذا أنت؟
تلبّدت ملامح وجهه، وقال: لأني جدير بذلك، أسرع في مشيه وهو يشرح: انظر يا بني، هل ترى وراء ذلك الأفق الممتد وراء الزرقة بلادا؟ فكيف تسمع عن بلاد لم ترها حتى في مخيلتك؟ اسأل السيد لماذا اختارني لأكون سفيره وحامل رسالته وهداياه، يا بني إني لأذكرك بما حصل في لقاء روبرتس بالسيد سعيد قبل سنوات، ففي يناير من عام 1828 للميلاد خطر على بال السيد أن تذهب فرقاطة من جانبه إلى الولايات المتحدة حالما تعود إلى زنجبار، أراد السيد شراء ذخائر وبضائع من أمريكا، إنما تردد السلطان في ذلك.
سألته: لماذا يا سيدي؟
شعر بزهو، وقال: لم ير السلطان من هو جدير بذلك، فالإبحار مغامرة لا يحتملها بحّارة لم يجتازوا البحار فيما وراء رأس الرجاء الصالح في جنوب أفريقيا، وعبرت السنوات وحلم السلطان يطل عليه أن يغامر ويتاجر.
سألني أحمد بن النعمان: هل تعرف بسفورد؟
ضحكت، وقاطع ضحكي: إنه الممثل التجاري الأمريكي الذي باع بضائع في بلاده قادمة من زنجبار قيمتها 20 ألف دولار، حينئذ فكر السلطان بأنه لا مجال للتردد، على يمينه ثروات تأتي بها التجارة من الهند والصين وسيام وفارس والجزيرة العربية والبصرة، وهناك الحبشة، وواقف على ثروات في زنجبار، وعلى يساره أمريكا تقول له تعال بما تحمل من تجارة عظيمة يريدها الغرب، واحمل تجارة أخرى يحتاجها الشرق.
لم أنطق بكلمة، كنت فقط أمعن في طول السواحل، والهبوب الرطب الذي يتكدس على وجهي، قال أحمد: في العام الماضي وصلت إلى هنا سفينة تسمى أرشيبا لدجراسي قادمة من نيويورك، تستكشف قدرات السيد التجارية، وقد تشجعت حينها مؤسسة سكوفيل وبريتون على فتح خط تجاري بين عمان وأمريكا، وأرادت هذه المؤسسة أن تكون وكيلا لتجارة السلطان في أمريكا.
أخبرني ابن النعمان إنه ولد في البصرة عام 1784 للميلاد، والده عربي هو النعمان بن محسن بن عبدالله الكعبي أما أمه ففارسية الأصل..
في الليالي المقمرة يطيب للكعبي الحديث، يسترجع حكاياته: بدأت يا بني غلاما يعمل على ظهر سفينة، وامتدحوا ذكائي كثيرا، فتدرجت في الأعمال البحرية حتى وجدت نفسي أعمل في مسقط بداية العشرينيات ضمن فريق الخدمة المقربين من سيدي سعيد، كلفني السيد بمهمات إلى الصين ومصر وأوروبا مسؤولا عن بضاعته الخاصة، وفي أوقات أخرى مديرا للسفن التجارية، سافرت في مكة في العام نفسه الذي حج فيه السيد سعيد، وزاد التقارب حتى أصبحت سكرتيره الخاص عام 1935 للميلاد، ومنذ خمس سنوات وأنا مقرب كثيرا منه.
هل تعرف يا بني أن سيدنا السلطان لم يكن يريدني لهذه المهة، كان يريد صهرا له يدعى سيد حسن ابراهيم، متعلم ويعرف اللغة الانجليزية وذكي ويحظى بقبول سريع لمن يتحدث إليه، لكنه لم يرغب في المغامرة، وخشي على نفسه من مشاق السفر الطويل، فكنت أنا حامل عبء المسؤولية والمبحر إلى تلك البلاد.. أمريكا.

##

قال جوهر مشيرا إلى قبطان السفينة، ذلك سليمان، صحت بدهشة: سليمان؟!، ليس له ملامح هذه البلاد، فضحك حتى رأيت أسنانه البيضاء أشد لمعانا، إنه وليام سليمان، قبطان السفينة، لا تندهش، ستراه كثيرا، والرحلة طويلة، أخذني ليعرفني على طاقم السفينة: هذا محمد بن عبدالله، قبطان آخر يساعد ابن سليمان، قال الاسم وهو يكز على أسنانه ليوصل إليّ معنى يستبطنه الحديث عنه، سأل محمد بن عبدالله عن رفيقه الآخر محمد بن جمعة، أشار بيده إلى باطن السفينة، بيّن لي أنه مساعد وليام الآخر.
رآني أحمد بن النعمان، أشار إلي أن أمضي إليه، تركت جوهر فاتحا فمه عن أسنانه البيضاء، يسحب أحد حبال السفينة، قال ابن النعمان: أين أنت؟ بحثت عنك كثيرا، لا تقترب من وليم سليمان لأنه يشرب الخمر كثيرا، إنه انجليزي، والطاهي برتغالي، والفنيان في شؤون الملاحة فرنسيان.
سألته عن امرأتين لمحتهما من بعيد، قال: هما المسز روبرت نورثورزي زوجه أحد التجار الانجليز في مسقط، ومسز شارلوت طومسون، سيكونان معنا على ظهر سلطانة حتى بلادهما انجلترا.
- إذن سأذهب إلى جوهر.
- جوهر؟!
- الذي رأيتني معه.
- لم أرك مع أحد.
ألقى الكلمات في سمعي ومضى، وكان عليّ أن أمضي كأن ما قاله محض مزحة سيبتلع البحر صداها كقطعة ملح تدرك قدرها مهما تماسكت وكبرت.
رأيت عشرات من البحّارة يعملون بدأب، قيل أن عددهم ستة وخمسين شخصا، بينهم بحارة أصولهم عربية، وآخرون مسلمون من سواحل كونكان ومالابار في غرب الهند.
رأيت جوهر، يحمل صندوقا كبيرا بسواعد بدت لي أنها قدّت من حديد، في حيرتي واقفا حدثتني نفسي أن أتبعه، سرت وراءه، هبط سلالم، بدا المكان معتما إلا ما يكفي لرؤية الناظر لموطئ قدميه، اقتربت مما يوحي لي أنه مخازن، روائح مختلطة، كأنني أتبيّن منها رائحة القرنفل الشهيرة، ومعها الصمغ والقهوة، روائح متكاثرة، مرة تتفوق على روائح السوائل التي دهنت بها أخشاب السفينة، ومرة تعجز عنها.
سألت جوهر عمّا أرى فلم يجبني، تصنّع اللامبالاة، وضع الصندوق الضخم بتمهل، رأيت احمرارا في عينيه، غاضب من شيء ما، بالغ في صمته، انتظرته، وقفت في العتمة أرى ما لا أتمكن من تبيّنه جيدا، أطال صمته، انتظرت بصبر لا أدري من أين لي به، ثم فتح فمه المغلق، وكادت العتمة أن تفقدني الرؤية لولا أنني رأيت أسنانه مشعة في عتمة المكان وعتمة حاملها، قال أنها 305 أطنان من الحمولة، 1300 جونية من التمر، و21 سجادة مصنوعة في إيران، ومائة بالة من البن وقد أحضر من بخا، هذا الركن متضمن حمولة ما جاءت به السفينة من مسقط، أما ركن البضاعة الزنجبارية ففيه 108 قطع سن فيل و81 كيسا من الصمغ العربي و135 كيسا من القرنفل تم حصاده من مزارع السلطان سعيد، وكما ترى هناك ألف قطعة جلد مجففة من جزيرة بمبا، ولن تلاحظ في الظلمة أنها لم تدبغ بعد، وقد أوصى السيد أن تباع حمولة السفينة في أمريكا لحسابه ويشترى بثمنها بضائع أمريكية يقبل عليها أهل زنجبار ومسقط، أو مما يحتاجه السلطان سعيد بنفسه، أو لنجله السيد خالد بن سعيد.
أهبط حينا إلى قمرات السفينة، تبدو متواضعة، مطلية باللون الأبيض، تراه مرات كأنه لون عاجي، حينا أصعد إلى سطحها، مسندا جسدي على جوانب ترتفع نحو سبعة أقدام، أجول عليها متبينا أمكنة مدافعها الأربعة عشر، عشرة منها خاوية، وأربعة ترقد بسلام على أطرافها.

##

أخذت السفينة تمخر عباب مياه المحيط الهندي، مودعة زنجبار جنوبا، محاذية للساحل الشرقي للقارة الأفريقية، رافعة مراسيها مجدولة حسب هبوب الريح، داخلني شجن غريب، شعرت بالوحدة، انشغل احمد بن النعمان عني، فتشت عن جوهر بين وجوه الذين أراهم في حركة دؤوبة، غاب عن رؤيتي، مع أنه سكن رؤياي بعنف أثقلني حمله.
في أيام هدوء العواصف لا علاج لثقل مرور الزمن سوى النوم، وحينما يتعب الماضون على ظهر السفينة من النوم يأخذون في المسامرة وقص الحكايات، عجبا لهذا الجوهر، ألا يتأتى له بعض الوقت للجلوس مع هؤلاء البحارة؟!
عرفت صالح، كأنه أخذ نصيبا من اسمه، بحار قال أنه من أدم، ولد هناك، وهاجر مع من هاجر إلى زنجبار، يغالب هبوب الرياح ممسكا بيده على لحيته الكثة، كثير الدعاء، يشعر المرء معه بحلاوة الايمان، يحفظ كثيرا من القرآن والأدعية، يسمعني الشعر في الأيام التي تصفو فيها الأجواء، لا يقطع استرساله عادة إلا صوت ياسر، بحار آخر لا يكف عن إلقاء القصص المضحكة، جريء في حركته، يلقي بالكلمات من لسانه مفرقعة، لا يخجل مما يقول، يحاول مهادنة صالح، والبعد عن الكلمات الفاحشة أمامه، أثارني أنهما يتحدثان أحيانا، ويكونا أول من يستعد للصلاة، لا يحاذران سوى مرور القبطان وليم سليمان قريبا من المصلين، يرفع صوته بالضحك أكثر فاكثر، يعلو دعاء صالح له بالهداية، وهو لا يكاد يسمع إلا صوت قهقهاته.
في أوقات الراحة يجلس صالح إلى قريب له من جهة زوجته الثانية، تزوجها من زنجبار في السنة التالية لوصوله إلى الجزيرة، يمكث صالح مع ماجد ساعات طوالا، عندما يتعبان من الحديث يأخذان في التسبيح والدعاء، يصليان النوافل بإطالة، لكني رمقت ماجدا ذات ليلة يطيل المكوث مع إحدى الأجنبيتين على ظهر السفينة، لم أتبين في العتمة أيهما، كانت هناك لحظات من التواطؤ بما يشبه الاتفاق الضمني بين ركاب السفينة، فالوقت قاتل لولا هذه الحكايات والتندر عليها، أو اختراعها إن اقتضت الحاجة، والبناء عليها، حينما يسمح الوقت للمتحدثين.
في أوقات متأخرة من الليل أقترب من جون، البرتغالي الذي يطعمنا كل يوم، أسأله هل نفد اللحم يا مستر جون، يفرك أذنه الشقراء، ويتأملني، يرد باقتضاب لا أعرف هل مزحة أو سخرية: لم يبق لحم في السفينة إلا إياكم والجرذان.. باغتني بالرد، كأنه يخيّرني بين ذبح أحدنا أو إطعامنا الفئران المتقافزة حتى على أجسادنا ونحن نيام.
تركت جون في تخيلاته سابحا في ملكوت الله المتسع رؤية ومدى، يبدو أكثر قذارة من البحّارة السود، بدا لي دنيئا وخسيسا، شعرت بالقرف منه، كان أغلب من في السفينة يتحاشاه، بخفة يده يمكنه أن يسرق اللقمة من فم أحد العبيد الجائعين المملوكين لضباط السفينة.
شدني من بعيد غناء ناعم، أنصتّ إليه، لم افهم كلماته، كان أحد الهنود يطلق صوته بغناء أخّاذ، بين ملامحه التي قست عليها الحياة والترحال تيبنت دمعا تهاطل على لحيته الكثيفة.. انسحبت بهدوء، تاركا للباكي مساحة غناء.
الناموس يحوم من حولنا لا يكتفي بالليل ملاذا، قال صالح: لن تستطيع المقاومة هكذا طويلا، نصحني كما يفعل الآخرون، قبل النوم يدهنون أجسامهم بزيت النارجيل، حيلة لاتقاء هجمات البق والبراغيث الجائلة في أنحاء السفينة.
أخبرت صالحا بما كنت عليه في الأيام الأولى من الرحلة، ازددت قربا منه، حدثته عن أحلامي وهواجسي، بعد كل جملة أو أكثر يردد كلمات الشكر والحمد لله والتسبيح له، حكيت كثيرا، مطمئنا إلى كلماته، كأني أقول وصفا لأسقامي فيمنحني الدواء لكل منها.
رأيت البحارة يجلسون إلى بعضهم البعض ينظفون ما علق في أجسادهم من كائنات تحشر نفسها بين خلل الشعر واللحي الكثيفة، ذهبت إلى محمد بن جمعه، لشعوري بالقرب منه، وأخبرته بالأمر، قال: هذا الأمر من تقاليد الرحلات البحرية، ولا تخلو سفينة منها، قلت له: ذلك لا يليق بسلطانة، سفينة سيدي السلطان، ضحك، ولم يجبني، رأيت في عينيه ملمح إجابة ما.. الحشرات لا تدرك عظمة السيد مثلك أيها الفتى الحالم.
نظرت بإعجاب نحو محمد بن جمعة وهو يمضي بعيدا عني، متتبعا أثر ضحكته، شديد السمرة، أنفه ضخم، طاردني سؤال أحمق: هل هو عربي اكتسب لون افريقيا أو أنه افريقي تعلم العربية؟!
لم يجرؤ أحد على القول أنه عبد اشتراه السيد ليعمل على سفنه، شدني ذكاؤه، وتوقه للمعرفة، على عكس محمد بن عبدالله، الضابط الآخر، يبدو كالمريض أغلب الأوقات، يداري كسله وتراخيه، يخطر بقامته القصيرة ولحيته الطويلة، يرمقني بنظرات حادة، تعرفت لاحقا على شاب صغير قيل أنه الضابط الثالث، يبدو مشغولا بأشياء أخرى، لم أدرك ماذا يفعل بغيابه طوال الوقت.

##

اقترب مني رجل في الظلام لم أتبينه للوهلة الأولى، ثم انقشعت العتمة عن رجل قصير ومتين، رأيت في شبحه أنه أحمد بن النعمان.. وقف على الحاجز الخشبي ناظرا للبحر، قال فجأة: هذا حلم السلطان، أن يصل للمناطق البعيدة، وقد حاصرته ثورات المزاريع وغيرهم، وحفزته أحلامه على خوض مسارات جديدة للتجارة تلقم خزينته التي تنخرها مصروفات الدولة في مسقط وزنجبار ونفقات الحروب وحملات حفظ كيان دولته.
كنت أنصت، وابن النعمان يتحدث، يأتي إلي بحكاية روبرتس، الأمريكي الذي أراد أن تكون هناك تجارة كبيرة بين السلطان وأمريكا، السلطان الذي يريد مالا لخزائنه، وأمريكا التي تريد صلة وصل بينها والهند والصين، جاء روبرتس على السفينة بيكوك حاملا نصّ معاهدة بين حكومة السيد سعيد وحكومة الولايات المتحدة، كان ذلك في شهر سبتمبر من عام 1833 للميلد، رأيت من بين نصوص الاتفاقية أن يدفع الأمريكيين تعريفة استيراد موحدة قدرها خمسة بالمائة فقط وأعطت الأمريكيين امتيازات أخرى، وقام سعيد بن خلفان...
قاطعت أحمد بن النعمان مستفسرا عن سعيد بن خلفان، أجابني: هو قبطان في أسطول السيد، ترجم الاتفاقية، بعد وقت اكتشف أن هناك اختلافا بين النصين العربي والانجليزي، لم يعرف أحد حقيقة لماذا وقع هذا الاختلاف، أصر روبرتس على أن يكون في واجهة هذه العلاقات التجارية، دافعا بصهره ووديري عضو مجلس الشيوخ الأمريكي عن ولاية نيوهامبشاير لمساعدته في خطته، وأخذ ووديري على نفسه مهمة إقناع زملائه بأهمية التجارة مع مسقط وزنجبار، لكن لم يكن أحد يعرف أين يقع هذان الاسمان على خارطة الدنيا، لكن في عام 1832 للميلاد أصبح ووديري سكرتيرا للبحرية الأمريكية ودفع بمجموعة صغيرة من سفن الأسطول الأمريكي للمحيط الهندي، وأرسل بعثات إلى سيام والهند الصينية واليابان، مشيرا إلى قوى عربية يمكن للأسطول زيارتها يمكن عقد معاهدات أو اتفاقيات تجارية معها.
وماذا بعد؟
قلت لأحمد بن النعمان، لكنه اختزل القول وقال أن الأمور سارت سيرا حسنا كما يشتهي السيد وكما يطمع الأمريكيون، كان السيد يلح في القول أنه يريد أسلحة لطرد البرتغاليين من موزمبيق وتأمين خط التجارة بعيدا عن الأخطار.
قال أحمد: أحلام روبرتس ماتت بالنسبة له، لكنها عاشت عقودا بعد ذلك.. في الثاني عشر من يونيو من عام 1836 مات الرجل، رأى خلال حياته عشرات السفن الأمريكية تزدحم وحدها في ميناء زنجبار، بينها عشرون سفينة أتت من ميناء سالم فقط، ولم تكن هناك إلا سبع سفن بريطانية وسفينة واحدة فقط من فرنسا وأخرى من أسبانيا، شعر الرجل بعظمة ما فعل، في الشطر الثاني من مملكة السيد، ميناء مسقط، لم تدخل إلا سفينة أمريكية واحدة منذ عام 1935 للميلاد وحتى يومنا هذا، أنهى الكعبي كلامه ومضى، كمن يبدو أنه يتحدث مع نفسه، لا لآخر سواه.

##

الموج الذي يرقص تحت أشعة القمر، والأخشاب الطافية من بعيد تحت هجوع الليل تراقب ينبوع العشق، كنا خائفين من القمر الساهر، ومن بكاء الليل خشية أن تسرقنا اللحظة من عمرنا، كانت -بحق – كل العمر.
كاد البحر يأخذ اللحظة مني، على رماله في البعيد هناك سارت الأقدام تخفق بشدة الحلم، آه أيتها المتوارية خلف الباب المغلق لو تدركين كيف العاشق حين يستبد به الوجد .. لو وضعت كفك في كفه، والكف الآخر تمسح عن قلبه ما تناثر من دمع.
في المسافة بين اليابسة واليابسة حلمت بك، رأيتك طائر نورس، يكاد يحط على قلبي ينتزعه كسمكة واجفة بين موجة وموجة، جسدي كروحي يتشظى، يومىء لك البحر: اقتربي.. وخوفك يدفعك للبعيد، كان العاشق يفصّل بيت شعر وجسدك قصيدة، لو تدركين كيف يتحول الجسد الى كلمات، لو....!
ما أجمل حكايات حوريات البحر، لهن أجسادهن المذهلة، ولك أيضا أيتها الروح الصافية، يباغت الحنين عاشقك، يود لو يطوف بك حدود الكون، لكن يدك تبعد يده.. فترتد روحه تذرف حرمانها.

##

داخلني جوع غريب، مضى أسبوعان ومعدتي لم تعتد بعد على الوجبة الواحدة يوميا، الرز الأبيض يوميا ومعه القليل من المرق، قد نرى فيه قطعة لحم ملتصقة بعظم كبير، أو (حزّة) سمك صغيرة، مرات أجدني قريبا من القبطان وليم سليمان أو أفراد طاقم القيادة فأتناول وجبة جيدة، وقت الطعام تمد سجادة كبيرة على ظهر السفينة ويوضع الطعام في وسطها، يأتي الطبق الأول وعليه الأرز واللحم ثم يأتي الثاني بما عليه من تمر وفاكهة خاصة المانجو، طعام كثير يملأ المعدة لليوم التالي، في حالات أخرى أتناول الطعام مع بقية أفراد السفينة فلا أجد لذّته وكثرته كما هو الحال مع وجبة وليم والمقربين منه.
بعد وجبة الطعام تقدم القهوة مع التمر، توضع على جمر يبقيها ساخنة ولذيذة، يكثر البحارة من شربها، يأخذ أحدهم عشرة فناجين، وينتظر الممسك على الدلة لو أن أحدهم يهز الفنجان دلالة الاكتفاء، إلا أن الوقت لا يعبر كثيرا، الزمن في أبطأ دوراته.
ذات يوم سألني صالح عن فنجاني، قلت له: ليس لدي فنجان معين، أدار الفنجان بين يديه وقد فرغنا من الغداء، قال: انظر إلى هذا الفنجان، لقد جئت به من أدم، أشعر بأني قريب جدا من وطني حينما أرتشف القهوة من هذا الفنجان.
رأيت مجموعة كبيرة يجمعها اللون الأسود، لا يأكلون، نظراتهم خائفة ووجلة، ملابسهم من قماش القطن الخشن، قذرة، حينما رفعت الصحون من بين أيدي الآكلين حملوها ليأكلوا بقاياها، قالوا أنهم خدم الضباط، يأتون بهم في مثل هذه الرحلات ليحصلوا لهم على أجر، سألت عن مقداره، أخذتني حالة يأس، تخيلتني أحدهم، أسابيع متثاقلة تتراكم فوق بعضها البعض ارتحالات بين فكي الموت، ليس لدي إلا رداءان من قطن خشن، أحسست بالغثيان، ذهبت إلى بيت الراحة، رائحته لا تطاق، هناك أوساخ أخرى برائحة زيت النارجيل، أفرغت ما في جوفي، عدت إلى جلسة الصف الأول من البشر المبحرين على ظهر السفينة سلطانة.

##

وفيما كان القمر بدرا على سطح السفينة سلطانة وبحرها الممتد في لا نهائيته أبصرت جوهر متكئا على برميل من تلك الموجودة على السطح، مبحرا في البعيد، جلست إليه، سألته أن يحدثني عن سيدي السلطان، بدت لي غشاوة في عينيه تلألأت على انعكاسات أشعة القمر، بشرته السوداء تلتمع برطوبة صقلت ملامح وجهه، قال: سأحدثك عن نبأ لم تدركه من قبل، قبل سنوات طويلة سمع من في المدينة من يقول بأن السيد سلطان والد السيد سعيد أغتيل في العشرين من نوفمبر من عام 1804 تاركا ثلاثة من الأبناء هم سالم وسعيد وحمد، وأن السيد سعيد بن سلطان بن الإمام أحمد بن سعيد قتل السيد بدر بن سيف بن الإمام أحمد بتدبير من عمته السيدة موزة بنت الإمام أحمد، رأت السيدة / العمة أن أبناء أخيها سلطان أحق بالعرش من السيد بدر ابن أخيها سيف، ولما رأت السيد بدرا وهو الوصي على أبناء أخيها المقتول يستأثر بالحكم دونهم حرضت السيد سعيدا وقد كان واليا في بركاء لإبعاده عن مركز الحكم أن يقتل ابن عمه السيد بدر، ودعاه إلى بركاء ليناقشه في أمور الحكم.
سألت جوهر أن يأتيني بالخبر اليقين، وقال لي أنه لا يقين لديه إلا ما ينقله المتناقلون ويسرده الساردون، والمسافات متسعة بين عمان وزنجبار، ذهب عني، فمضيت أفتش عن يقين يرفع عني شكّي، لكنني بقيت بينهما حائرا، والبحارة يضربون بالدفوف بحثا عن متعة تحت القمر المستدير فوق سماء تكسو بحر المكان، ضربات عنيفة على الدفوف، ورأسي يتمايل بثقل ما، تمضي الطبول والدفوف في صراعاتها، وأمضي في صرعاتي، طيف السيد يأتيني سريعا ولا يستقر، تتعالي أصوات الطبول أكثر فأكثر، يتماهى الطبّال مع الطبل، الضارب مع المضروب، السواعد السوداء كأنها تنتقم من جلد الطبول والدفوف، تضربها بشدة في حركات إيقاعية عارمة التأثير، أتمايل لها أكثر، يمينا ويسارا، أرى ولا أرى، أشعر ولا أشعر، أغيب ولا أغيب، الأجساد تتحرك بخفة الروح، بدت الأصوات التي كانت تعلو وتعلو تهبط قليلا قليلا، تهدأ في آن دخولي لمشهد آخر، رأيتني مع قوم يقولون أنهم وصلوا بركاء، تبينت بين ضباب الرؤيا جوهر يخبرني عن التفاصيل، ذلك هو السيد بدر، في ملبسه المتأنق، خنجره وبندقيته يزيدانه مهابة، رأيت فيما رأيت أن القوم دخلوا إلى بيت الوالي، وكان هناك السيد سعيد يستقبلهم، شاب في مقتبل الحياة والزعامة، بدت الابتسامات موحشة، حتى إذا استقر المجلس اقترب السيد سعيد من ابن عمه السيد بدر، وقال له يا ابن العم ما أجمل خنجرك، أرني إياها، فحلّ السيد بدر خنجره عنه، وناولها ابن عمه الوالي، فما كان من السيد الشاب إلا أن ضرب بها الوصي لكنها لم تبلغ إلا ساعده بجرح طويل، وفرّ السيد بدر من المجلس قافزا على ظهر حصانه، رأيتني في عتمة الرؤيا أركض وراءه والقوم يكاد يسبقونني، رأيت السيدة موزة تركض معهم، ورأيت يا لهذا الذي رأيت الرمح يقفز من يد السيد سعيد ملتهبا يمضي في إثر راكب الحصان، حطّت قسوة الرمح في ظهر السيد الهارب من قدره، فسقط من على حصانه..
كأن أصوات الطبول عادت بقوة، رأيت الضاربين عليها يتهاوون من التعب، تناقصت الأصوات، وفي عيني مشهد الرجل هاويا عن حصانه، ولم أكد أتبيّن ما تقوله العينان وهما تنظران في وجوه المتحلقين حول الجسد المدمى، تخيلت العيون الناظرة جامدة لا أثر فيها لشيء، أغمضت عيني، فتحتهما، في اغماضتهما رأيت مستر جوهر، في إبصارهما رأيته أيضا، قال لي قم لأريك ما لم تر بعد، تبعته، وآثار ما رأيت حاضرة في عيني.
قادني في عتمة السفينة لأرى هدايا السلطان إلى رئيس أمريكا، بعد أن رأيت وتعجبت استدرت صوب مستر جوهر، قلت له: زدني معرفة يا رجل الحلم، تنهد وقال: يا لسخرية الأقدار ومصادفاتها، تزوج السيد سعيد أخت من قتله، فكانت السيدة عزة بنت سيف بن الإمام أحمد، وأمها أثيوبية، الزوجة المتسيّدة بين زوجات السيد الثلاث والتي لها الحظوة..
قلت له: السيد تزوج ثلاثا؟!
قال: السيدة عزة لم تنجب له أولادا، .. وفي عام 1827 تزوج حفيدة شاه إيران علي شاه واسمها فتح، اشترطت عليه أن تقضي الربيع كل عام في بيت أبيها وقد كان حاكما على فارس، حتى كان عام 1832 غادرت إلى بلادها ولم تعد، وقد اشتدت الخلافات بينها والسيد خالد بن سعيد بن سلطان.. ولم تمض سنوات خمس إلا وتزوج حفيدة حاكم آخر لإيران هو محمد شاه، كان ذلك في عام 1837 حينما استقر السيد سعيد في زنجبار، وكان يوم وصول شهرزاد إلى المدينة مشهودا، جاءت ومعها حاشية ضخمة قيل أنها تبلغ مائة وخمسين شخصا، جميلة حد الإبهار، مغرمة بالصيد وركوب الخيل، رفضت ارتداء الحجاب ولا تجلس في البيت نهارا، كرمها السيد وأقام لها بيتا بحمامات فارسية وإصطبلات للخيول فعاشت حياة مرفهة، حتى إن السيد بنى لها حمامات أخرى في كيجيشي وكيزيمباني.. تختال حينما تسير، ولا تلبس إلا من صنع يد مصمم خاص لأزيائها يعيش في شيراز، وبالغت في معيشتها حتى ضاق السيد بها ذرعا، وفيما كانت تزور أهلها أرسل إليها ورقة الطلاق.
سألني: هل سمعت عن رانكفولانا مانجاكا؟ قلت له: ومن أين لي بعلم هذا؟!
رأيت بياض أسنانه متدفقا كشلال لا يخلو من قطع ثلج، وقال: هي أميرة مدغشقر، فقدت زوجها فأرسل إليها السيد سعيد الشيخ خميس بن عثمان طالبا الزواج وإمداده بألفي رجل لدعمه في حربه مع المزاريع، رفضت الطلب الأول وأعطته الثاني.
سألته للمرة الألف عن أمهات أولاده الكثر؟ من أين له بهم وزوجاته الثلاث لم ينجبن؟ قال مستر جوهر: للسيد عشرات الجواري، هناك مدينة، وقريباتها الثلاث اللاتي ولدن للسيد أولاده ماجدا وحمدان وسالمه، شركسيات من بلد واحد.

##

في اليوم السابع والثمانين على مغادرتنا زنجبار رأينا على البعد جزيرة أخبروني أن اسمها سانت هيلانه، جزيرة من الجبال، بدت كتل هائل من الصخر ينشق من المحيط الأطلسي، اقتربنا منها بأنفاس من يشعر أن المكان قربة هائلة من الهواء النقي يعيد للمخنوق بين حصار الماء حياته، بانت لنا جيستاون، قرية الجزيرة الوحيدة وميناءها، بشر يهجعون إليها لهم سحنات من أوروبا والهند وإفريقيا، عالم صغير التقى على هذه الجبال، على موعد بين زرقة تعزل الصخر بعيدا عن اليابسة.
أمر القبطان وليم سليمان بإلقاء المراسي فيها.. رأيت أخيرا أحمد بن النعمان يرتدي حلته العربية..
- إلى أين يا ابن النعمان؟
- أمرني سيدي السلطان أن التقي حاكمها وأسلمه رسالة وهدية، انظر إلى زجاجة العطر تلك، صنعت في بلادنا.
- يا لهذا السلطان الذي يهتم بالتفاصيل.
- انه يخطط للمستقبل كثيرا، يريد أن يكون له في هذه الجزيرة أصدقاء يعينون سفنه كلما استراحت إليها، ولا تنسى أن سفن السلطان تخطط لجعل هذا المسار رابحا وتكثر فيه السفن ذهابا وإيابا.

##

رأيت القوم في حالة من الرعب شديدة، سانت هيلانه وراءنا، وأمامنا البحر، كان الخمر قد أخذ من القبطان وليم سليمان مأخذا خطيرا، تخبطت السفينة في أعالي البحار، شعرنا بالخطر كثيرا، هبّت عواصف، وريح التيه من كل حدب وصوب، قام ضابط عربي بقيادة الدفة، بعد أن هدأت العاصفة وخرج الجميع من دائرة الخطر المحدق حدثنا بأنه سمع قبطانين أمريكيين يقولان أن خير طريق للوصول إلى نيويورك هو الاتجاه أولا إلى الشمال الغربي مباشرة، ولما رأى أن القبطان سليمان قد أعجزته الخمر عن القيام بواجبه نفّذ ما قاله القبطانان الأمريكيان، وفي كل لحظة كنت أسمعه يطلب العون من الله..
تردد أن السفينة عبرت إلى الدرب الآمن.. هبت نسمات على وجوهنا.. هدأت ألواح سلطانة، أمضى وليم سليمان ثمانية أيام نائما من أثر الخمر، حينما أطل في اليوم التاسع عرفنا أنه أنهى جميع الزجاجات التي اشتراها من جزيرة سانت هيلانه.
وعلى طرف من السفينة لمحت أحمد بن النعمان يتحدث مع وليام سليمان، خمّنت أنه جدال حول ما حدث، كأنهما يضبطان دفّة الحديث بعيدا عن خطوط حمراء عواقبها أقسى مما تحتمله سفينة تبدو كنقطة متناهية الصغر فوق امتدادت مياه لا يبدو أن لها أواخر.

##

ينسكب الليل فوق قدرتي على السباحة، وحيدا يغرقني، المكان تفيض بالعتمة، ينهمر شلاله الأسود، أنهض أتبين نفسي، أستدعي الأنجم لعلها تتساقط نجمة نجمة، تتشطى في عيني، وأعود إلى مخدعي، أتحسس ما تبقى منه، وما تبقى مني، مقاوما لسعات الذكرى، يهجع الوقت آخر الليل إلى كفي، ووسادتي غارقة في بحرها، أدعوه حبيبي يأخذ بيدي نحو مجاهله ويعيدني.. آخر الليل أغنية، المسافات في العتمة قاسية البعد، تعود إليّ وحشتي حين أقف أمام مرآة روحي، من أحبّهم هناك، أتساءل أحيانا: لماذا أتت بي أقداري إلى هنا؟.
تمزق الرحلة دربها، كلما أمعنا في السير أكثر، فتعاند الأشرعة الربان، وتقفز الموجة فوق حدودها راسمة حدودا مختلفة.. هل بقيت بوصلة غير الحنين إليك وقد أضعت كل خطوي إلى جزيرتك القريبة البعيدة؟!.
وجه خولة.. الباب المغلق، الطرقات المتراكمة على خشبه، سرت طويلا بين حافة الباب وحافة البحر، لحوافي أنياب حادة تمزّق الخطوة.
تمحو الموجة الخطوات المتراكمة وراء بعضها وما تعلمناه من قدرة على المشي.. فجأة نكتشف أننا سرنا دون أقدام وقطعنا مسار الشوك حفاة إلا من خضاب الدم يحتذي قاع أرجلنا.. ويترك خطوطا حمراء فوق نسيج الرمل.
في الليل ينسرب الصمت بوقار مميت، بما يشبه الأنين يأتي من أجساد النائمين أو الذين يريدون لك الإحساس إنهم نائمون.
تقفز الأنّة من جسد ما، لا أحد يعرف في الظلمة نبعه ومساره، يتركون للآنّ فرصة إطلاق ألمه، مشقة الإبحار وثقل الغربة ومفاجآت العواصف، أقدار يحملونها على أكتافهم، الأيدي الملتهبة لفرط ما أطبقت على الحبال خشية أن تمزق الريح كل شيء، والمحيط فاتح شدقيه ليلتهم نقطة صغيرة في امتداداته لا يكاد يلمحها أحد إذ تسقط كلقمة صغيرة سائغة في فم سمكة قرش عملاقة.
لو طرقت الباب أكثر لخرجت خولة..
خولتي، أو هي ابنة السلطان!
لا أدري كيف انغمست الصور في قاع القلب فبدت واحدة.

##

في اليوم الأخير من شهر إبريل أطلت نيويورك أخيرا، كان يوم خميس، دخلت السفينة المضيق المتعرج وصولا إلى خليج ضيق، رأيت طاقم السفينة يحاول على مهل تفادي اللسان الرملي، في نهايته مصباح مضيء يحدد دخول المرفأ، وقفت السفينة وأطل مرشد ملاحي يتولى قيادتها للدخول بها صوب الميناء.
سرنا ببطء، مأخوذين بالمكان، نسمات خفيفة تصافح الوجوه المتعبة، تأتي من الجنوب الغربي، وحدها سلطانة تسير فوق الماء لا تحتاج إلى أشرعة، سارت على مهل في المضيق المتعرج، على خليج صغير ألقت مراسيها، بيّنوا لنا أنها منطقة الحجر الصحي.
انتظرنا طويلا لحين انتهاء إجراءات بيّنوا أنها عادية، صعد مأمور الضرائب إلى سطح السفينة وأمعن النظر في وجوه المسافرين، وأمر رجاله بتفتيش حمولتها، بدت السفينة كأنها لا تتحمل وزنا إضافيا، بطنها يدفعها إلى الماء، ومن في خارجها يمكنهم رؤية سطحها رغم الحاجز الخشبي المرتفع سبعة أقدام، نظرت إلى الأشرعة، لم يكن حالها أفضل من بحّارتها المنهكين، قال أحدهم: إنها لا تصلح لطريق العودة مرة أخرى، قال آخر: إنها مغامرة عجيبة، زمن طويل من الإبحار على سفينة لا يوجد بها سوى حياة بائسة.
طافت على بالي صرخات المرأة شارلوت طومسون، وصيفة مسز روبرت نورثورزي، زوجة التاجر الإنجليزي، كان هياج شارلوت مثار انتباه أغلب من في السفينة، اكتشفت في اليوم السادس والثلاثين أن الطعام يطبخ بماء يكاد يكون بلون أخضر، صارخة ذهبت إلى البراميل الآتي منها الماء، رأيتهم يحملونها مغمى عليها، أسرّ محمد بن جمعة في أذني أنها لم تتعود رؤية الطحالب والفئران الغارقة في براميل المياه، ولو اعتادت لن تفعل كل تلك الضجة، سألته عن حال سيدتها حينما تخبرها عن ذلك، قال: هي سيدة عاقلة، وواسعة المعرفة، لن يغب عن بالها ما يحدث في رحلات كهذه.
اقترب من مكان جلوسي فوق القطعة القماشية خمسة بحّارة هنود حالتهم ليست أفضل من غيرهم، طلبوا مني النهوض، سحبوا القطعة الكبيرة، لاغطين بكلام كثير لم أتبين منه كلمة.
ألفيت نفسي أستند إلى قطعة قماش مطوية تبدو كأنها شراع ممزق، شعرت بثقل سبعة وثمانين يوما من الإبحار بين زنجبار وهذه المدينة التي تبدو أعجب مما تخيّلت، سفينتنا لم تكن غريبة على ما حولها، تبدو بذات التشكل الذي عليه سفن الميناء الأخريات، الصواري البادية أكبر من حجم السفينة، لكنّ سلطانة أثارت استغرابهم من كل شيء فيها، تعلقت أعين البعض برايتها القرمزية، لم يكن بها أي رمز، أخبرتهم أن هذه الراية السلطانية التي ترتفع على كل سفن الأسطول العماني.

##

بقامته القصيرة والبدينة تهيأ أحمد بن النعمان لمغادرة السفينة الراسية في ميناء نيويورك، رغم قصر قامته إلا أنه متوج بالعمامة وألوانها الزاهية، هبط كأمير عربي جاء من المشرق ببشرته القمحية ليكون شخصية أسطورية في تلك البلاد البادية أنها عصية على وصول سفينة عربية إلى سواحلها.
رحبت البحرية الأمريكية بالسفينة سلطانه ومبعوث السلطان، تقدم ملازم بحري أمريكي بنظرات حادة متجها إلى حيث يقف أحمد بن النعمان، قال: باسم العميد البحري جيمس رانشو مدير حوض الميناء يرحب بالسفينة العربية، ووقف ابن النعمان معتزا بنفسه يقدم أسباب حضوره: أنا أحمد بن النعمان الكعبي البحراني، جئت ممثلا شخصيا للسيد سعيد بن سلطان حاكم مسقط وزنجبار وتوابعها، في مهمة رسمية وتجارية للتعبير عن الرغبة في الصداقة والسلام مع أمريكا، حكومة وشعبا.
رأيت الدهشة في عيون الأمريكيين، هذا الرجل يتحدث إليهم بلغة إنجليزية واضحة، يعطيه أتباعه مكانة كبيرة من التبجيل والاحترام، متزنّرا بشال يلفه حول وسطه بذات ألوان عمامته، قال لهم أنه رئيس السفينة وليس قائدها وليم سليمان، هرع القوم المستقبلين يشطبون اسم سليمان من سجلاتهم، واضعين اسم أحمد بن النعمان، الممثل الشخصي للسيد سعيد بن سلطان حاكم مسقط وزنجبار وتوابعهما.

##

شاع في المدينة نبأ وجود سلطانة، تدافع الناس إلى رصيف الميناء لرؤية السفينة العربية، قادهم فضولهم لمعرفة أكثر للوجوه القادمة من البعيد.. وجوه عربية، وأخرى أفريقية، وثالثة أخذت من هذا وذاك، ضجر البحّارة من تقاطر الناس عليهم، لجأوا إلى ممرات السفينة مختبئين من فضول أهل المدينة، في الثامن من مايو أدرك عمدة المدينة فريدريك ليذر خطورة المضايفات التي تحدث للبحارة، وضع رجال الشرطة لمنع الأهالي من الصعود للسفينة.
ضحك أحمد بن النعمان، أطلق ضحكته مجلجلة في مجلسه المخصص له داخل مقر إقامته، قال له أحدهم أن أهل المدينة كانوا يتحسسون لحى بحّارته ليتأكدوا أنها حقيقية، هبط بحارته إلى الشاطيء قليلا فدهشوا من دهشة الناس، سار قوم وراءهم مأخوذين بملابسهم وملامحهم، حكاية بعد أخرى وكان ابن النعمان يطرب مما يسمع، فجأة تغيرت ملامح وجهه، أخبره أحدهم أن بعض بحّارته شرب الخمر بكثرة، أغراهم أهل المدينة بالدعوة إلى تناول شراب من قبيل الإكرام، لم يكن أفراد الطاقم اعتادوا الخمر.
أكمل الحكاية آخر، قال: صالح رأى بحّارا في حالة سكر بالغة، وبّخه بشدة، سمعت بالخبر جريدة نيويورك سيجنال، فقالت: إن أحد كبار السن من ذوي اللحى البيضاء الطويلة أخذ يوبخ بحارا وصل إلى السفينة وهو يترنح ويصيح.

##

أخذتنا المدينة بسحر مريب، الأبنية العالية والشوارع الفسيحة، الوجوه المتنوّعة بين كل ألوان الدنيا وملامح بشرها، وجدتني معهم، جائلين في المدينة، أياما منذ وصولنا إلى يابستها توالت ولا عمل لنا سوى التجوّل، قال مرافق لنا من بينهم أن المدينة تصدر عشر صحف في اليوم، وفي شهر مايو حيث رست سلطانة زارت الميناء 185 سفينة، لم يكن من حديث لدى كبار القوم في المدينة سوى الانتخابات، قاربت فترة رئاسة مارتن فان على الانتهاء، تناقلت الصحف أخبار اجتماع الحزب الديموقراطي في بلتيمور في الخامس من مايو، قرر مارتن الترشح مرة ثانية، بعد أيام نشرت الصحف خبر اختيار حزب المحافظين لوليم هنري هاريسون.
في جوانب عدة من المدينة رأيت الصحف توزع نسخها، أخذ أحمد بن النعمان صحيفة، قال: إنها الهيرالد، قالت عن المدينة إنها مليئة بالمفاجآت والمرح والغرائب وكل ما يثير الدهشة، كلما انتهى حدث مثير جاء حدث آخر أو حدثان.. وربما ثلاثة.
قال مرافقنا: إن وصول السفينة سلطانة أعطى صحف نيويورك مادة جديدة للإثارة والمتابعة، أخبرني أحدهم أن أهالي نيويورك وجدوا في زيارة أحمد بن النعمان إثارة أكبر من زيارة عروض الراقص النمساوي وجولات الهولنديين بسراويلهم القصيرة في حفلات الرقص.
تسابقت الصحف الأمريكية للكتابة عن سفينتنا سلطانة، في مساءاتنا نلتف حول أحمد بن النعمان يخبرنا ما قالته الصحف، حمل جريدة بين يديه وقال: هذه تسمى البوست، كتبت عن السيد سعيد، ذكرت أنه لا يوجد في العالم المسيحي من يتصف بالأخلاقيات السامية التي أصبح العالم ينظر إليها باعجاب وتقدير مثل ما ظهر في مساعدة السيد سعيد للسفينة بيكوك، تناول مجموعة أوراق وقال أنها لجريدة نيويورك، قالت: يجب تقديم كل التسهيلات الممكنة من جانب الحكومة للبعثة الأولى التي أرسلها الحاكم العربي للتجارة مع العالم الجديد، تسهيلات لائقة بما قوبل به الأمريكيون من معاملة حسنة في بلاد السيد سعيد وما غمروا به من كرم عربي بالغ.

##

في صباح يوم ارتدى أحمد بن النعمان والضابطان محمد بن جمعة ومحمد بن عبدالله ثيابا خضراء اللون، ابن جمعة كان يرتدي حذاء جلديا أمريكيا اشتراه من زنجبار، أمرني ابن النعمان أن هيّا، فتبعتهم، قال: نحن مدعوون لزيارة مرسى وحوض الأسطول الحربي.
حملتنا أربعة قوارب حربية إلى ميناء الأسطول، على كل قارب اثنا عشر بحارا بملابس بيضاء أنيقة، وقف قائدهم العميد البحري يزهو في ملابس زرقاء اللون، تألقت على كتفيه النجوم والأشرطة المشغولة بالخيوط الذهبية، نزل بخطى عسكرية متجها إلى قلعة تسمى جاردن، رأيت رجلا - قيل ان اسمه رينشو - يتجه صوبنا محييا أحمد ومن معه، قدّمهم إلى العمدة وأعضاء مجلس المدينة الراغبين في مرافقتنا، دخلت القوارب الأربعة في صف واحد حوض الميناء الحربي، رحبت السفينة كارولينا الشمالية بالضيوف مطلقة ثلاثة عشر مدفعا، حالما اقتربنا منها توقفت مجاديف السفينة، صعدنا إليها، بدا الألم على أحمد بن النعمان واضحا، تورمت احدى قدميه، رأيته يهبط إلى الأجزاء السفلى من السفينة، عرّج أولا على الوحدة العلاجية، أخذه القبطان إلى قمرة داخل السفينة ليرتاح.
أمضيت يومي متنقلا بين إدهاشات نيويورك، شاهدت سفينتين حربيتين كبيرتين اسمهما فرانكلين وواشنطن، قيل لي إن كلا منهما تحمل 74 مدفعا، أخذونا إلى مصنع للصواري وآخر للحبار، وعلى قاعة اجتماعات عامة رأيت صور رؤساء أمريكا السابقين.
حينما حلّ موعد الغداء رأيت صحونا لا عد لها، وأطعمة لا أعرف أسماءها، وجاء بعد الطعام الشهي مشروبات وحلويات ساخنة وباردة، رأيت المحمدين صامتين، فضحهما ضعف معرفتهما للغة أهل المدينة، حاول الجالسون جرهما إلى الحديث إلا أنهم يجيبان بكلمات قليلة ويتمسكان بالصمت المريب. أما أحمد فأعجب الحضور برقة تعامله وطيب حديثه، محمد بن جمعه تناقضت الرؤية تجاهه، ذكاء وسذاجة، باغته أحدهم بسؤاله عن الفرق بين نساء العرب ونساء أمريكا فتحدث عن نساء بلاده بأدب كبير، متجاهلا المقارنة.
اقترب أحمد من نافذة ليرى أين موقع الشمس، عاد قلقا، أشار لمحمد بن جمعه بأن الشمس توشك على المغيب، فطن لصلاة العصر، نهضنا جميعا، توضأنا واتخذنا مكانا في بهو المكان، أقمنا الصلاة، في ذهني تخيلت الأمريكيين يقفون متفرجين على ما نقوم به، أمضينا الوقت بعدئذ في حديث طال حتى حفل المساء، اكتملت الليلة بأجمل الأمسيات، وبتنا في بيت العميد البحري.
قال أحمد إن رئيس سكة حديد في جزيرة تدعى لونج ايلاند يدعونا للسفر بالقطار، استمع الضابطان لحديثه، تغمرهما سعادة حقيقية، كأنهما ليسا من كان على ظهر سلطانة يواجهان مخاطر لا حصر لها، يأكلان ما أبقته الجرذان والصراصير مغليا بماء آسن، قال أن الموعد بعد أيام، أراني الدعوة، صباح السبت 23 مايو، حتى إذا حانت الساعة المترقبة حملتنا الخيول إلى محطة سكة الحديد في منطقة اسمها كلينتون، واقعة في جزيرة لونج أيلاند، رأيت فيمن رأيت العميد رانشو ومستر جورج باركلاي، الوسيط الإنجليزي المصاحب لابن النعمان.
تقدما أحمد بن النعمان حينما وصلنا إلى المحطة، رأيت نساء في حشد كبير يترقبن مشاهدة العرب القادمين من مكان يجهلونه، سمعت العميد رانشو يحادث احمد بأن القطار سيقوم برحلة خاصة من أجلنا، هناك قطاران يسيران بانتظام يوميا، ركبت العربة المطلية بأصفر فاتح، لم يكن معي أحمد بن النعمان أو أحد المحمدين.. صوت المدخنة الضخمة يغيّب سكون المكان الآسر، تندفع أدخنة كثيفة من فوهتها، قالوا أن المسافة 28 ميلا، سرنا في ساعتين تمنيت لو طالا أياما، بدت لي أمريكا جميعها تعرف وصولنا إلى هذه المدينة، من النافذة رأيت المزارعين مصطفين يلوحون لنا، في عيونهم فضول كبير لرؤيتنا، العرب مختلفي الملامح والهيئات.
قبل الظهر وصلنا مدينة صغيرة اسمها جامايكا، علينا النفاذ من الحشد الكبير، اقتربت امرأة في يدها باقة ورد، ترقبتها أن تعطيها أحمد بن النعمان، الأمير العربي القادم من وراء البحار، قدمتها لمحمد بن عبدالله، غمزه العميد رانشو، نعته بصاحب الحظ الجيد لدى نساء أمريكا، بين خجل رأيته للمرة الأولى على وجه ابن عبدالله وشعور بالانتشاء قرّب باقة الورد من وجهه آخذا نفسا عميقا من رائحة الورد المبلل بقطرات ماء، بدا المشهد موحيا، لكن الخطوات أخذتنا إلى البعيد عن الجمع المتكاثر، أخذونا إلى فندق المدينة، استقبلونا بترحاب شديد، لم أجد إعجابا كالذي رأيته في كلمات ابن النعمان يصف مزرعة تدعى دبيستر أوجدن، بدت لنا كقرية صغيرة داخل مدينة صغيرة.
اقترب مزارع وفي يده باقة ورد، خمّنت أنه سيعطيها أيّا منا عدا محمد بن عبدالله القابض على باقة الورد السابقة، لكن المزارع خمّن أمرا آخر غير ما رأينا، اقترب من ابن عبدالله وأهداه باقة الورد، مازح العميد الضابط المحظوظ بأن يرمي الباقة الأولى، احتضنها محمد رافضا الفكرة، نال التصفيق ممن حوله، وأولهم العميد رانشو.
في طريق العودة توقف القطار، تساءل أحمد: لماذا؟
ضاحكه العميد رانشو: لنسقي الحصان.
رأى رانشو التعجب في وجه أحمد.. شرح باختصار أن القطار هو الحصان، وغلاية القطار تحتاج إلى الماء كما هو الأمر لدى الحصان.
أعجبني ذكاء العميد، قرّب إلينا الصورة كثيرا، قدمها لنا من بيئتنا، ضحكت في خاطري، لاح لي قوله إن الجمل بحاجة إلى الماء، خالجتني فكرة أخرى، الجمل يستطيع التحمل في صحراء لاهبة كالتي لدينا، إنما في نيويورك فأمره مختلف.
قبل أن نصل إلى نقطة نهاية رحلتنا توقف القطار مرة أخرى، طلب العميد من أحمد والضابطين التعرف على كيفية عمل القطار، سرت معهم تابعا، دخلوا غرفة صغيرة يجلس فيها ما أسموه بالسائق، كانت الحرارة شديدة، طلب منا أحدهم الخروج من القطار ليروا كيف يسير القطار، تحرك السائق بمركبته ببطء شديد لندرك كيف يتم ذلك، صاح رانشو:
- يا سيد أحمد، هل تستطيع خيولكم السير بهذه السرعة كما يفعل قطارنا؟
- نعم يا سيدي العميد.
- حقا؟!!
- نعم، وأسرع من ذلك، ولكن، (صمت برهة) لكن لدقيقة أو دقيقتين.
أعجبت العميد روح النكتة لدى أحمد، المحمدان يفتشان في الحديد عن كيفية هبوط أقدام القطار على القطع المتوزعة بإحكام.
وصلنا منطقة أخرى تدعى هايكفيل، واجهنا حشد الناس مرة أخرى، سرنا باتجاه فندق كبير يقولون إنه المركزي في المدينة، سنترال جراند أوتيل، كانت مائدة أخرى كبيرة تنتظرنا، رأيت نفسي آخذ مكانا في وسط الكراسي الملتفة على طاولة كبيرة، بدا أحمد يغض الطرف عن الخمور المتوزعة في معظم أجزاء الطاولة، فجأة صاح أحدهم: لنشرب نخب ضيوفنا العرب، تناولنا كؤوس العصائر رافعين إياها كما فعلوا مع كؤوس الخمر، ضجّ المكان بضحك كأن الحياة بالغة الصفاء لا همّ يعتريها.

##

صبيحة يوم أخذني ابن النعمان من يدي، قال: انهض، فتبعته دون استفهام عن الوجهة، دخلنا مخزن السفينة، قال انه علينا أخذ هدايا السلطان للرئيس الأمريكي، أحصيتها في ذهني وهي تنقل من أمامي بوساطة رجال أشداء تخيلتهم قادرين على رفع السفينة كاملة: فرسان عربيان من أفراس السباق النجدية، وعقد من اللؤلؤ، وحبتان كبيرتان من اللؤلؤ رأيت الواحدة منها على شكل الكمثرى الكبيرة، نحو 120 قطعة من الأحجار الكريمة الملونة اللامعة، وسبيكة من الذهب الخالص، وسجادة حريرية فارسية الصنع، وزجاجة من عطر الورد وبعض من مائه، وست عباءات كشميرية مطرزة، وسيف مرصع بالذهب.
لا أعلم كم غبت في مشهدية الهدايا، باغتني ابن النعمان بالقول أن انهض، وضع يده على يدي ساحبا جسدي من أمام ما أدهشني، وصولا إلى مجلسه، رأيت من ينتظره، رجل بملامح شقراء وشعر يفيض من رأسه حتى كتفيه، قال: انظر يا أيها الفتى، هذا هو موني، رسام مشهور، ينقل ملامح وجهك على ورقة أمامه، فترى نفسك كأنك أنت، انه لا شك بارع جدا.
جلس ابن النعمان أمامه بسكينة وأخرج الرجل ورقة بيضاء كبيرة، وأخذ يتأمل الرجل الجالس أمامه بتلك السكينة الجامدة، والرسام يضرب بلطف على الورقة.
سألت أحمد بن النعمان: هل حددوا موعد مقابلتكم الرئيس الأمريكي؟
لم يجبني، ظهرت عليه معالم الحيرة، رغم كل هذا الاستقبال والاحتفاء إلا أنه لا أمل في الأفق ليطلبنا الرئيس لمقابلته، ونسلمه رسالة سيدي السلطان وهداياه.
رأيت صورة أحمد بن النعمان، الحيرة أخذتها الصورة أيضا، العيون الحيرى، والوجه المزحوم بحثا عن وجهة في بلاد لا يعرفها، بين يديه رسالة سيده وهداياه، فاجأني أن عرض عليّ رسم صورتي، قلت له أريده أن يرسم صورة سيدي السلطان، قال أنه لم يره ليفعل، قلت له: سأصفه له، كما يتراءى لي كل حين.
ضحك الرسام، أغلق صندوقه طاويا أوراقا بيضاء، حتى إنه نسي النظر إليّ مرة أخرى، خارجا من مجلس ابن النعمان.
التفت نحوي أحمد، بيّن لي: الرئيس هنا ليس كشيخ القبيلة معنا، يقوم بواجب استقبال ضيوف قومه مهما كان شأنهم أو انشغاله.
بعد أيام رأيتني مع أحمد بن النعمان ومحمد بن عبدالله ومحمد بن جمعة ومعنا أعضاء مجلس المدينة نتجول في المدينة، ورأيت الدهشة في وجه ابن النعمان وهو يرى مهارة الصم والبكم والعميان في الفنون والعلوم، ورأيته ينبهر بأطفال يتعلمون في ما يسمونه مدارس ويلعبون على آلات قيل إنها موسيقية.
لا أدري أيّ حلم أمضيت فيه يومي، كل جديد أراه أشعر أنني أولد من جديد، يأتيني قول السلطان سترى ما لم تر، ربما ما لن أر، ركبنا قوارب أخذتنا إلى ما يسمونه إصلاحية، وإلى حديقة واسعة في جزيرة بلاكويل، قالوا: إن ما نشاهدهم متسكعين لا يجدون صنعة في أيديهم، ضحك مرافق لنا، وقال: إن بينهم من يدعي الفلسفة، رمقه أحمد بن النعمان بنظرة واسعة، كل ما رأيت أروع من أن يصدقه عقلي.

##

كانت السماء تنذر سطوتها على الفضاء المفتوح فوق زرقة البحر، سواد يتكاثف، هبطت بخوف إلى قاع السفينة، وقفت أرى هدايا الرئيس الأمريكي لسيدي السلطان سعيد، ما أجمل الزورق البحري وما أفخره، أنيق يليق بحضرة السلطان، لم أعر الباقي الكثير من الاهتمام، أسلحة نارية ضمنها أربعة مسدسات وثماني بنادق وذخيرة ومستلزمات لها، قرأت على أغطيتها جملة تقول: "هدية من رئيس الولايات المتحدة الأمريكية إلى إمام مسقط"، شدتني مرآتين كبيرتين عليهما سيماء الثراء، رأيت بين الكتب المهداة ما قيل لي أنه الكتاب المقدس، عددت بضعا من النسخ، أخذت عجبي معي، مبتعدا عن السفينة المستعدة للإبحار عائدة إلى حيث السلطان ينتظرها بصبر يعرفه السلاطين جيدا.
نسيت أغلب أشكال الهدايا وأسماءها، تذكرت ما قيل أنه حلوى طبية، مختوم عليها باسم شركة أوستن تشيرمان، أرسلت صندوقا معدنيا كبيرا من أجل الدعاية لإنتاجها، به أدوية ضد ديدان البطن والصداع والحموضة ونزلات البرد.
اندسست بين البضائع، كأني أبحث عن المثير في الحكاية، جوهر لم يظهر أبدا خلال هذه الرحلة، تمنيته لأريه ما رأيت، وأسمعه ما سمعت، أصوات خفيفة تنسلّ في الضوء الخافت داخل المخازن، العمّال يجوبون الأمكنة الباهتة الضوء والرطبة، لا يرى المرء إلا عيونهم تتحسس الأشياء كأنهم يتأكدون من أن كل شيء كما يريده سيدي السلطان، أبواب تصرّ من حيث لا أعرف، أخرى تنغلق بقوة الريح من حيث لا أرى..
تأتيني مطرح في بقعتي البعيدة تلك..
بحرها وسوقها، وجبالها وقلعتها، أكاد أتبيّنه صوت الأذان في مسجد طالب، ونداءات شعبان في الدروب المتربة قريبا من مرجل الحلوى يخلط محتواه بيدين قويتين تقاومان صهد السمن المغلي والسكر المذاب، أكاد أشمّها رائحة الحلوى، وضحكة شعبان المتجلّية بما يذكرني بجوهر.
مطرح قصيّة، تتناءى شيئا فشيئا، أراها في أقصى حدود الذاكرة، يقترب مني وجه سيدي السلطان، في العتمة أتبيّنه، بين مدّين من نور وإعتام أتحسس طريقي إليه، تقترب مني زنجبار، كبساط سحري تقترب وفي وسطه يجلس سيدي السلطان على كرسيّ من الخيزران، صوت المطر في خارج السفينة يدفعني للنهوض من هبوطي نحو غيبوبة لذيذة، كلمات السيد وقصف الرعد، تحملني أقدامي إل سطح السفينة، نيويورك غارقة في سحابة سوداء، أركض باتجاه المرسى، لا أدري إلى أين، لا أحمد بن النعمان في مرأى بصري، ولا المحمدين، ولا حتى صالح أو صهره.. جميعهم اختفوا من الوجود أمامي، وجوه أهل المدينة تتدافع باحثة عن مأوى يقيها من المطر المندفع بريح تكاد تقتلع كل شيء.
عشر ساعات متواصلة من المطر والرعد والبرق، سمعت عدد من السكان يقولون أنهم لم يروا في حياتهم مثل ذلك، سقطت صاعقة على السفينة سلطانة، اهتز جسم السفينة وصواري المؤخرة، ووصلت إلى مؤخرة السفينة فكسرت الطرف المرتفع منتهية إلى الصندوق المعدني الموضوع فيه القارب فشقته نصفين، تبيّنا لاحقا ما خلّفته الصاعقة، محمد بن عبدالله وبحّارة آخرون أصيبوا، تخيّل أحدهم ما كان سيحدث لو أن الصاعقة تأخرت بعض الوقت، وكان على السفينة سلطانه البارود الذي حمّل بعد هدوء العاصفة.
كانت المدينة مأخوذة بما حدث، أكثر من عشر سفن تأثرت بالعاصفة، كنيسة تدعى سانت بول أصيبت بالدمار.
بأسى وقف أحمد بن النعمان ينظر إلى السفينة، حسرة عميقة تكاد تطفر الدمع من عينيه، منعه من البكاء حياؤه، أرسل العميد رانشو مجموعة من رجال البحرية لإصلاح الدمار الواقع على السفينة.
في الأيام التي لا أجد فيها من أحدثه أذهب إلى الميناء أتأمل السفينة سلطانة، هاجعة بعظمة استشعرها داخلي، وإن بدت صغيرة مع مجاوراتها، جلجلة حديث العمّال الآخذين بإصلاحها، هبّت نسمات منعشة، طيور لا أعرف أسماءها تتقافز بخفة جميلة، لم يبق الكثير من العمل لإنجاز إصلاح سلطانة، لكن أحمد بن النعمان يبحث لها عن قبطان يمضي بها بين أمواج المحيط والبحار، نحو زنجبار، حيث السلطان يترقب، سمعت أن وليام سليمان فصل البحارين الفرنسيّين، أغضب ذلك ابن النعمان، يدرك أيضا أن البحارة لا يحترمون وليام سليمان.

##

السفينة سلطانة جاهزة للرحيل، أصلحت أحوال أخشابها وأشرعتها البحرية الأمريكية، هبط رجال الجمارك من على السفينة، البشاشة ناطقة في محيا أحمد بن النعمان، مما عزاني قليلا عن غياب جوهر، أو مستر جوهر كما يشتهي أن ينطق اسمه، كانت كومة من الصحف بين يديه، خلع عمامته قليلا عن رأسه، بدا بعض بياض في مفرق شعره لا يشي بالعمر الحقيقي لابن النعمان، فرد مجموعة أوراق، وقال: هذه الصحيفة اسمها بوبمي جازيت، أنظر إلى عدد سبتمبر منها، رأيت ما توهمت أنني أعرفه، سبتمبر 1833، قرأ ابن النعمان بصوت الواثق من نفسه: في السبت الماضي 31 اغسطس دشنت سفينة جميلة تزن 312 طنا بنيت لإمام مسقط، وهي في منتهى الجمال، كما أنها مزودة بطاقم أشرعة ممتاز وقد وصفها القبطان قائدها بأن أشرعتها كانت تحتضن الريح وتوجه بها السفينة إلى حيث تريد.
رأى غفلة مني، ذاتي لا تعرف إلى أين اتجه الفكر بذاتي.. قربني إليه، وقال: يا هذا، لا تأخذك الحيرة، كتب هذا الكلام قبل أن نأتي، منذ نحو سبع سنين تقريبا، أما ما كتب حينما كنا في نيويورك فدعني أفتش لك عنه، هل تعرف أيها الفتى أن نيويورك مدينة كبيرة صاخبة، وعدد سكانها 320 الف نسمة، وفي مرساها ترسو نحو 185 سفينة، وبها عشر صحف كالتي تراها أمامك الآن، دعني أبحث لك عن الأخبار التي تخصنا، هذا الخبر عن مشكلة استقلال تكساس، هل تعرفها؟ اكيد أنك لا تعرفها، أما هذا الخبر أيضا عن مشاكل الهنود الحمر في فلوريدا، هذه ولاية في أمريكا، أممم، دعني أرى صحيفة هيرالد تريبيون، اين المراد فيها، أين، أين؟ أممم، هذا هو الخبر، مفاجأة مثيرة حقا لنا نحن الأمريكيين، أنظر، إنها تقول عن السيد سعيد بأنه شخصية مهمة، وتشبهه بمحمد علي باشا في مصر، دعني أقرأ لك ما تقوله صحيفة البوست المسائية، انها تكتب عن مساعدة السفينة سلطانة للسفينة الأمريكية بيكوك حينما جنحت في مصيره، انها تشير إلى أنه مقابل ذلك تتحمل البحرية الأمريكية صيانة السفينة سلطانة على نفقتها طوال فترة وجودنا في أمريكا.
بحث ابن النعمان بين الأوراق عن شيء يعنيه تماما، حدثني بقوله: كانت هنا جريدة نيويورك الأمريكية، أين هي، ربما أخذها هذا العربيد وليم سليمان لعنة الله عليه .
أمضى أحمد بعض الوقت يفتش بين أوراق الصحف، فجأة غمرت وجهه سعادة مفاجئة، قال: هذه ما أعني، تقول الصحيفة بأنه يجب على الحكومة الأمريكية تقديم كل التسهيلات لهذه السفينة لتنشيط العلاقات التجارية مع السيد سعيد ومع العالم الجديد، نعم يا أيها الفتى، لقد احتفوا بنا بشكل طيب جدا، ولم أتوقع هذا الاستقبال الكبير لي، آآه، نسيت أن أخبرك بما كتبوه عن هدايا السلطان إلى الرئيس الأمريكي، دعني إذن أخبرك.
سمعت أحمد بن النعمان يضحك، قال أنهم احتاروا فيها..
انظر إلى ما كتبته صحيفة تسمى الهيرالد، قالت على لساني إنني قلت عن وليم سليمان إنه رجل سيء وأود التخلص منه، وإنني أرغب بقبطان أمريكي يقود السفينة، حقا إنني لم أكن أرغب فيه، فرحت عندما رأيته يغادر نيويورك إلى لندن، أعطيته مرتباته مقدما لأعود بدونه.
سألته عن القبطان الجديد، قال أحمد إنه يدعى ساندوتش درنكر، لا يزال صغيرا في السن، عمره 32 سنة لكن سمعته كبيرة في عالم البحار، دعته حاجته إلى المال لكونه تزوج حديثا أن يقبل بقيادة سلطانة إلى زنجبار، اسمع ما ذكر هنا، يا لهذا الكاتب الخبيث، كتب أن سبعة من بين طاقم السفينة يقال إنهم من العبيد اختفوا في المدينة، لا يفوتهم أمر، إنما أعجب من أن الصحف الأمريكية المتحدثة عن العبيد ومسألة الرقيق تجاهلوا أمر السفينة، شغلتهم السفينة سارة آن التي أرغموها على الاتجاه إلى ميناء نيويورك بحجة أنها كانت تنقل الرقيق.
- لكنك ذكي يا ابن النعمان، دفعتهم لحراسة السفينة خاصة قبل الإقلاع، رجلا الشرطة كانا يراقبان العمال ليل نهار.
- إنما لا أمان لهم، بعد أن غادر الشرطيان السفينة قفز بحاران إلى الماء، وأعادوهما بالقوة، لديهم قرار بمنع أيّة عملية فرار من سفن الدول الصديقة المتعاملة مع الولايات المتحدة، لو كان الأمر كما يشتهي البحارة لعدنا أنا وأنت فقط، وربما درنكر لقيادة السفينة.
- هناك المحمدان، محمد بن عبدالله ومحمد بن جمعة، ولا تنس صالح وصهره ماجد.
ضحك ابن النعمان محيلا دفّة الحديث باتجاه أبعد، قال: انظر إلى كيف كتب رئيس أمريكا اسمي، سماني أحمد بن هامان، رأيته يتمعن في الرسالة متعجبا، قلت له: اطلعني على ما في الرسالة، أنا من أوصاك به السلطان رعاية، ردّ: اسمع يا بني وأحفظ سرا أستودعك إياه.. تقول الرسالة الأمريكية إلى سلطان عمان وزنجبار..
إلى صاحب السمو سعيد بن سلطان، إمام مسقط، من مارتن فان بورين رئيس الولايات المتحدة الأمريكية.
بعد التحية،
أيها الصديق العظيم والحق..
تلقيت من أحمد بن هامان قائد سفينة سموكم "سلطاني" ببالغ الرضى رسالة سموكم المؤرخة 13 شوال للسنة القمرية 1255، وقد كانت هذه الرسالة مبعث بالغ السعادة عندي، ولرغبتي في تأسيس تبادل تجاري مستمر ومفيد بين دولتينا فإني آمل أن تكون رؤية سفينة تحمل علم سموكم تدخل ميناء من موانيء الولايات المتحدة دليلاً على أن هذه العلاقات ستكون متبادلة ومستديمة.
وقد بلغني أن أحمد بن هامان مكلف من طرف سموكم بتسليمي هدية عظيمة، وأنا أعتبر أن هذا دليل آخر على رغبة سموكم في توطيد علاقات سلمية [مع الولايات المتحدة]، غير أن هناك قانوناً أساسياً في الجمهورية يمنع موظفيها من قبول هدايا من الدول أو الأمراء الأجانب، وهذا القانون يمنعني من تلقي الهدية التي بعثتموها إلي. وآمل من سموكم أن تتيقنوا بأني بعدم قبول هديتكم أؤدي واجباً تجاه بلادي، وأن هذا لا ينتقص من تفهمي لمشاعر الطيبة التي كانت الدافع وراء الهدية. وأتمنى لسموكم الصحة والرفاهية، ولحكومتكم المنعة والاستقرار، ولشعبكم الطمأنينة والسعادة، وأدعو الله جل جلاله أن يحفظكم أيها الصديق العظيم والحق.
م. فان بورين [رئيس الولايات المتحدة الأمريكية]

قلت لابن النعمان: لماذا لم تزر الرئيس الأمريكي لتسلمه هداياه وتأخذ منه هدايا سيدي السلطان، وتسمع منه؟
قال أحمد: يا أيها الفتي يبدو أن ذاكرتك في نيويورك ليست هي ذاكرتك في البحر؟ هل نسيت أنك سألتني ما يشبه هذا السؤال، يومئذ حسبت بأنهم سيدبرون لنا أمر المقابلة دون أن نطلبها، لكنهم رأوا كما رأيت أنا بعدئذ أننا ما جئنا إلا في تجارة، ولم أطلب مقابلة الرئيس، كما أن سيدي السلطان لم يأمرني بطلب المقابلة، حفلات كثيرة كادت أن تنسينا المهمة الأساسية التي جئنا من أجلها، تجارة السيد.
كيف كانت التجارة إذن؟
سألته، وترقبت الإجابة طويلا، عندما رأى عزمي على انتظاره مهما طال الوقت لأسمع منه تناول دفترا له طول، وقال: أعطينا مؤسسة باركلاي ولفنجستون الوكالة التجارية لبيع ما جئنا به برسوم بلغت 5 بالمائة، ولها 2,5 بالمائة لما سنشتريه عن طريقها، وقامت هذه المؤسسة بنقل بضاعتنا إلى مقرها كما رأيت، وأعلنت عنها لمن يريد معاينتها قبل الشراء.
قلت: أعرف ذلك سيدي، إنما هل تشعر بالرضى عما تم؟
قال: بعنا القرنفل بسعر بين 19 و20 سنتا للرطل، وجاء تجار من فيلادليفيا وبوسطن فأخذوا كميات من التمر، يقولون إنهم سيرتبونه بطريقة أفضل، ويصدرونه إلى أسواق غير أسواقهم، أما العاج فكان سعر السن الواحد 75 دولارا، ولم يحيرني إلا أمر السجاد العجمي والجلود والبن، لم يقبل عليها أحد، وخفضنا أسعارها لنتمكن من بيعها قبل أن نغادر المدينة، خلاصة الأمر يظهر هنا، أنظر الى الرقم المكتوب هنا، بعنا البضاعة التي على سلطانه بقيمة 26 ألفا و957 دولارا.
سألته مرة أخرى عن بضاعة عادت بها سلطانة، بدا أحمد بن النعمان مشغولا بأمر آخر، أعدت إليه السؤال..
- لماذا تكثر من الأسئلة؟
- أريد أن أعرف.
- ولماذا تعرف؟
- لأفهم.
- وماذا ستفهم لو قلت لك إننا نقلنا ذهبا أو حجارة على ظهر السفينة.
رأيت الحوار ينأى بعيدا عن صلة الصحبة بيني وابن النعمان، صمت قليلا، كان يرقبني محاولا مداراة أنه يفعل ذلك، كأنه راجع نفسه في أمر لا أعلمه، ثم تكلم: ما جئنا به يمكنك أن تعتبره ثلاثة أقسام، قسم سيباع في أسواق زنجبار، وأرباحه لخزانة سيدي السلطان الشخصية، وآخر لنجله السيد خالد، وأخرى لسعيد بن خلفان وبعض من تجار زنجبار.
قلت له: زدني فهما، ماذا يهم أسواق زنجبار وجئتم به وترون أنه سيحقق أرباحا لخزانة سيدي السلطان؟
قال: أيها الفتى ثقيل الأسئلة، 125 بالة من القماش المريكاني، وأخرى من قماش أغلى من النوع الأول وجئنا أيضا بـثلاثة عشر كيسا من الخرز الأحمر والأبيض والأزرق، وأطباق خزفية.
قلت له: ألا يوجد سوى قماش وخرز وأطباق؟
رد بعصبية: إما أن تتركني أكمل حديثي أو أتركك تكثر في أسئلتك.
قلت معتذرا: لك الحق في ذلك سيدي.
قال: جئنا بثلاثمائة بندقية تقليدية، قيمة الواحدة أقل من 3 دولارات ونصف الدولار، و25 كيسا من البارود، بثلاثة دولارات إلا ربع، وبلغ قيمة هذا القسم كما ترى، ولأقطع عليك سبيلك لسؤال آخر، 11177,56 دولارا.
قلت متجاوزا صدى غضبته: لهفتي كبيرة لمعرفة ماذا أحضرتم لاستعمالات سيدي.
رمى لي ورقة وقال بها ما تريد معرفته.
قرأت الورقة بتمعن.. أربع بنادق مزخرفة، قيمة الواحدة سبعين دولارا، كمية كبيرة من الشمع، صناديق من خيوط الذهب، 20 رزمة ورق كتابة، 50 صندوقا من السكر المكرر، صندوقان من آنية الزهور، صندوق من زجاجات العطور، عشر علب موسيقية، صابون أحمر، مرايا، خزف، زجاج خاص، صناديق حلويات ولوز وشراب أناناس وبرتقال، كيس فواكه مسكرة، القيمة الإجمالية: 3681,25 دولار.
أنهيت قراءة الورقة، فاجأني أحمد بن النعمان وقال: انظر للورقة جيدا لتعرف مشتريات السيد خالد أيضا حتى لا تسألني مرة أخرى، لن تجد إلا مرايا وشمعدانات وزجاج ومصابيح قيمتها 505 دولارا تقريبا، وستسألني حتما عن بضاعة التجار في زنجبار وأولهم سعيد بن خلفان فإنني اقترضت أكثر من 473 دولارا لتغطية الفرق بين ثمن بضاعتهم التي جئت بها من زنجبار وهذه التي أنقلها إليهم في سلطانة.
رأيت خزانة اشتريتها من نيويورك؟
أثار سؤالي ريبة في نفس ابن النعمان، لكنه قال بعد أن فكر وقدر الأمر أنه يضع فيها نحو أربعة آلاف دولار صافي المكسب، ولن أخبرك المزيد، حسابات معقدة وأشياء مما تبصره العين فيستوعبه العقل، وأخرى لا تراها العين لكن العقل قد يصدقها وإن لم يستوعبها.
تذكر أحمد بن النعمان قصة بدأها ثم شعرت أنه ندم على ذلك، كنت أعرف تفاصيلها، حينما رأى أحمد أن هناك رياحا غربية يمكنها دفع السفينة إلى خارج الميناء وتوفير تكاليف قطرها الـ62 دولارا، خالفه الرأي أهل البلاد، لأنهم أعرف بمينائهم.

##

تلاشت نيويورك في المدى الضبابي وراءنا، استعادت السفينة سلطانة عافيتها، إبحارها بدا أقل إغواء عن طريق الذهاب، مبحرة كانت من المعلوم للمجهول، بدأنا في الطريق المعاكس، تركنا المجهول وراءنا، هناك مملكة السيد وسطوته، هبوب الرياح يدفعنا بقلق المستوي على ماء لا حافّة له، رأينا السفينة التجارية الضخمة جريت وسترن، مفخرة الأسطول الأمريكي العابر للأطلسي، أطلقت سفينتنا الصغيرة ثلاث صفارات تحيي ملك البحار، وردت السفينة العملاقة التحية بمثلها كأجمل لحظات وداع نيويورك.. كانت ضخمة جدا، بدت سلطانة بجانبها كقارب صغير ، أمعنت النظر في ملكة البحار، وهي تسمع الصفارات الثلاث، وتخيلتها تبتسم في عظمتها، مودعة شقيقة صغرى تغيب في زرقة متمددة حيث لا يرى المرء إلاها.
استوى مستر دنكر على كرسي قيادة سلطانة، صعدت إليه أتأمل الفارق بينه ووليم سليمان، سألته عن الرحلة، نظر إلي بما يوحي أنه طيب، قال اقترب فاقتربت، حدثني بأنه سيتجه بالسفينة اتجاها شرقيا مباشرا لأقصى مدى يمكن أن تبلغه قبل أن ينحرف بها صوب الشمال الشرقي مع اتجاه الريح السائدة في المنطقة ما بين خطي عرض 12 و28 درجة شمالا.
حسبني فهمت، لم أزد، إنما صعدت أبحث عن أحمد بن النعمان، بدا وكأنه اختفى من السفينة حيث قدّرت ساخرا أنه فرّ أيضا من السفينة سلطانة وقد أعجبته المدينة العجيبة التي خلّفناها وراءنا للتو، ضحكت من خاطري الساخر هذا، تجلّدت الضحكة شيئا فشيئا، خشيت أن تتحول إلى بكاء فاضح، رأيت بابا خشبيا في السفينة مغلقا، سقطت أخشاب الكون على رأسي، كدت أتهاوى، أو أنني تهاويت ولم ألمح نفسي في ضباب روحي جيدا.
أيام رتيبة، داخلنا ملل قاس حدّ التوتر، بين غضب الطبيعة وسكونها سارت سلطانة فوق الماء لا تكاد ترى سفينة غيرها تقاسمها سطوة الزرقة.. نمر بأيام لا أثر لهبوب فيها، وحينا تهب عاصفة تكاد تقتلع الصواري من مكانها لولا سرعة تصرف الرجال الأشداء عليها، محوّلين اتجاهها بما يمكّنها من استيعاب العاصفة، لم تكن رياح الجنوب الشرقي لصالحنا، كانت في اتجاه الغرب أكثر فتبعد سلطانة عن الخط المعتاد لطريق رأس الرجاء الصالح.
ذات يوم عشنا فرحة صغيرة لكننا ضخّمنا بهجتها، أخيرا رأينا سفينة في عرض البحر، جون كالين القادمة من ميناء كانتون الصيني، قيل أن آخر عهدها باليابسة الصينية كان منذ 117 يوما، تتجه إلى نيويورك، رأيت من يعطي أحد الرجال عليها بطاطس وتبغ وجراب من التمر.
لمحت دنكر من بعيد، يبدو أطيب مما عرفته في سانحتنا الأولى، قلت لنفسي ما عجزت أن أقوله للقبطان الجديد المتمسك برزانة القائد، يوما بعد آخر تجتمع القلوب عليه، خاصة من أحمد بن النعمان والضابطين محمد بن جمعة ومحمد بن عبدالله.
رأيت درنكر ذكيا أيضا، خفف عن بحّارته أسابيع الملل، قال لهم أن الجمعة سيكون يوم أجازة لا عمل فيها، أما يوم السبت فعوّدهم على ذبح خروف، كبرت همّة البحّارة، وتفجّر نشاط في السواعد وهي تقاوم العواصف وعلوّ الأمواج.
اقتربت من درنكر كثيرا، رأيته يكتب أشياء لا أفهمها على أوراق يجمعها في صندوق صغير، ضحك بحملقتي فيما يكتب، قال: لو تحفظ السر لأطلعتك على ما في هذه الأوراق، إنها يومياتي الخاصة، قلت له: ثق بي.
بدأ يقرأ من ورقة ما في يديه: لقد وجدت نفسي أعمل قائدا ومساعدا وكل شيء آخر.
فهمت أنه أدرك بعدم حماسة أفراد الطاقم للعمل والتعاون معه، قال لي أنه ليس خطأهم، اعتادوا على إدارة وليم سليمان.
رأى مقدار اهتمامي، ومشاركتي لهواجسه، أخذ ورقة أخرى، يقرأها وكأنه يترجمها إليّ باللغة العربية: قضى الضابط الأول محمد بن عبدالله معظم الوقت وخاصة في الأسابيع الأولى نائما وكأنه قد تحول إلى جثة هامدة، الشخص الوحيد الذي استحق التقدير من جميع الضباط والبحارة هو الضابط الثاني محمد بن جمعه رغم أنه يعاني من ألم في إحدى قدميه نتيجة إصابته بدودة غينيا، يضع الضمادات عليها من وقت لآخر.
بحمحمة واضحة أثار محمد بن جمعة خبر وجوده قريبا منا، كأنه خشي اطلاعه على ما لا يراد له، حاور درنكر في درجة انحراف الشمس من أجل تحديد خطوط الطول والعرض، صاح درنكر: يا الهي، أنت يا جمعه رجل طموح، بتّ تعرف لوحدك موقع السفينة بدقة متناهية.
طوال الرحلة لم يكن غريبا رؤية ابن جمعه يقود السفينة متناوبا مع درنكر، رأيته في لحظات كثيرة يقرأ من كتاب أعطاه إياه القبطان الأمريكي، كتاب الملاح العملي، في أيام تلت رأيت ابن جمعه يعلم البحارة الآخرين مبادئ الملاحة البحرية.

##

ملوحة البحر تصل إلى حلقي..
فمي بطعم الذكرى..
والأمكنة التي تناءت، الوجوه التي بعدت.
أطياف تحوم بي.. مئذنة مسجد طالب.. صوت الأذان حينما يزحف الليل على حارات مطرح ودروبها.. الكلاب النابحة في وجوه الغرباء.. الرغيف الساخن في يدي.. الباب الخشبي المغلق.. لا تفتحه القابعة وراءه.
أطياف تحلّق بي، سيدي السلطان بعمامته ونظرته يصوّبها نحوي، صوته، وجه خولة، نظرتها التي سكبتها في عيني، الطفلة سالمة تتقافز بين يدي أمها تسير بها بين البحر وباب بيت الساحل.
غرقت في بحر بعيد محدقا في محيط تصطخب أمواجه أمامي، اتكأت على الحاجز الخشبي، يصلني صوت غناء البحارة يتقافزون بين حبال الصواري.
لمحني درنكر، أخذني من يدي، وقال: ألا تريد معرفة المزيد مما أكتبه في الأوراق، تعال لتكسر حدة الإبحار وصخب الذاكرة، قلت له: أريد معرفة ما كتبته عن ابن جمعه، ردّ بنظرة جانبيّة دون أن يحيل وجهه نحوي: هو جمعه، يكفي أنه جمعه، يوم الإجازة لديكم، تعال يا صديقي، سأبحث لك عما كتبته في هذا الجمعة العجيب.
دخلت إلى مخبأ صغير يتخذه مناما له، أخرج من صندوق أنيق أوراقا وظل دقائق يبحث فيها عن بغيتي، فجأة صاح بفرحة وقال: إليك أيها الفتى ما كتبته عن جمعة، وسيبقي من بعدي وبعدك.. وبعد جمعه، انظر هنا، كتبت عنه إنه شخص كفء، يتصف بعقلية واعية نادرة مما أسعدني كثيرا، و...و... دعني أريك شيئا آخر كتبته عنه: إن جمعة في الواقع هو من أحسن الشخصيات التي التقيت بها في حياتي، وأصبحت له مكانة حب كبيرة عندي.
أخذت أفكر في أشياء تبعدني عن حديث درنكر، بدا أنه لحظ شرودي..
- ما بك يا صديقي؟.
- البحر والأسابيع والعواصف.
- تلك حياتنا، أو بمعنى آخر أن حياتنا ونحن على اليابسة لا تختلف كثيرا عما يحدث لنا هنا، فقط على ظهر السفينة ترى نماذج الحياة تعبرك سريعا، توجد جميعها في بقعة مكانية واحدة، صغيرة وموحية، وفي مساحة زمنية واحدة أيضا، لها مساحة صغيرة لكنها توحي لك بأكثر من قدرتك على ملاحقة فهمها وإدراكها.
- يداخلني الملل أحيانا.
- وأنا أيضا، إنما أتسلى بالكتابة أحيانا، سيدرك من يأتي بعدنا قيمة ما نكتب، كما أنهم يبنون على ما بنينا، دعني أقرأ لك من أوراقي ما يسليك قليلا، هل تعرفت على جون، مساعد الطباخ البرتغالي؟.
- نعم، رأيته، هل كتبت عنه أيضا؟
- بل كتبت عنهما معا، الطباخ ومساعده، أنظر، كتبت: بلا شك أنهما طباخان ماهران، ولقد كنا نود أن نستمتع بطعامهما لو أنهما كانا ينظفان أيديهما ويستعملان المنديل إذا عطسا.. تصور أنني ذات مرة طلبت إعداد صحن خاص من حساء الفاصوليا، أردت أن أتذوق الطعام المقدم لبقية البحارة.. حرص البرتغالي على أن يظهر فنه في الطبخ ليقدم وجبة يريدها لائقة بقبطان السفينة.
- كيف كان مذاقها الطيب؟
- كتبت رأيي فيها هنا، أنظر إلى هذه الخطوط، أعرف أنك لن تفهم خطي، يبدو أنه رديء، أليس كذلك؟ لا بأس، كتبت عن طبق الفاصوليا: لقد ذكرني صحن الحساء هذا بصحن يحتوي ماء قد أخذ من حوض الغسيل بعد أن تجمعت فيه كل دهون أطباق وجبات عديدة غسلت فيه من قبل.
ضحكت، شعرت برغبتي في ضحكات أكثر، أعطيت نفسي طاقتها من الضحك، بركان وجد فرصته أخيرا ليخرج مكبوتاته بالضحك، قاطع درنكر حفلة ضحكي بالقول: هل تظن أنني تركته، علمته كيف يطبخ جيدا، وكيف يصنع الخبز، وسعيت معه ليكون أحسن نظافة.
- هل نجحت؟
- ما رأيك؟.
- الإجابة موجودة في ملابسهما.
أطلق درنكر ضحكاته بقوة فاقت قدرتي على الضحك.. لم أشأ مقاطعة حفلة ضحكه، تركته يضحك، باحثا عن نجمة أشعر أنها قريبة مني هذا المساء.

##

لم أيأس من حضور جوهر في أيّة لحظة، أحاطتني ذكريات وشجن وحزن، وقفت على سارية شراع صغير، تذكرت الباب المغلق، تذكرتها، يكسرني حزني وأنت في بعيد البعيد، من يتدفأ من دمي إذا سقطت دمعتك كقطرة قهوة، سفحها فنجان مكسور؟ من يضيء العتمة، إذا تناثر ماء العين فوق ما يحتمله الوجه؟ العمر له أغنية فغني لي وأنا على البعد ارقب الزمن فلا يعبر والسماء فلا تمطر، متشابهة سماواتي، متشابهة أيامي، من بكاء هاجس في خلوة الروح، تولد النغمات فجرها، من وراء كل نغمة حزينة، تشرق شمس، تبقى ساعات الولادة طوال النهار.. حتى وهى تولي وجهها آخر الحدث اليومي، هي تكتب فجرا آخر.. بعد ساعات الليل، تلك، لا بد منها، لا يشرق العمر الا بعد اشتداد الحلكة.. حلكة الرحم، وبهجة الميلاد.
غني، لتغني الأكوان معك، حين تشتعل حنجرتك بالبوح، ستكتبني نغماتك، فرحا بعد آخر، تلك أوردتي فاعزف عليها، تلك نبضاتي.. فغنّيها.
فيما كنت أكتب الكلمات على حافة ورقة انكسر قلم الرصاص بين أصابعي، نهضت فجأة، سمعت التكبيرات.. رأيتهم يشيرون إلى بعيد هناك، رأيت يابسة، أطلت كحلم، أدركت للمرة الأولى ما معنى أن يرى المرء يابسة وقد أحاطت به المياه أشهرا لا يرى سوى زرقتها، ولا يعيش سوى عواصفها والمساحة الممتدة بين ريح وتاليتها.
بان لنا رأس الرجاء الصالح، اقتربت زنجبار إلى حد ما، هبطنا إلى اليابسة، ميناء الكاب أعطى السفينة ما تحتاج إليه، ووهب البر أرواحنا حيوية افتقدتها في أميال المسافات المائية الطويلة، حدثني درنكر أنه لم يشعر بفرحة في حياته كما سمع صيحات البحارة وهم يرون اليابسة فرحين صارخين: الأرض الأرض، لم يبق إلا القليل جدا من الماء و الزاد على ظهر سلطانة، أمضينا الأسبوع نمشي على التراب فرحين، تزودت سلطانة بالماء والطعام، واتخذت طريقها إلى أرض السلطان بعد أسبوع من الهجوع إلى اليابسة.
أقنع درنكر أحمد بن النعمان بشراء خروفين من ميناء الكاب، لم أفهم ما الذي يريده درنكر بخروفين على وجه التحديد، كان شيئا ما في مخيلة القبطان لم أدركه.
بحث درنكر عن الطباخ البرتغالي، لم يجده.. بين شعور بالغضب والإحساس بأن ما فعله خير اكتشف القبطان أن الطباخ لم يصعد إلى السفينة، مفضلا ميناء الكاب.

##

في مساء ثقيل بملله، بدا صالح كأنه خسر معركته مع حياة البحر، بدا يائسا على غير عادته، في الضوء القليل للقمر المبهج رأيت ما أحسبه دمعا، بشبه نشيج يكرر لا حول ولا قوة إلا بالله، اللهم أني أسألك الصبر، اللهم أني أسألك المغفرة والعون، اقتربت منه محاذرا كشف غلالة الألم عن قلبه، ذلك سرّه الذي يخشى عليه من أعين غريبة..
- أعانك الله على الغربة يا عم صالح.
- آمين يا ولدي، إنما ما يحزنني أكبر من ذلك.
- الأهل إذن.
- لا، لكن اليوم منتصف شهر شعبان، وبعد نحو أسبوعين سيأتي شهر رمضان.
- لكننا على سفر.
- صوم رمضان له بركة وأجر لا يعادله صوم البدل، وما أخشاه ألا يسمح لنا قائد السفينة بالصوم، كل يوم يمضي أشعر بالحسرة كأن رمضان غدا.
- أحسبه طيبا، ولن يمنع الراغب في الصوم عن صومه..
- ليقضي الله أمرا كان مفعولا.

##

بعد أيام رأيت وجه صالح متهللا مشرقا، وإن بدت العينان بذات الحزن الشفيف، قال: سيصوم الجميع.. عرفت أن درنكر سمح بذلك.
غابت شمس، جاء الصبح بأخرى، السفينة سلطانة تمضي فوق البحر لا تأبه لدواخلنا..
كأني وراء الباب المغلق ألمح خولة ابنة السلطان تخرج في لباسها المزركش، ترفع أطراف ثيابها خوف غبار الدرب المطرحي الملتف إيغالا من جامع الشجيعية باتجاه مسجد طالب، المناراتان الشامختان في ليل المدينة، فوق كل غبار ولغات تتنافر لتلتقي، وتلتقي لتحدث جلبتها.
لا طاقة لي برؤية أحمد بن النعمان، سأمت أحاديث التجارة وحكايات البحّارة، جوهر لا يأتيني بحكاية عن سيدي السلطان، خولة ماضية في البعد هناك، لا تعرفني كما رأيت في العينين عمري من أقصى ماضيه إلى أقصى غده.
استلقيت على سطح السفينة.. تحتي خشبها، وفوقي سماء حاضرة بتجلي نجومها كأنها تهوي عليّ واحدة بعد أخرى، كل هذه النجوم ولا نجمة لي وحدي!
رأيت في نومي ما أقلقني، رأيتني في حضرة السلطان، بلحيته البيضاء بدا لي وقورا أكثر من أي وقت مضى، بقامته الطويلة والناحلة تأملته، لم أجد في وجهه الرقة والحنان والسماحة اللتي اعتدتها حينما يلتقي أولاده وأفراد بيته، يذرع البنجلة، هموم تكاد تتساقط من رأسه لكثرتها، كالنجوم التي رأيتها في صحوي، بدأت النجوم في الانطفاء واحدة بعد أخرى، خلتني أسعى لجمعها واحدة بعد أخرى قبل أن يجف بريق الحياة من أعينها، سبقنا جوهر وألقى بيده الضخمة على كل السماء..
- كيف حال سيدي السلطان؟
- السلطان يعرف كيف يعبر المتاهات.
- قلبي يحدثني أنه في أمر جلل.
- بل في أمور، لكنه قوي الشكيمة عارف بأحوال القبائل.
- لكنني في البعد...
- ستصل إلى القرب قريبا، غص في حلمك لتدرك السلطان، عمّق رؤيتك لتراه.
لم أر السلطان، ولا مملكته البعيدة، ولا خولة.. فقط اصطفاقات باب ينغلق حاشرا رأسي بين ضلفتيه، يأتيني في صداي صوت أذان المغرب في مسجد طالب يلقي السكينة على روحي، يد صالح تنهضني من مكاني: تعال لنتناول تمرا وبعض الماء، السحور يا ولدي.
النهارات الرمضانية تضرب بجوع أشد حدّة من جوع الأسابيع السابقة، غابت الوجبة الواحدة والقليل من الماء الذي لا يمكن تجرعه إذ ننظر فيه، تناقصت همة العمل، السواعد التي كانت تعمل بجهد كبير خفتت قوتها، أحس درنكر بصعوبة الأمر، يوما بعد آخر يظهر أثر الصوم على عزيمة البحّارة، بعضهم عدّها فرصة للتكاسل، وعدم وجود الطعام نهارا فرض صوما على جميع البحارة، الذين أرادوا الصوم، أو الذين تمسكوا برخصة الإفطار لأنهم على سفر.

##

وسط مياه المحيط هلّ العيد، ذبح صالح الخروفين، كأني اكتشفت للتو وجود الخروفين الذين حملتهما سلطانة من ميناء الكاب، كان درنكر سعيدا أيضا، محمد بن جمعة ومحمد بن عبدالله يأتيان حينا ليتأكدا من العمل على تقطيع لحم الخروفين، فرحة غامرة أحيت الأجساد التي أنهكها سفر وصوم وفراق، وضعنا كمية من اللحم داخل إناء كبير، حدثنا صالح بمعرفته كيفية طبخ (المقلي)، أعادنا بقصصه إلى بلاده أدم، روى الباقون قصصا أخرى للعيد، حملوا العيد معهم بين أحضان البحار، يتدثرون به في غربة أوسع من الزرقة، واقسى من عواصف تكاد، حين تغضب، تحطم القلوب قبل الأشرعة.
جاء صالح بصحن كبير من اللحم وضعه بين يدي درنكر، ابتسم الرجل وسأل عن طابخه، أجابه الأغلبية بضحكات، مدّ يده وأكل القطعة الأولى، كنا جميعا نترقب كلمة إعجاب من القبطان الطيب، مرّ ببصره على كل الوجوه التي تنظر إليه وتنتظر، مدّ يده إلى الصحن مرة أخرى دون أن يتكلم، وأخذ قطعتين وضعهما مرة واحدة في فمه، ضحكنا بسعادة حقيقية، نسينا البحر من حولنا، ومشقة الرحلة على أرواحنا، ذهب صالح وأتى بصحن آخر أعطاه البحّارة.
ضحكوا كثيرا، لكن لا أحد كان يستطيع إخفاء دموع لم تستطع الأعين أن تحبسها طويلا، نهض ابن النعمان فتبعته، رأيت ورائي الجمع يتناثر، بقي صحن اللحم هناك، كأني رأيت دمعا يكسو دائرته، هل طبخه صالح بدمع حرقته وغربته؟!
السفينة تهادت قليلا على إيقاع من الفرح.. غناء لمن أراد الغناء، دعاء لمن آنس للدعاء، بساط الفرح يتسع، يفيض عن السفينة، يهبط للماء البادي كقارّة شاسعة، البحر يصفق بموجه، الرياح تداعب وجوهنا وترسل قبلاتها للصواري، كل ما في سلطانة يبتسم، ابتسمت لكن صخرة سقطت على قاع القلب، كل ما في محيطي هادر بالسعادة الحقيقية لولا غياب جوهر، البحّارة الأفارقة يهزون أجسادهم بعنف يتناغم مع صوت الطبول المنثالة عليها الأيادي القوية بقوة أكبر.
نهض ماجد وطلب منهم السكوت ومشاركته العازي، حمل قطعة خشب متخيّلا أنها سيف، سأل درنكر عن ذلك، طلب منه التوقف قليلا، هبط إلى قاع السفينة، أحضر له سيفا حقيقيا، اهتز في يد ماجد وهو يدور وسط حلقة الرجال مرددا قصيدته الحماسية.

##

فجأة حطّت كارثة على قلوب الجميع، محمد بن جمعة مات، بدت الوجوه التي كانت تقاوم البؤس والتعب أكثر تحفزا للألم والشقاء، من لم يبك في الظاهر اختفى بين بضائع وألحفة ليبكي ضابطا أحبه من على ظهر السفينة، واستوى الحب مع طول العشرة جزئية حياة لا تنفصل عن حيوات السائرين على "سلطانة".
حدثني درنكر أنه رآه يتأمل في الأفق البعيد، فجأة وضع يده على حلقه من ألم فيه، فاضت روحه فهوى في البحر، ودع سلطانة وهي تقترب من فرحتها بوصولها إلى ميناء السلطان، ألقى المرارة في حلوق محبيه، كان مستحقا ليراه سيدي السلطان، كان قائدا آخر لسلطانة.
هبّت عاصفة أخرى، كأننا اعتدنا العواصف.. المروق من فخ الموت باتجاه الحياة، محمد بن جمعه ليس معنا في هذه العاصفة .. جسده لم يعد يخشى الموت، توحّد بالزرقة المعتمة التي نخشى السقوط بين أفكاكها، وحدنا نواجه الصمود من أجل حياتنا، أن نصل إلى اليابسة، اليابسة هي الحياة، هناك السلطان ينتظر، تأتي العاصفة بغتة، وتهمد حينما نشعر بأنها لا نهاية لمعاناتنا معها، كل عاصفة تعني الاقتراب من الموت.. ربما هذا ما أشعر به وحدي.
الساعات تلوّت على معاصم الوقت الذي كاد أن يخرج أرواحنا من بين الأضلع، وضع القدر كلمة النهاية ساحبا الريح، عادت أرواحنا.
استرحنا قليلا من هيجان العاصفة، السواعد السمراء تكاد ترى الدمع ينز منها، اختفى مستر جوهر عن مدى رؤيتي، مضت الأسابيع دون وجهه، احتجت إليه كثيرا، خلته أنه وراء باب مغلق في السفينة فقدت علم ما وراءه، هاجمتني رغبة أن أذهب لفتحه، نزلت السلالم بسرعة، أنهيتها بشعور المحلق لا يطأ الخشب المعروق رطوبة ودهنا، وصلت إلى الباب..
مغلق لكن لا يبدو أمامي قفل، من أين أقفاله المانعة من اكتشاف ما وراءه؟!..
شعرت بالاختناق، وأن بابا يكاد ينفتح فأود الدخول لكن العاصفة تهب بمصادفة الدخول، ويكاد يحطم رأسي بضلفتيه، رأيتني اتخبط من الصدمة، صدمة لحلم، أو هي صدمة الباب، كأنها غيبوبة أخرى يحدثني عنها مستر جوهر حين أفقت، لم أر الباب، لم أر الحلم، لم أر جوهر حتى، إذن من أين لي بصوته ووجهه، وحدي كنت أراقب الليل، والسفينة سلطانة تتهادى، شعرت بالوحدة، كأني لوحدي وسط البحر، كان الخطو يأخذ أجنحتي، صوب المدائن المكسوة حزنا، يا ليلي الغافي على وتدي قلبي قصيدة معلقة، وكفي ريح موصدة .. وأجنحتي، مالها أجنحتي تخاصمني رؤاها!
تلك مسامات شفاهي، جافة الا من رحيق شفاهك، فالثم ضفاف جراحي واضممها الى يديك تخرج من غير سوء، بيضاء كالثلج، مزهرة كاللون.. سأكتفي بزهرتك هذا الليل، وسأطل على الموجات المتعاقبة في صداع الريح ..وحدي.
سأقول للنجيمات حكاية اللآلىء، والضحكات التي دسستها في أصدافي، عن العقد الذهبي الكبير المعلق على زاوية دكان في مطرح..
سأبوح للقمر الذهبي بأغنيات آخر الليل، وعن الباب المغلق في حارة مراوغة، ربما سيكتشف حروف اسمك، حين تردد الريح زخم الحروف.
سأخبره عن خولة.
أخبرت الوقت أنها لن تأتي، وأنها عصية على المجيء..تنازلت عن الرؤى بمحض اختياري، واحترت ماذا أسميها!
الباب الموارب في فجر يوم غفوت فيه أمامه، حل الظلام عليّ فجأة، أخبرتني العتمة عن أغنيات الليل، في غيابك تدثرت بالشتاء.. لم تبق لي بقعة ضوء، أسير بها إلى أحلامي..
لعلي أتبعك حيثما وليت، أو أرصدك كنجم ألهب السماء ألقا، وتوارى خلف حجب.
أيها المغترب هناك.. أخبر الليل أن يقذف أمنياته الأخيرة.. ويغادرني حين تبزغ في حضور بهي.. يا وطن من حلم، يا حلم من وطن، عزّت الذاكرة أن تأتيني بك، وأنت المرتحل فيها.. ليل نهار..
قاوم غيابك.. حطم جسده، كما تتحطم روحي بين انتظارات.. على البحر وعلى اليابسة، يا غائبي.. من للمسافات، بعدك، أذرعها كموج يتناسل عن موج؟!.
دعيني أحبك.. لتكتمل رحلتي.
وجه صالح يلف حول وجهي، يأتيني بالبخور، أرى في شفتيه بقايا أدعية وصلوات، يتمتم باتجاهي، ينفث في وجهي ما يخيل إلى أن الدعاء من أجلي، والصلوات من أجلي، أستحضر الكلمات: أيها الصالح.. جرحي اشد اتساعا مما تراه عيناك، هي، الواقفة وراء باب مغلق أراها كالدمعة، تحط على الجرح..وتمضي، أخشى على دمعتي من الجفاف، هي الشاهدة الأخيرة على حضور غائبتي.

##

أيقنّا أن ساحل زنجبار على مبعدة أقدام منا، تفجّر الفرح مرة أخرى، نسي الجميع البؤس والتعب ووفاة ابن جمعة.
طرت بفرح طفولي إلى درنكر، قطعت عليه خلوته مع أوراقه، بين أوراقه رأيت ورقة من صحيفة، سألته عنها، قال انها من صحيفة الهيرالد، كتبت عنكم.
كتبت عنا غير ما قلته لي قبل أسابيع؟
ألقيت عليه السؤال، كان هادئا جدا، تناول ورقة الصحيفة ببرود، قرأ لي منها: أثار العرب منذ أن جاؤوا إلى هذه البلاد الكثير من الاهتمام والعطف، وقد شاهدوا كل شيء وزاروا أماكن كثيرة غمرتهم بمختلف أنواع الهدايا، على أن ما رأوه لا يثيرهم لدرجة الدهشة إذ يبدو أن من طبيعتهم ألا يثير دهشتهم شيء، غير أنهم قد أبدوا الرضا عن ما لاقوه من اهتمام، وكانوا دائما على استعداد للتحدث وهم باسمون، وأعينهم ناظرة إلى كل شيء باهتمام.

##

وجدتني أقف على سطح السفينة سلطانة، تلقى مراسيها في المتوني، أمام قصر السلطان، سمعت كلمات الحمد من أفواه، لم يكن سيدي السلطان في زنجبار، أرادت أن تذهب إليه في مسقط لولا أنه غادرها منذ أكثر من تسعة أشهر.
رأيتني أهبط سلالم سلطانة نحو اليابسة، شعرت بثقل غريب ورائي، دعاني صوت إلى سرعة النزول، تلفت إلى الوراء، رأيته..
جوهر.


                                                      عودة