بحث هذه المدونة الإلكترونية

الأربعاء، 19 أكتوبر 2011

عندما تبوح الذات قراءة في رواية(سمر كلمات ) للأديب طالب الرفاعي د. أحمد المصري


عندما تبوح الذات
قراءة في رواية(سمر كلمات )
للأديب طالب الرفاعي
                د. أحمد المصري
القراءة نشاط إيجابي من القارئ تجاه النص وتفاعل مثمر معه يؤدي إلى إثراء هذا النص وتعدد معانيه والأخذ منه والإضافة إليه ، ولا بد للناقد الذي يتصدى للقراءة الأدبية من أن يمتلك ملكات خاصة تمكنه من سير أغوار النصوص وفك شفراتها ، فالنص الأدبي دلالة سياقية تتبدى في صورة متشطية تشع في كل جانب وما تخفيه يقدر بأضعاف ما تبديه ولا يمنح النص نفسه بسهولة إلا لمن يملك مفاتيح مغاليقه والقدرة على غزو ميادينه لذلك فإني قبل أن أخوض تجربة القراءة يجب أن أعترف بداية أنني ألقي بنفسي في تجربة غير مأمونة العواقب ؛ وذلك لأن النص الأدبي الحديث لم يعد تصريحاً نهائياً أو معنى كاملاً أو خطاباً منطقياً بحدوده المرسومة من خارج النص وإنما غدا بنية رمزية لا تفصح عن مخزونها الثري إلا في عمق السياق النصي .
وتعد الرواية فناً متأبياً على التنظير ؛ وذلك لأنها عمل إبداعي مفتوح ، ولكل مبدع الحق في أن يبتكر فيقدم ويؤخر ، ويغير ويبدل ؛ فإذا الشخصية في الرواية الجديدة لا تعد وكونها شبحاً مضطهداً .. وإذا الحبكة غائبة ، أو شاحبة ، أو ممزقة الأسمال متقطعة الأوصال ؛ إن حاولت الإمساك بها أفلتت ، وإن أردت متابعة رصدها أعرضت ،واللغة فيها مجرد لعبة ، والزمن مجرد أحيان متقطعة لا يجمعها خيط والحيز سحري أو عجائبي ، لذا من العسير وضع نظرية لعمل يتأبي على التنظير .
إن الخيال طليق ، وإن الإبداع سمته الأولى الحرية ووظيفته الجمال وغايته الابتكار ، فكيف يجوز تقييد حرية يجب أن تظل طليقة ، ووظيفة يجب أن تظل دون حدود ، وابتكار يجب أن يظل متمتعاً بكل ما له الحق فيه من انكسار القيود وانفتاح الآفاق ، وانزياح الحواجز ، إن الشكل الروائي متحول دائماً فكيف نستطيع أن نزعم أننا قادرون على وضع قانون ثابت يقيده تقييداً ، ويكبله تكبيلاً ؛ فيغتدي ثابتاً وقد كتب عليه أن يظل متحولاً ؟
إن كل نظرية للنقد توضع انطلاقاً من معطيات نصوص يقرؤها المنظر فينظر ، في الحقيقة لها أصلاً ، أما ما وراء ذلك ، أو ما بعد ذلك ، فيمكن أن تنطبق نظريته على بعضها دون بعضها الآخر ؛ فإذا انطبقت عليها كل التقنيات فتباً لها من نصوص وسحقاً إذا خضعت للقواعد وأذعنت للقيود .
إن عبثية الإبداع هي قاعدته ؛ وإن تمرده على التقنيين هو ثورته التي يجب أن تظل معلنة على التقاليد التي تقيد فلا ترسل ،وتؤذي أكثر مما تجدي .
الكاتب
ويعد طالب الرفاعي أحد المبدعين المتميزين الذين أثبتوا جدارتهم الفنية بما وهبه الله من موهبة متميزة بين أقرانه من الروائيين المعاصرين وصل إليها بعد رحلة شاقة مع الإبداع الروائي كان فيها صاحب تجربة متميزة وهوية فريدة غير مكرورة لا تتشابه مع غيرها،لم يخضع فيها لتشكيل فني واحد، وإنما كان نموذجا لكاتب يحترم التجريب ولا يخشى المغامرة فيه خصوصا على صعيد بناء الرواية ولغتها،
الكتابة بالنسبة له واقع فني مجاور لواقع الحياة، واقع زاه مغامر، يستطيع التجاوز والقفز فوق قوانين الحياة القاسية. وقد كان في كل ما كتب منطلقا من قناعة واضحة بوظيفة الفن الاجتماعية، وصلته بوعي القارئ ، وقدرته على أن يشكل ذاكرة أي مجتمع
سعى دائما إلى محاكاة اللحظة الواقعية الاجتماعية فنيا، على أمل تجاوزها إلى حياة فنية متخيلة، تكون أكثر حرية وديمقراطية وحبا وسلاما وعدلا وانفتاحا على الآخر. كما حرص على الدفاع عن حقوق الإنسان العادلة فكان في كثير من الأحيان صوتا لمن لا صوت له، مؤمنا بأن ثمة مشتركا إنسانيا باقيا بين بني البشر، أيا كانت الفروقات المادية والجغرافية والدينية بينهم ولعل روايته (ظل الشمس) تعد خير نموذج على هذا الحرص.
رواية سمر كلمات
وإذا نظرنا إلى رواية ( سمر كلمات )فإننا نجدها تمثل إحدى حلقات المنجز الروائي لطالب الرفاعي المتمثّل في ثلاثة أعمال هي: «ظل الشمس، رائحة البحر، الثوب»وهي تمثل نموذجاً واضحاً لهذا الجنوح نحو التجريب والتجديد في الكتابة الروائية فهي  رواية شديدة الحرية , شديدة الفرار من عبودية التقاليد، رواية في تحليل الطبائع واكتشاف ما تحت السطح المرئي،واستبطان للنزعات والغوايات الفردية في مجتمع محدد منغلق منفتح على الخيارات الصعبة‏. وفي زمن روائي لا يتجاوز اثنتين وعشرين دقيقة, ترتجل شخصيات الرواية: (سمر , طالب, عبير, سليمان, جاسم ,ريم , دلال) في لحظة مكاشفة, وخارج مواصفات السرد المألوفة, خطابها العفوي الذي يكشف أسرارها.
تقع الرواية في مئتين وسبعين صفحة وتحتوي على عشرة فصول ترصد على مساحة أوراقها كثيراً من الظواهر الاجتماعية المتغيرة والسريعة والعجيبة والمتناقضة في آن. وقد جاءت فصول الرواية في شكل لوحات متناظرة متوازية مضغوطة في أقل من نصف ساعة محكية على ألسنة سبع شخصيات مدعمة بمقتطفات من حوارات وجمل قصيرة متقطعة داخل التداعيات.
يعالج كل هذا قاص مبدع صاحب ثقافة واضحة وإلمام كبير بما يدور حوله جعله يرصد حركة الواقع والمجتمع بدراية وحذق وخبرة فنية مدهشة.
وإذا كان عنوان الرواية يعد المفتاح السحري لشفرة التشكيل أو الإشارة الأولى التي يرسلها إلى الملتقى فإن كاتبنا تخير لروايته عنواناً يوحي بدلالات كثيرة ويطرح في ذهن المتلقي أسئلة عديدة حول المقصود منه
فالكاتب حين تخير عنوان «سمر كلمات» كان يشيرإلى حالة من البوح الروائي أشبه بالفضفضة والاسترجاع، وحديث النفس المثقلة بأوجاعها وخيباتها وأوهامها وأحلامها المحبطة، فأتى تعبير «سمر» لا ليشير إلى اسم بطلة الرواية فقط، وإنما ليدل على حديث ليلي، ما بعد الحادية عشرة، حيث «السمر «المنسوج «بكلمات» منثورة تبث عبر توارد الخواطر، فهي حكايات «سمر ليلي» من أسمار الليل الممنوعة التي لا ينبغي للمجتمع الحاضن لأحداثها أن يعرف تفاصيلها.
. وقد بدأت الرواية بحركة في الشارع وانتهت بأخرى في الشارع أيضا، وكأن الحياة الحقيقية هي تلك التي تمارس في الشوارع. وتبدأ ليلا وتنتهي ليلا ،وقد لازم مؤلف «سمر كلمات» شخصياته وأحداث روايته. وقبيل منتصف الليل تواروا  جميعاً: المؤلف والشخصيات، لكن رغباتهم بقيت معلقة في فضاء الليل باعتبارها مجرد رغبات وآمال؛ إذ لا سبيل لتحقيقها في ضوء النهار حيث القهر المجتمعي المهيمن على تفاصيل العلاقات والمصائر. وكأن أسرار المجتمع التقليدي لا يمكن عرضها تحت الضوء
فالرواية تتضمن تشريحاً سردياً قاسياً لبنية المجتمع التقليدي الكويتي، وبخاصة فيما يخص العلاقة بين المرأة والرجل، ولهذا فالفضاء الليلي هو الخلفية المناسبة لطرح هذه القضية. تقترح الرواية علاقات موازية بين الجنسين غير علاقات الزواج، فقد أكد متن الرواية أن علاقات الزواج التي أقرتها التقاليد الاجتماعية أفضت إلى سوء تفاهم، وسوء شراكة، ونزاع متواصل، وهدر للقيمة الإنسانية. تبدأ العلاقات بصورة طبيعية، وسرعان ما تنتهي نهايات سيئة، كل علاقة شرعية لا تلبث أن تنزلق إلى هاوية خصام، فتصبح قيداً بدلا من أن تكون شراكة. هذا ما وقع لكل الشخصيات الأساسية في الرواية: «سمر، سليمان، عبير، جاسم، طالب، وريم»، فكلها شخصيات تهرب من علاقات شرعية، أو تعاني منها، وترنو بأبصارها إلى علاقات موازية تشبع النقص النفسي والجسدي والذهني حيث أخفقت العلاقات الزوجية في تلبيتها، لأنها حولت تلك الذوات الإنسانية إلى رموز وظيفية غايتها الإنجاب والعمل فقط، دون اهتمام بالقيم الداخلية للشخصيات التي أهدرت رغباتها بذريعة الامتثال للتقاليد والقيم الاجتماعية.
الشخصيات
ولعل أبرز ما يمكن ملاحظته في هذه  الرواية يكمن في القدرة الفائقة التي تميز بها طالب الرفاعي في رسم ملامح شخصياته وتوظيفه لها توظيفاً فنياً مبدعاً يجعل منها لوحات فنية معبرة لا تنفصل عن بقية التقنيات السردية وإنما تنصهر معها لتخلق نصاً أدبياً بالغ الثراء والإمتاع.
وقد حرص طالب الرفاعي في رسم شخصياته على التركيز على عدة عناصر منها:
1-المظهر الخارجي من ملامح شكلية وجسمية تمثل الهيئة الخارجية للشخصية. ويظهر هذا بوضوح في وصف الكاتب لبطلته ريم حيث يقول:
(تصورت نفسي للحظة أنني في حضرة عارضة أزياء أوربية،ريم أطول بكثير مما تخيلتها،تكاد تكون بطولي..عيناها العسليتان،وبشرتها البيضاء،وشعرها الأشقر،وبساطتها الساحرة.تلبس بنطلون جينز ضيقا بلون أزرق داكن،ماركة فلنتينو وقميصا أبيضا مرشوشا بورود حمراء صغيرة،يكشف جزءا من صدرها،وتنتعل حذ اءا أبيض،يظهر تقاطيع قدمها:ببشرتها البيضاء،وعروقها الخضراء،وأصابع رجلها المصفوفة،وأظافرها المقلمة باللون الأحمر الذي يضاهي لون ورود قميصها،ولمعان كعب رجلها الوردي كقطعة فراولة).   
 ويصل الإعجاب إلى مداه حين يقول:
(هذه باقة ورود على هيئة امرأة)
وعلى هذا النمط الرائع في رسم الشخصيات يسير طالب الرفاعي مصوراً شخصياته تصويراً يكسبها حياة متدفقة ، يصنع حركتها وحيويتها بالكلمة الرائعة المبدعة ليرسم صورة بديعة ربما تعجز الألوان والفرشاة عن رسم نظير لها لشخصيات متفاعلة مع زمانها ومكانها صانعة حدثاً يحمل طابع الدلالة الشعرية وهو طابع قابل لتعدد المستويات ، ومن ثم التأويلات ، وبالطبع لا تجسد ذلك كله إلا من خلال لغة تعتمد الصورة وسيلتها الأولى والأخيرة.
ب0التكوين النفسي والصفات الداخلية والخبرات المكتسبة.
ولا تقف براعة طالب الرفاعي في رسم شخصياته عند حدودها الخارجية بل لعل أبرز ما تميز به طالب الرفاعي يكمن في التركيز على التكوين النفسي والصفات الداخلية ، والخبرات المكتسبة ويظهر هذا بوضوح في حديث الكاتب عن سمر التي تميزت بالإصرار والقدرة على المواجهة والدفاع عن اختياراتها أمام السلطة الأبوية والذكورية وتحملها لعواقب هذه الا ختيارات.
جـ- البيئة المحيطة بالشخصية مثل الجذور العائلية والمحصلة الثقافية .. وغيرها.
ويظهر هذا بوضوح في حديث الكاتب عن وليد البيسري وأثر هذا الأصل على معارضة زواجه من سمر،وكذلك حديثه عن سليمان وغيره من ابطال الرواية.
د- التحولات التي قد تطرأ على الشخصيات مع تطور الحياة وتغير الظروف.
وبالنظر في شخصيات الرواية يتضح لنا أن المؤلف قد رسمها بعناية فائقة جعلتها في كثير من الأحيان تتحول من مجرد شخصيات ورقية إلى شخصيات حية نقابلها في حياتنا ونشعر بآمالها وآلامها وأحلامها وإحباطاتها وإن كان الإحساس الحاد بالفقد يمثل قاسماً مشتركاً بين معظم هذه الشخصيات ،فكلها يعاني فقدا واضحا للحب والاستقرار والأمان ،كل الشخصيات تتحرك نحو هدف معين، ولكنها كلها لا تصل: سمر تسعى إلى سليمان الرجل الوحيد الذي احتواها، ولا تصل إليه، طالب الرفاعي المؤلف يظل يسعى للقاء ريم التي أرادها واحدة من أبطال روايته، ولا يصل إليها. جاسم زوج عبير أخت سمر لا يصل إلى سمر التي حلم بها. عبير وبناتها الثلاث لا يصلون إلى شيء. سليمان لا يصل هو الآخر. ريم صديقة طالب الرفاعي المرجوة لا نراها مع طالب، رغم السعي الحثيث من قبلها وقبله نحو مكان اللقاء.
كما أن وجود المؤلف في الرواية بالاسم والصفة، واسم زوجته واسم ابنته، كل هذا يوحي للقارئ بأنه أمام سيرة ذاتية، وأن الشخصيات حقيقية، في حين أنها مؤلفة ومتخيلة، عبر أحداث مؤلفة ومتخيلة. هذا لا يعني أنها مفترضة تماما، فوجود المؤلف معها بهذه الصراحة يظل يوحي بحقيقتها.

اللغة
اختيار لغة الرواية ليس أمراً ميسوراً ؛ لأنها أهم ما ينهض عليه البناء الفني الروائي ؛ فالشخصية تستعمل اللغة ، أو توصف بها، أو تصف بها مثلها مثل المكان والزمان و الحدث.
     واللغة هي التي تميز كاتباً عن كاتب ، وتعلو بمبدع على مبدع ، وإذا غاب السحر اللغوي عن العمل الروائي فقد غاب عنه كل شىء.
و لغة طالب الرفاعي لغة متميزة تنم عن موهبة واضحة لكاتب يملك أدواته الفنية ويجيد توظيفها
 وقد منح المؤلف شخصياته اللغة المتسقة وطبيعتها وميولها وأفكارها ، وقد استطاع العزف على أوتار هذه المستويات اللغوية ببراعة فائقة ، وقد تشكلت لغة طالب في روايته عبر ثلات صور هي :-
1-لغة النسج السردي.
2-لغة الحوار.
3-لغة المناجاة.
أولاً : لغة النسج السردي:-
هي اللغة التي تقدم الشخصيات وتصف المناظر وتعلق على الأحداث وتعبر عن العواطف والمشاعر ، وهي لغة لا غنى عنها في أي رواية وهذا النمط في روايتنا يسمح للمؤلف بالحضور بشكل مكشوف ، لذا فمن الطبيعي أن يعرف كل شىء باعتباره عليما بكل شيء رغم عدم ميل طالب إلى استخدام تقنية الراوي العليم.
ثانياً لغة الحوار:-
      وهي لغة معترضة تقع وسطاً بين المناجاة واللغة السردية ،وطالب شأن معظم كتاب الرواية الجديدة يجنح لعدم الإكثار من الحوار وهو عنده مقتضب ومكثف لا يطغى على جمالية اللغة ،وقد أعطى طالب الحوار حقه وأداه بصورة رائعة ومميزة في روايته
ثالثاً لغة المناجاة:-
هي اللغة التي تعبر عن حديث النفس للنفس واعتراف الذات للذات ، لغة تندس ضمن اللغة العامة المشتركة بين السارد والشخصيات ، وتمثل الصدق والحميمية والاعتراف والبوح .. ولقد اغتدت المناجاة في أي عمل روائي يقوم على استخدام تقنيات السرد العالية تنهض بوظيفة لغوية وسردية لا يمكن أن ينهض بها أي شكل سردي آخر ،وهذه اللغة هي الأكثر استخداما في روايتنا لأنها تقوم على التداعيات الذهنية والاعترافات،وتسعى إلى الاقتراب من عوالم الحياة المعلنة والسرية لنماذج من نساء ورجال يعيشون في الكويت، يغلف حياتهم زمن خارجي وإطار مكاني محدد، ويخرجهم من عزلتهم زمن نفسي يعي بوحهم الإنساني المتدفق.
علاقة السرد بالزمن
   التمثل الطبيعي لأي مسار زمني في أي عمل سردي يكون على النحو التالي:-
 الماضي ، الحاضر ، المستقبل ، لكن مقتضيات السرد كثيراً ما تتطلب أن يقع التبادل فيما بين المواقع الزمنية ، فإذا الحاضر قد يرد في مكان الماضي ، وإذا المستقبل قد يجئ قبل الحاضر ، وإذا الماضي قد يحل محل المستقبل على سبيل التعتيم السردي ، وهذا التداخل بين الأزمنة في السرد يعطى تذبذباً زمنياً يمنح النص جمالاً أخاذاً ، ويحرر زمن القص من أي قيود ، والتعامل مع الشخصيات واللغة وبقية المشكلات السردية الأخرى يحتاج إلى شئ من البراعة الاحترافية والذكاء الأدبي القائم على اكتساب التجربة والممارسة بحيث إن هذا الأمر لا يذعن لقاعدة معينة ولا إلى خطة موجهة وإنما هو منبثق عن احترافية الكاتب السردي وقدرته على توزيع الحدث وتوزيع الزمن من خلاله.
.وقد حرص طالب على ضبط زمن روايته فالضبط الزمني تأكيد لخصوصية اللحظة. ونحن هنا أمام لحظة فريدة حقا، تفصل بين زمنين: اليوم والأمس وما سيأتي. إنها الحادية عشرة وعشرين دقيقة، بداية النهاية واقتراب من التحول، أي الانتقال، وربما المآل الجديد أيضا. لذلك فالأنا الساردة تبوح بما في مكنونها ، والبوح هو استعادة لحقبة من تاريخ شخصي وجماعي استعدادا للقفز إلى الأمام : ليس هناك من الوقت سوى ما يكفي للفعل، إنه زمن الضرورة. وهي الضرورة التي يؤكدها التذكير الدائم بالزمن، وتحديد الفضاءات التي تتحرك داخلها الشخصيات وهكذا إلى آخر الرواية تحرص كل شخصية على ضبط الزمن بالدقائق،إن الأمر يتعلق بإشارة إلى سباق لا هوادة فيه مع الزمن استنادا إلى لحظة زمنية تستوعب كل الذكريات واستعادة لكل الكم الزمني الضروري لتجاوزها إنها العودة للوراء للقفز بشكل أفضل إلى الأمام.
سرعة القص ومدته الزمنية:-
      تحدد هذه السرعة بالنظر في العلاقة بين مدة الوقائع وطول النص قياساً لعدد أسطره أو صفحاته.
واستناداً إلى هذه المقارنات بين المدة القائمة على مستوى الوقائع وبين الطول القائم على مستوى القول، وبالنظر إلى ما هي عليه هذه المقارنات من تغير في العلاقة أمكن التوصل إلى تحديد أربع حركات من السرعة في القص كالتالي:-
القفز :
حين يكتفي الراوي بإخبارنا أن سنوات أو أشهر مرت دون أن يحكي عن أمور وقعت في
هذه السنوات وفي هذه الحال يكون الزمن الواقعي طويلاً والزمن القولي في الرواية يقارب الصفر ، وهذا المستوى موجود بكثرة في روايتنا.
الاستراحة:
حين يكون قص الرواى وصفاً فيصبح الزمن على مستوى القول أطول من الزمن الواقعي وهذا قليل في روايتنا.
المشهد :-
حين يغيب الراوي ويتقدم الكلام كحوار بين صوتين وهنا تتعادل مدة الزمن على مستوى الواقع ومستوى القول فيتساوى زمن القص مع زمن وقوعه وهذه الحركة لها أمثلة عديدة في روايتنا.
الإيجاز :-
هو حركة متغيرة السرعة وغير محددة تجعل زمن القص أقصر من زمن الواقع.
وبتطبيق هذه الحركات الأربع لسرعة القص على الرواية يتضح أن الكاتب قد استخدمها جميعاً إلا أن الحركتين الأولى والرابعة كانتا أكثر استخداماً
قلب الزمن :-
     مما يندرج ضمن الشبكة الزمنية في السرد الروائي ما يعرف ( بالقلب الزمني ) وذلك بتقديم الحدث دون إعطاء كل المعلومات السردية المتعلقة به ، فالزمن هنا يبتدئ من حيث انتهى وهذا يعطي الحدث حيوية ، ويفتح باب السؤال والاهتمام والتشويق من أول جملة في النص السردي المطروح للقراءة ، وقد استطاع طالب الرفاعي توظيف القلب الزمني ببراعة فائقة في روايته مما منحها تشويقاً وحيوية أضفى عليها جمالاً واضحاً.


تقنية القطع والتناوب:-
كما لجأالكاتب إلى تقنية القطع والتناوب بين الأحداث ، وهذا القطع يمكن أن يحدث إرباكاً في ذهن المتلقي إذا لم يكن المؤلف واعياً بتقنيات القطع والوصل ذلك أن المؤلف عندما يلجأ إلى أسلوب القطع فإنه يخلق حالة من التوتر لمتلق في حالة استرخاء يتابع سلسلة من الأحداث تجري أمامه ، لكنه يعاود دفعه إلى حالة الاسترخاء ليتابع سلسلة جديدة من أحداث يقطعها مرة أخرى محدثاً حالة جديدة من التوتر ليكمل حكايته الأولى التي تجعله مسترخياً وهكذا.
والمتلقي في ظل نظام التناوب يظل مشدوداً ما بين حالتي الاسترخاء والتوتر لا يخرج منهما إلا بانتهاء الرواية ، وعندما ينتقل المؤلف بين زمنين مختلفين وشبكتين مختلفتين من العلاقات الداخلية التي تربط أبطال كل حكاية فإنه يحاول إيجاد رابطة منطقية أو نفسية أو تاريخية أو سببية أو غيرها ليبرر هذا التوازي والتداخل بين الحالتين ، وقد نجح الكاتب إلى حد بعيد في استخدام هذه التقنية في روايته.
إن ظاهرة التكرار للمشاهد والأحداث على ألسنة الشخصيات ومن خلال استرجاعاتها، أمكن لها أن تحظى بالقبول والتشويق، وذلك بسبب ما لجأ له الكاتب من اللعب على عنصر «الزمن» على وجه الخصوص. فالقارئ من خلال سياحته في فصول الرواية يمكن أن يلحظ مهارة الكاتب في التعامل مع زمنين اثنين: الأول زمن واقعي لا يزيد عن نصف ساعة، من الحادية عشرة مساء إلى ما قبل الحادية عشرة والنصف. والزمن الثاني زمن نفسي للشخصيات، لا يحكمه منطق الدقائق، بقدر ما يجول في الأزمنة كلها الماضية والحاضرة والمستقبلية، ومن خلال هذا الزمن النفسي، أمكن للأصوات المتعددة أن تتزامن وتتوازى وتتقاطع بحرية تامة، لتشكل في النهاية حالة من التكامل والانسجام، الأمر الذي ضمن للرواية قدراً ملحوظاً من التماسك والوحدة.
وتظهر مهارة طالب السردي في تكثيفه لزمن السرد وحصره في أقل من نصف ساعة تتوزع على عشرة فصول إذ يقع ضغط متن الأحداث وهي تزيد على أربعين سنة من تجارب الشخصيات، وتنوع الأحداث، في زمن قصير جداً، وهذا يكون مفيداً جداً إذا ما أتيح للشخصيات أن تتوفر لها الفرصة للإفضاء الكامل بما تطمره في دواخلها، فالتداعي الحر، والاستذكار، واستعادة الماضي، لا بد أن يقدّم في سياق يتيح للشخصيات التعبير عن نفسها بصورة كاملة، فليس العبرة في ضغط زمن السرد إنما العبرة بما يتيحه ذلك الزمن للشخصيات من فرص للبوح والاستذكار، وقدظهر لنا أن الزمن الضاغط لن يمكن الشخصية من التعبير عن الجوانب الأساسية في تجربتها، هذا الضغط المقصود للزمن ـ الذي قد يكون مفيدا في التعبير عن الضغط النفسي والاجتماعي للشخصيات ـ يجعل القارئ يتساءل إن كان من الممكن، في ظروف طارئة بالنسبة للجميع، أن يهتموا باستعادة ما ظهر في النص من أحداث وذكريات كثيرة ومتنوعة. فانسياب الزمن وإيقاعاته السريعة تشعرنا به الإشارات الضوئية في  شوارع المدينة، وتضبطه عقارب الساعة في السيارات. ولهذا ظهر تماثل في رؤى الشخصيات، وتشابه في أفكارها، إذ لم يتح لها ضيق الوقت الإفضاء بتجاربها ومواقفها بما يجعل رؤاها متباينة ومتفردة، ولكن هذه القضية بذاتها ربما تكون من أهم ما ميز الرواية، فسرعة الزمن جعلت الأحداث مترابطة، ومتوازية.
ومن أبرز التقنيات التعبيرية المميزة التي فرضت نفسها على البناء الروائي في روايتنا التي بين أيدينا ما يلي:
تقنيةالتخيييل الذاتي
في هذه التقنية يتداخل جزء من سيرة الكاتب الذاتية مع جزء آخر من الرواية الذي يكون الحكاية وكلا الجزءين: السيرة الذاتية والحكاية يشكلان بتداخلهما عالم الرواية .
وهذا النمط من السرد نراه بداية في رواية «ظل الشمس»، وفيها توثيق لجزء من سيرته الذاتية حيث يحضرباسمه الصريح، وإشارة إلى عمله مهندس إنشاء في مواقع العمل، واستحضار للواقع القاسي والمؤلم لحياة العمالة الوافدة العربية والأجنبية.
وفي رواية الثوب نرى جزءا من سيرة طالب الذاتية وبعض تفاصيل حياته مع أفراد عائلته وعلاقاته بأصدقائه وعمله في المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب ولكن مع وضع اعتبارات أسرية واجتماعية تفرض عليه قدرا من البوح لا يمكن تجاوزه.
أما في روايتنا (سمر كلمات) يتحول كاتب الرواية طالب الرفاعي إلى بطل من أبطالها، تغريه شخصيات روايته الورقية، وتسحبه إلى عالمها،فيقع في حب ريم ويسعى بكل الطرق إلى الوصول إليها،وهو هنا يذكرنا بكثير من الكتاب الذين وقعوا في غرام بطلات رواياتهم مثل توفيق الحكيم وموقفه من شهرزاد وبراكسا، أو واسيني الأعرج وبطلته الورقية مريم، وعلى الرغم من استخدامه لاسمه الصريح وتفاصيل من سيرته الذاتية في روايات  متعددة متبعا أسلوب «التخييل الذاتي»، فإن الرفاعي يرى عدم جواز محاكمة أي كاتب بناء اعلى أفكار شخصيات عمله الروائي ومواقفها، معتبرا أن في ذلك خلطا كبيرا بين واقع الحياة وواقع الفن.
تقنية تعدد الأصوات
منذ ظهور الترجمة العربية لرواية «الصخب والعنف» للأمريكي وليم فوكنر، ورواية «ميرامار» لنجيب محفوظ، ظهر أسلوب رواية الحدث الواحد، بحيث تروي شخصيات متعددة حدثاً بعينه، كل حسبما عاشه وعاناه.
وعلى هذا النمط من السرد جاءت رواية سمر كلمات لطالب الرفاعي، حيث تقوم الرواية على ضمير واحد هو (ضمير المتكلم)، وعلى تعدد الرواة فالشخصيات الروائية تبوح كل واحدة منها بانفعالاتها وردود أفعالها ومشاعرها، وأحيانا تنقد الآخر من زاوية نظرها الخاصة، حتى يغدو للحدث الواحد، أو حتى للشخصية الواحدة أبعادا متعددة وزوايا مختلفة. تكشف كل زاوية منها عن طريقة الشخصية في تحليل الأحداث، وفهمها لما يدور حولها من علاقات إنسانية
ويرتبط هذا التحليل بنمط خاص لكل شخصية من شخصيات الرواية، وللمتلقي حرية تبني فكر هذه الشخصية أو تلك بناء على قناعاته المتشكلة حولها، وهو إلى جانب ذلك، قد لا يقتنع بفكر أي واحدة منها ليتبنى تحليلاته هو وتأويلاته الخاصة للأحداث.
الرمز
يبدو الرمز حاضرا بقوة في روايتنا حيث تلعب الإشارات الضوئية في روايتنا دورا ملحوظا في إثارة حالة من  شديدة من التوتر. فالرواية في كل فصولها، وفي كل محطة من محطات الاستذكار لا تتوقف عن التذكير بحالة الضوء: فالضوء إما أحمر وإما أخضر وإما أصفر. وحالة الاسترسال على مستوى التذكر لا تقطعه سوى الإشارة الضوئية الدالة على التكسير للإتيان بالمزيد من التوتر: تكسير لإيقاع السرد: التوقف عن التذكر والانتباه إلى المحيط الفضائي وتفرع الشوارع والاختيارات التي يمنحها تعدد الاتجاهات فضائيا واجتماعيا. وتكسير لإيقاع الزمن أيضا، العودة إلى اللحظة والانتباه إلى ضغط الزمن. وضمن هذه التحديدات الأولية يمكن إدراج صورة بصرية للبناء القيمي الاجتماعي كله من حيث هو بناء قائم أساسا على الممنوع والمباح والمسموح به: الممنوع الاجتماعي والأخلاقي والديني. وذاك هو ما تطمح الرواية التمثيل له.
لذلك، فإن الانفصال المشار إليه لا يطال الحدث، فالحدث لا قيمة له خارج وعي الشخصيات ومواقعها (فصول الرواية كلها تروي الأحداث نفسها ولا أحد من الشخصيات يصل إلى محطته النهائية، فلا شيء يتجاوز القصد)، إنه في الرؤية وفي طبيعة الحقائق التي تبنى ضمنه ومن خلاله.
القهر الذكوري للمرأة
يلاحظ قاريء طالب الرفاعي أن المرأة تحتل مكانة ومكانا بارزين في جميع كتابات طالب الرفاعي القصصية والروائية، لقناعته بمقدار الظلم والحيف الكبيرين اللذين يقعان على المرأة، ويصاحبانها في مراحل حياتها، فهي في معظم الأحيان مستهدفة لكونها أنثى. ويتضح ذلك من خلال القوانين المعمول بها في أغلب الدول العربية، والتي تُغلّب مصلحة الرجل على حساب حقوق المرأة.لذلك حاول طالب في روايته إظهار معاناة المرأة في مجتمع ذكوري قاهر لإنسانيتها وساحق لمشاعرها لا يسمح لها بالا ختيار وعندما تسعى إليه يلفظها وينكرها.
النهاية
وتنتهي الرواية، كما بدأت، على لسان سمر التي تقرر مسار حياتها، وتختاره.
تنتهي من دون إجابات محددة لكل التساؤلات والقضايا التي تطرحها فهي تبدأ في الطريق وتنتهي ونحن مازلنا في الطريق، دون أن يحدث اللقاء النهائي بين أي من شخصيات الرواية.
وأخيرا فنحن أمام رواية متميزة جديرة بالقراءة لما تحمله من قيمة أدبية كبيرة تؤكد مكانة صاحبها بين كبار المبدعين الذين أثروا الرواية الحديثة واضافوا إليها إضافات مؤثرة أسهمت إسهاما حقيقيا في تقدمها ورقيها.
المراجع
رواية سمر كلمات لطالب الرفاعي دار المدى 2006
سمر كلمات الليل والسرد       د/ عبد الله إبراهيم جريدة الرياض 5-10-2006
لقاء لكاتب الرفاعي مع صحيفة الشرق الأوسط 2-7-2011
لقاء لطالب الرفاعي مع العرب اليوم 2-8-2011
لقاء لطالب الرفاعي مع جريدة الجريدة 21-8-2011
لقاء لطالب الرفاعي مع جريدة النبراس
لقاء لطالب الرفاعي مع الشرق الأوسط
سمر كلمات رواية العشرين دقيقة   سعداء الدعاس 13-9-2008
سمر كلمات شخصيات تهرب من علاقات شرعية    عبد الله إبراهيم
لمحة مختصرة عن المشهد الروائي في الكويت  محاضرة لطالب الرفاعي بجامعة الكويت
سمر كلمات إعادة اكتشاف الواقع وفق رؤية جديدة  جيهان عبد العزيز
طالب الرفاعي يزج بنفسه وعائلته في أحداث روايته سمر كلمات    مهدي محمد علي
سمر كلمات رواية شعرية أم قصيدة هجاء ساخرة        أنور محمد
سمر كلمات      نجمة إدريس



عودة 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق