بحث هذه المدونة الإلكترونية

السبت، 21 يناير 2012

عبق المكان وغواية السرد في رواية شتاء العائلة للأديب العراقي علي بدر الشربيني المهندس


عبق المكان وغواية السرد في رواية شتاء العائلة
للأديب العراقي علي بدر                             
الشربيني المهندس

.. سمعتها وقرأتها ،أحببت بغداد كما لم أحب مدينة أخري في رواية بابا سارتر لعلي بدر ، وهي مقولة تستحق التوقف عندها طويلا كمدخل لقراءة رواية شتاء العائلة ، الرواية الثانية للكاتب العراقي علي بدر .. والذي حفر مكانه على خارطة الأدب العراقي الحديث بشدة وثقة عالية، واعْتُبٍرَ عمله( خرائط منتصف الليل ) المصنفة ضمن دائرة الأدب الجغرافي، كأضخم عمل روائي، نال لأجله جائزة ابن بطوطة للأدب الجغرافي، في عام 2005م، .

وإذا كانت روايته الأولي بابا سارتر قد حصلت علي جوائز الدولة للآداب في بغداد في العام 2001، وجائزة أبو القاسم الشابي في العام ذاته  . فإن رواية شتاء العائلة حازت على جائزة الإبداع الروائي في الإمارات العربية المتحدة في العام 2002 ] ..وفي عام 2007 صدرت طبعتها الثانية، عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بعد طبعتها الأولى التي صدرت في عام 2002م عن دار الشؤون الثقافية في بغداد  . وهذا يدفعنا لرصد عدة محاور.
أولها أين تقع بغداد في الأدب العراقي الحديث وهي مسقط رأس كاتبنا ،وكيف يتناولها الأدباء ..وهل أغراه نجاح روايته الأولي بأن يكرر نفسه  ..؟

وثانيها كيف وظف الكاتب الأساليب السردية ولغة الكتابة ، في كشف خبايا المكان والشخصية الروائية ، ومعالجة موقف الذات المبدعة في التردد بين الحجاب والسفور ، وحيل الفن والعاب السرد وذلك "عبر تصوير واقعها الداخلي الذي يتكون من مشاعر، وأحاسيس وأفكار وتطلعات ورغبات وآمال وآلام ومواقف من الناس والأشياء وغير ذلك مما يعتمل في الوعي الإنساني .
ومن المعلوم أنه ليست مهمة الروائي بالقطع أن يقص علينا أحداثا عظيمة فقط ، بل يمكنه أن يجعل  الأحداث الصغيرة ذات مغزي وحيوية مثيرة للاهتمام ."
علما بأن تحولات السرد في القصة والرواية العراقية بوجه عام ارتبطت ارتباطا وثيقا بعاملين مهمين ، شكلا مرجعية ذات فاعلية في تشكيل أنماطه الأسلوبية والتركيبية والدلالية، وهما المرجع الخارجي الواقعي المعاش ، وثانيها التيارات الروائية الأجنبية والتي كان القاص والروائي العراقي يتعرف عليها من خلال الترجمة إلى العربية .. وكاتبنا ترجم أعمال ودراسات أدبية .
هكذا يمكننا القول أن احد المداخل الهامة لقراءة رواية شتاء العائلة والكاتب علي بدر هو الحب للمكان وبغداد بصفة خاصة ، ثم الحب الذي استطاع من خلاله أن يضع شخوص روايته في محيط مختبري ، ليتاح له الغوص في عمق معاناتها، ومجبرا إياها علي التخلي عن زيفها وتصنعها بمصاحبة المدرسة التعبيرية  .
استطاع الكاتب أن يجسم ذلك من خلال حكاية حب لإمرأة أربعينية العمر من الطبقة الارستقراطية التي انهارت منذ الخمسينيات بعد اندلاع الثورة واختارت عالمها الذي تريد، وانغمرت في روتين حياتي بعالمها القديم لتشعر بوجودها مع خادمها السمرقندي وابنة أخيها الشابة ، تستدعي إلي نفسها هذه الحياة الملكية التي عاشتها يوما ما ص29 ، وتخلت عن العالم الخارجي كي ينساها، لكن العالم الخارجي لن ينساها .. هذا ما حاول الكاتب توصيله لنا .. اذ تفتح عينيها فجأة على حضورٍ مربك لغريب اقتحم منزلها ذات ليلةٍ ماطرة، لينسحب ذات مساء عاصف ويتركها لذهولها ... لقد نجح الكاتب في نقل الإحساس القاتم لامرأة تعيش الرتابة وتعيش حياتها في خصام مع الحاضر ،ثم في نقل إحساسها بالسعادة والمرح حين تقع بالحب ولو كان زائفاً.. ( لقد غيرني ) قالت ذلك بحسرة تعصر قلبها ( أربعون عاما آمنت وتمسكت. وفي لحظة واحدة شعرت بأن كل ما آمنت وتمسكت به ينهار .. ) ص 121      كما انه نجح خلال أحداث روايته باصطحابنا داخل قاموس الطبقة الراقية من خلال وصف دقيق وبإسهاب لمظاهر حياتهم بكل تفاصيلها الدقيقة ، مع شرح دقيق للمكان وخارطة مرسوم عليها منمنمات المكان ودكوراته ،وأثاثه ، والممتلكات وعلاقات التاريخ من أجل خلق نوع من التواصل الحميمي مع القارئ .      
تلك هي الفكرة العامة للرواية كما لخصها الكاتب في ظهر الغلاف .. ولكن هل صورة الغلاف هي صورة المرأة ، أم الصورة المعروضة في لندن .. وماذا عن التناول الفني وطرق السرد التي اتبعها الكاتب .؟
مع ذكر صورة الغلاف يمتاز الأديب علي بدر بالاهتمام بالوثائق للدخول إلي عوالم رواياته.. الدخول هنا كان أيضا بالصورة كوثيقة ( أخذت أقلب صورا قديمة ،دفاتر ذكريات ، وفي تلك اللحظة سقطت صورة من يدي علي الأرض ، كانت صورة باللونين الأبيض والأسود لعمتي وهي شابة ) ص 10 .. وتفتح بنت الأخ الشابة الأدراج أيضا كبداية لحياتها الرتيبة بالقصر ، حيث تسير بكبرياء سير عمتها الأربعينية العذراء التي تعيش حياتها وهي تحدق في عقارب الساعة ..ص                  
  ويبدو ذكاء السارد في إضافة حكايات جانبية تشغل القارئ ( تذكرت جارتنا الأرمينية التي كانت مسجاة علي فراش الموت وهي تحتضر ، دقت ساعتها الموضوعة علي الدولاب القريب من سريرها ، فتناولتها بيدها المرتجفة وضبطت منبهها ليدق الساعة نفسها في اليوم التالي ..) ص 24 .. وتصاحبنا الصورة حتي النهاية .. (صور وذكريات ) قال إبراهيم وهو يعدل نظارته علي أنفه ، وهو يغل الشباك وصليل المطر يزعجه بدلالة رمزية (لم يعد في المنزل الذي تركناه غير الصور والذكريات ) ص 148  
وكذلك حاول الكاتب كسر زمن القص حيث يقول ( لم أزر عمتي في المنزل الذي ولدت فيه الا في تشرين الماضي) ص10 .. ويقول (جلست هناك علي كرسي الخيزران الذي كانت تجلس عليه عمتي يوما ما ) ص 155 كاسرا لملل التسلسل التاريخي ودافعا القارئ لدهشة تتبع التسلسل السردي والتاريخي . ويؤجل التحليل الي صفحة 153 والفصل الأخير وعنوانه خزانة الصور ( لقد أعدت صورة عمتي بهدوء كبير إلي الخزانة)  كنت أتذكر في تلك اللحظة صورا أخري ، صورة كنت رأيتها للمرة الأولي في لندن ، في الواجهة الزجاجية صورة لعمتي بقصة شعرها القصيرة ، وانفها المرفوع لأعلي ، وابتسامتها الحزينة الذائبة ) ص 155 ..
ونبدأ من المكان حيث الاستهلال للفصل الأول بعنوان حضور الغائب .. ( منذ عدة أيام زرت منزلنا القديم ، منزلنا القديم الذي ولدت فيه أشبه بجنة من زهور القرنفل ، وهو يطل علي النهر ، وعلي مقربة من حدائقه السلطانية كانت هناك مفازة من الآس والسدر ، حيث كان موج النهر يلف بلسانه خاصرة البساتين )ص9
.. لكل مدينة سحرها لكن الأمكنة تفقد الكثير من جمال صورتها السردية وفنيتها ، إذا ما نظرنا إليها من منظور مادي يجعلنا نراها كصور فوتوغرافية ناقلة للجانب الحسي من الأمكنة .. في حين يتوجب علينا كي نشعر بجمال صور الأمكنة مهما بعدت كي تمتع بها بعين المخيال ، أي أننا نقوم بعملية نقل صور السرد المكانية من المكان الواقعي الى ما يسمي بالميتا مكان ، لأنه من غير الممكن أن تمنحنا القصة المكانية نصاعتها بالقراءة اللفظية .. فكيف عرض الكاتب المكان ..؟
ويأتي عنوان الرواية شتاء العائلة كعتبة هامة لتناول النص ، حيث للشتاء سماته الخاصة ودلالاته العديدة .. وربما يأتي البيات الشتوي في خاطرنا أيضا ..
الشتاء سيطر علي أحداث الرواية منذ زار عمته بالفصل الأول في تشرين .. وهي العاطفية في الفصل الثاني الهروب آخر يوم في الشهر والتي تنبهت في ظهيرة يوم تشريني بارد علي أنوثتها ، لم تكن تخلط بين العاطفة الخالصة والواجب ، مرورا بوصول ابنة أخيها الشابة في أحد أيام كانون المثلجة بعد وفاة والدها بلندن ،وحتي وصول الغريب إلي القصر والمطر يهطل في الخارج ، وإلي أن خرجت العمة وراء الشوفير مترنحة في الظلام الدامس تبحث عن الغريب الذي اختفي، ثم انتحار الابنة وقد بردت برودة رخامية علي السرير المبلل بالعرق البارد ، والعمة تتطلع إلي الحديقة الباردة المثلجة بعيون ثابتة  كان المطر ينهمر من الغيوم تدفعه الرياح العاتية ليكون أحد مفاتيح الرواية ..    
 حالة الابنة الشابة التي فقدت والدها ،والعمة التي تخطت مرحلة الشباب ولم تكون عائلة بعد تمثل هذه الحالة ببرودتها مرحلة شتاء عمري أيضا .. حتى الروزنامة كانت تزينها صور جبال شاهقة وقد كللت قممها العالية أطنان من الثلج ص 11 قالت له العمة وفي حلقها غصة ( أنا تعيسة ) قلت لها : ألا أستطيع أن أفعل لك شيئا ـ (لا تهتم بي كثيرا لقد عشت وهذا كل ما في الأمر.. ولكن بعد تجربة الحب ، الحب القاسي تجد أنك لم تعش الحياة كما ينبغي  ) ص16
العناوين الفرعية أيضا تضفي دلالة خاصة وتبدأ بحضور الغائب وليس الغريب ثم الهروب آخر يوم من الشهر حيث أن هروب الغريب أهم من حضوره ،ثم خزانة الصور وعودة للتوثيق وسؤال حائر ( ما الذي يمكن أن تفعله لي خزانة الصور) قال الآخرص164 .. ( الناس لا تعيش حياتها فقط إنما تعيش أوهامها أيضا)السارد لا شك أن الأحداث والأزمات التي  مرت بالعالم العربي بوجه عام والعراق وأهله بوجه خاص خلال العقود الأخيرة قد أثرت علي الناس والأدب ، فقد كان من الطبيعي أن تعنى بها الرواية كونها تشكيل لغوي سردي دال في استجابتها لمتغيرات المجتمع ألمديني وتحولات الواقع والإنسان بفعل التغير وما ينتج عنه. فالبعض هاجر خارج الوطن وعبر عن ذلك الكثير من الشعراء والأدباء .. وقد استضاف المختبر في العام الماضي ا عبد الاله عبدالقادر وروايته رحيل النوارس ، بينما يؤثر البعض الهجرة للداخل مع الطائفة والعشيرة بل والانزواء والتقوقع .. وفي ظني أن رواية شتاء العائلة للأديب العراقي علي بدر تعالج هذه القضية ..
 لقد استخدم الكاتب خليطا من أساليب السارد العليم والذاتي فبجانب تتبع الشخصيات جعله يحلل ما يراه أيضا بلسانه أو بلسان أحد شخصياته .. بجانب الحوار بين الشخصيات وظهور المنظور النفسي ..
كانت تسمع تلك الصرخة المديدة الحادة التي تطلقها بصمت كلما رأته يلاطف ابنة أخيها .. خرج والفتاة تتبعه حاملة صندوقا زجاجيا ، قالت :
ـ سنسحبها في هذا الصندوق                                                                          ـ (تعال يا قاهر الأفاعي) قالتها العمة
(نعم الرجال يسجنون الأفاعي في صناديق الزجاج من أجل النساء ..والنساء يسجن الرجال في قلوبهن من اجل الأفاعي ) ص85
درجة من السخرية ضمنها الكاتب روايته حيث اللعب بالمناديل أو الأفاعي كانت متعة القوم ، وربما دلالة علي قرب النهاية التي مهد لها الكاتب ..
ونعود إليها إلي  بغداد التي طبعت بطابعها بلاد فارس القريبة تلمع مثل سمك تحت الشمس مآذنها وقبب مساجدها وهي تغطي صدور المدن                                                        كان أبي يقول : بغداد أشبه بدمشق منها إلي القاهرة .
بينما يطوف تجار الأثريات وبأيديهم حقائب النقود التي تحمل النقوش الآشورية السود بحثا عن شئ يصل الحاضر بالماضي  .ص 12..
 لقد أحب الكاتب بغداد مسقط رأسه فكان هذا هو مفتاح السرد عنها في هذه الرواية ، بسرد التفاصيل الدقيقة للمكان يريد أن يحكي كل شئ .. (( عندما                                           تحب ، كأنك تريد سلما أو أرجوحة لتطير ، ثمة فكر يجعلك تنطلق ) ص 16  ..  .. يؤمن علي بدر بالكاتب الواعي والسارد المثقف والمفكر والسرد الممنهج بديلا عن الايدولوجيا .. يقول (بغداد غامضة وسط الضباب ، ومنازلها الشائهة بلون القلب ، بينما الكنائس بيض في الضواحي ، وأسراب من الأجراس التي تهتز كل فجر يؤذن بالصباح الكلداني ، قرب المساجد الإسلامية التي تؤذن بالصباح العباسي منذ أيام الرشيد ) ص23
الأديب علي بدر حين يكتب، يشعرك بإلمامه وقدرته الكبيرة ودقته في جمع المعلومات، فحين يتحدث عن المقاهي والحواري والبيوت، والقصور فإنه يصفها كصورة حقيقية بكل تفاصيلها الكبيرة والمتناهية بالصغر.
مع الحبكة أو الضوء الكاشف لحقيقة الغريب تأتي المفاجأة والعمة وحدها وسط السكون تنظر نحو الروزنامة ..
كانت الورقة الأخيرة الموجودة في الروزنامة لم تتغير بعد ، لم تمزقها كعادتها صبيحة كل يوم ، إنما كانت تحمل التاريخ نفسه الذي دخل فيه الغريب المنزل .. ويفشل الغريب في الإجابة عن سؤالها عن احدي القريبات وهي صديقة لوالدته التي يدعيها .. ص 119 .. لقد قلب كل شئ وأخذت تقلب في الكتب المكومة (أين قرأت هذا .. لص يدخل منزل سيدة يدعي أنه أحد أقاربها وهي لا تعرفه ، وتصدق أكذوبته من أجل أن يبقي معها ، وفي الصباح تجده قد رحل بعد أن سرق كل شئ في المنزل ) ص121 .. لقد سرق قلبها ..
أدركت العمة أن الأكذوبة الطويلة قد تحطمت كتحطم الزجاجة ص 124 ..  وهي لم تحاول التنبه إلي ما حدث بين الغريب وسليمان باللغة الأذربيجانية التي يدعي أنه يتقنها .. ساعتها ظهر عجزه أو كذبه أمام الخادم ، وفغر الغريب فمه .. ص75 ولاشك أن الكاتب قد تأثر بالروايات الأجنبية ،ففكرة زيارة الغريب من الخارج ليحطم الداخل تناولها العديد من الأدباء .. فزيارة السيدة العجوز للكاتب السويسري دورينمات ، كان الهدف واضحا في ذهن الغريب ،فقد عادت السيدة لتحي الماضي ثم تنتقم له ، ولكن هنا يظل سبب حضور الغريب هامشيا ، حيث يبدأ – هذا الوافد الغريب – في اقتحام عالمه الجديد بثقة غريبة ، وهذا الواقع الحاضر ، الآني بتأزماته ، وعوالمه المظلمة ، ويحاول أن تتأقلم حالته على المكان ، يعيشه ويعايشه ويبدو فيه كأنه من أبناء جلدته .. لكن يبدو إنه حالة استثنائية مع الذات  ..
وتأتي حكاية الحب من جانب الابنة والعمة للرجل في وجود زوجته لتضع أكثر من علامة استفهام بجانب تصرفات الزوجة نفسها .
وهكذا تدور أحداث الرواية وقصص الحب داخل القصر ، خلافا لرواية بابا سارتر التي ركزت علي المقاهي والثقافة ، وإذا كان البطل الوجودي عبد الرحمن لرواية بابا سارتر يعلنها صريحة أننا قوم بدون ثقافة خاصة ولكن نتبع الغرب ، تأتي الخاتمة والذات الساردة صاحبة الرؤية الإبداعية هنا توجز ما يريد ..
 أتركوا الصور ودفاتر الذكريات .. قلت لهم :
لقد ماتت العمة بسبب قصة حب ، لقد دخل غريب منزلنا وهدم سلام العائلة إلي الأبد، وحين زرتها في العام الماضي كنت أتعرف علي نفسي في الأشياء المتهدمة ، في الأشياء الموضوعة بنعومة ، التي لا يعرف سرها أحد غيرنا ..ص 166
نعم دخل الغريب بيتنا وتركناه يرتع دون سؤال وعندما هرب مع السؤال انهار المنزل .. كتبها الراوي قبل دخول الأمريكان إلي العراق وكأنها النبوءة وهو ينهي الرواية برسالة بين الأقواس من إبراهيم تقول :
ـ (..تعال لقد عرضنا المنزل الكبير للبيع ..)  

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق