بحث هذه المدونة الإلكترونية

الثلاثاء، 27 ديسمبر 2011

نجيب محفوظ والسينما .. فيلسوف صغير جدا د.أشرف محمد




  دعونا نعترف منذ البداية أن ثقافة الصورة طغت فى عالمنا اليوم على ثقافة الكلمة إلى الدرجة التى أصبحت معها عادة القراءة تعانى من الهزال والضعف الشديدين لدى الكثيرين، إلا أن نجيب محفوظ الذى اتخذ من الكلمة طريقا للتعبيرعن أفكاره ورؤيته للحياة من حوله ، ومن فن الرواية وسيلة لرسم وتشريح قطاعات عريضة من المجتمع المصرى ، وطبقته الوسطى على وجه الخصوص ،هذا الأديب قد جمع الحسنيين معا حينما قادته الظروف فى منتصف القرن الماضى تقريبا للتعامل مع الفن الوليد والذى لم يتجاوز عمره الآن مائة عام وبضع سنيين وهو فن السنيما ، وقد كان هذا هو السبب فى انتشار اسم نجيب محفوظ على هذا المستوى العريض ليس بين المثقفين وحسب ولكن بين العامة وحتى الذين لا يجيدون القراءة والكتابة ، فمن لم يستطع أن يقرأ كلماته فقد شاهد شخوصه وهى تتصارع  وأحداث قصصه وهى تنمو على الشاشة الفضية معبرة عن أفكاره ، والفضل يرجع بالطبع للسينما ذلك الفن الجماهيرى الساحر .
 وعن علاقة نجيب محفوظ بالسنيما يقول جمال الغيطانى فى كتابه (نجيب محفوظ .. يتذكر ) وعلى لسان نجيب محفوظ نفسه  "  السينما أثمرت فى سنوات اليأس الأدبى .. السينما دخلت حياتى من الخارج ، لم أكن أعرف عنها شيئا ، نعم كنت أحب أن أشوف سينما ، لكن كيف يعد هذا الفيلم ؟ لا أدرى ..كل ما أعرفه أن هذا الفيلم لرودلف فالنتينو ، لمارى بيكفورد .. ألخ ،لا أعرف أن هناك كاتب سيناريو أوغيره ، فى سنة 1947 ، صديقى فؤاد نويرة قال لى : صلاح أبو سيف المخرج عايز يقابلك ، فى هذه الفترة كانت لى عدة روايات آخرها زقاق المدق .. رحت مع فؤاد ، كنا فى الصيف ، قابلنا صلاح أبو سيف فى شركة تلحمى السينمائية ، قال لى الواقع أنا قرأت لك عبث الأقدار وتبينت منها أنك ممكن تكون كاتب سيناريو كويس ، قال لى أن لديه قصة عنترة وعبلة ، قلت له : أنا ليس لدى فكرة عن هذا الموضوع قال : معلش ستعرف السيناريو ، بدأ أبو سيف يطلب منى حاجة حاجة ، مثلا يقول لى موضوع عنترة وعبلة كذا أو كذا أكتبه لنا  فى عشر صفحات ، اكتب القصة أذهب لتسليمها وأنا أظن أن مهمتى قد انتهت ، يقرأها ، يوافقون ، وإذا به يقول ، لا .. نحن لم نبدأ بعد ، إن هذه فكرة الموضوع ، نريد تحويلة الى سيناريو ، تخيل الفيلم ، أى نقطة  سنبدأ بها وبدأ يشرح

الموضوع ، وأنا أطبق ذلك عمليا ، بعد المعالجة ، علمنى  عن ذلك تقسيم المناظر ، وبعد أن قرأ نتيجة عملى أهدى لى كتبا فى فن السنيما ، واشتريت أنا بعض الكتب الأخرى ، حقيقة تعلمت السينايو على يدى صلاح أبو سيف "  وهكذا انطلق نجيب محفوظ إلى عالم السينما عبر بوابته الرئيسية وهى السيناريو وكتب العديد من السيناريوهات الناجحة ولكن هل أشبع ذلك نهمه الفنى؟ وهل استأثرت به السينما واجتذبته كليا من عالم الرواية؟ ويخبرنا جمال الغيطانى برد نجيب محفوظ حيث يقول " لم أكتب سيناريو إلا فى الوقت الذى كنت غير مشغول فيه بالأدب ، ولو أن ظروفى فى العمل مع صلاح أبو سيف كانت ملائمة لى لما دخلت هذا المجال أبدا ، ومما لا شك فيه أننى لم أكتب أى شىء فى حياتى وعينى على السينما ، لم يحدث هذا مطلقا ، الأدب أدب ،والدليل أن الروايات التى تحولت إلى أفلام تحولت بصعوبة ومعجزة ، هل ممكن لمؤلف أن يكتب ثرثرة على النيل وعينه على السينما ؟ بالقطع لا " وهذا إن دل فإنما يدل على مدى إخلاص نجيب محفوظ للأدب بل إخلاصه إلى فكره وقناعاته الشخصية بالأساس وليس هذا عيبا فى فن السيناريو ولكن الضوابط والقيود الفنية هى التى تجعل الكاتب بشكل عام يشعر بمدى الاختلاف فى مساحة الحرية الفنية المتاحة من وسيط لآخر ، ففى الأدب ليس هناك طرف ثالث بين المرسل والمستقبل أو بين الأديب والقارىء فالرسالة أو الرواية بعنى أدق يشكلها الكاتب كيفما أراد سواء من حيث الطول أو أسلوب الحكى أو أية مضامين أخرى يراها الكاتب ويريد أن يضعها فى عمله ، أما فى كتابة السيناريو فالأمر يختلف فى فنياته قليلا ، فالسينما إبداع جماعى متراكم الأساس فيه للسيناريو لاجدال ، ولكن السيناريو لا يكتب ليقرأه الجمهور ، السيناريو يكتب خصيصا لطاقم  الفيلم الفنى أى للممثل والمصور ومهندس المناظر وفنان المكياج .. ألخ لكى يقوموا بتحويله إلى شريط سينمائى يشاهده الجمهور ،وهنا علينا أن نلحظ الفرق بين المتلقى فى الحالتين ، ففى الحالة الأولى المتلقى قارىء يجيد اللغة العربية وفى الحالة الثانية المتلقى مشاهد قد لا يجيد القراءة والكتابة، وهنا يلعب السناريو دوره كوسيط لتوصيل الرسالة عبر اللغة أيضا ولكنها هنا هى لغة صورة لها أدواتها ومفرداتها وأيضا قواعد النحو الصرف الخاصة بها ، ولذلك كان حتميا أن يشعر نجيب محفوظ أو أى أديب غيره بالحرية المطلقة فى مجال الأدب بينما يتقلص هذا الدور قليلا فى مجال السيناريو ، ولكن يبرز هنا سؤال هام حول مدى تأثر نجيب محفوظ بكتابة السيناريو وانعكاس ذلك على كتاباته الأدبية ؟ ويجيب نجيب محفوظ فى كتاب الغيطانى حيث يقول " السينما تؤثر من ناحية أخرى ،الإيقاع السريع والتركيز وهذا تأثير عام للسينما على الأدب ، إننى أتساءل ، لماذا اتجهت إلى التركيز بعد الإسهاب ، هناك جملة أسباب ، على رأسها الزمن وإيقاعه ، يعنى لو أنا فى عمر مناسب لا يمكننى كتابة الثلاثية الآن مع هذا الإيقاع وتلك الظروف المحيطة بنا الآن ، أضف إلى ذلك تأثير السينما والتليفزيون وما يتميزان به من تركز ، وهذا يؤثر فى أذواق الناس ، وبالتالى فإن القراءة تتأثر أيضا ، إن الجملة التى تغنى عن صفحة هى الأفضل الآن ، فضلا عن ذلك فإن أدبى كان طبيعيا وأصبح الآن فكريا ، والفكر لا يحتاج إلى إسهاب ، كل العوامل أدت إلى التركيز ، فيه ناس يقولون أن المونتاج أخذه الأدب من السينما ، لكن هذا غير صحيح ، أنه فى الأدب قبل أن يكون فى السينما ، كذلك الرجوع إلى الماضى ، على أية حال فإن الفنون تؤثر فى بعضها " و على ذكر التركيز فإننى أود أن أتطرق إلى تجربتى الخاصة مع أدب نجيب محفوظ ، ليس على المستوى الفنى ومحاولة الاقتداء به ككاتب سيناريو ولكن أيضا على مستوى التدريس الأكاديمى لمادة السيناريو لطلاب معهد السينما وأيضا لمحبى هذا الفن والراغبين فى تعلمه فى أماكن أخرى ، فتدريس السيناريو يعتمد فى بعض مراحله على القدرة على تحليل النص الأدبى لاستنتاج المعنى أو المغزى أو الرسالة التى يضمنها الأديب فى نصه للعمل على ترجمتها سينمائيا مع الحفاظ على هذا المضمون وعدم الانحراف به إلى مسار آخر وذلك كضرورة أدبية تحتم الإخلاص للنص الأدبى وعدم تحريفه ، ولا أقول تبديله لأن مقتضيات الترجمة السينمائية تدفعنا أحيانا إلى الحذف أو الإضافة أو التبديل لبض الشخصيات أو الأحداث الروائية وقليل من كتاب الأدب من يدرك هذه الضرورة الفنية ولا تصيبه بأى امتعاض ومنهم بل وعلى رأسهم نجيب محفوظ نفسه لأنه مارس الإبداع فى المجالين ويدرك تماما الفرق بينهما ، ولهذا نجد أن مسألة تحليل نص أدبى (رواية مثلا تقع فى 150 أو تزيد) يصبح غير عملى داخل قاعات المحاضرات ، ولذلك نلجأ إلى القصة القصيرة كشكل أدبى أقل طولا ، حتى وجدت ضالتى فى شكل فنى أكثر تكثيفا وتركيزا وهو الأسلوب الذى اتخذه نجيب محفوظ  فى كتاب (أصداء السيرة الذاتية) فنجيب محفوظ لم يكتب سيرته الذاتية بالمعنى المعروف لهذا الشكل الأدبى ولكنه حدثنا بشكل مكثف ومجرد عن شخصيات ووقائع وأحداث رآها فى حياته وأثرت فيه بالضروره وأطلعنا على وجهة نظره ورأيه فيها دون أن يكشف لنا عن مكان الأحداث ولا زمانها ولا من هم هؤلاء الشخصيات  وهل هم نجيب محفوظ ذاته فى توقيتات وأزمنه وأمكنة مختلفة ؟ لم يفصح عن شىء من هذا مطلقا وكأنه أرد أن يضعنا أمام تجارب إنسانية خالصة صالحة لكل زمان ومكان ، ودعونى أسوق لكم مثلا لا يتعدى نصه بضعة أسطر ولكنه
مع ذلك يضعنا أمام تجربة حياتية كاملة وهنا مكمن عبقريته .. حيث يقول فى نصه المعنون باسم  (هيهات):
ما ضنت على بشىء جميل مما تملك .
فنهلت من ينبوع الحسن حتى ارتويت .
ولكن البطر بالنعمة قد يرتدى قناع الضجر .
ومن أمارات خيبتى أنى فرحت بالفراق .
وعلى مدى طريقى الطويل لم يفارقنى الندم .
وحتى اليوم يرمقنى هيكلها العظمى ساخرا .
فإذا نظرنا إلى هذا النص وحاولنا تفسيره فسوف نجد كلا منا يفسره بطريقة مختلفة ، فمنا من سيقول أنه يحدثنا عن قصة حب كان البطر سببا فى انتهائها ، ومنا من سيقول أنه يتحدث عن علاقة إنسان بوطنه ، وإلى ما غير ذلك من تفسيرات ، ورغم اختلافها إلا أن الشىء الوحيد الذى يجمعها هو أنها كلها صحيحة ، والوحيد الذى يعرف حقيقتها الأصلية هو نجيب محفوظ ذاته ، ولكنه لم يفصح عنه ، ولهذا كان هذا الشكل الإبداعى هو الشكل الأكثر ملائمة داخل قاعات الدرس نظرا لقصره وثرائه الدرامى.
وإذا عدنا الى علم السيناريو ورحلة نجيب محفوظ معه ، فإننا نلحظ أنه قام بكتابة العديد من السيناريوهات قبل أن تلتفت السينما لكنزه الأدبى المكنون فى رواياته ، وعن هذا يحدثنا رجاء النقاش  فى كتابه( نجيب محفوظ ) وعلى لسان نجيب محفوظ ذاته حيث يقول  " تم اللقاء بين الأدب والسينما عن طريق الصدفة وذلك عندما قام أحمد عباس صالح بتحويل رواية ( بداية ونهاية ) الى مسلسل إذاعى فى صوت العرب وتصادف أن تابع المسلسل المنتج والمصور السينمائى عبد الحليم نصر . ونصر هو نابغة التصوير السينمائى فى عصره على الرغم من أنه كان أميا لا يقراء ولا يكتب والى جانب التصوير كان يقوم أحيانا بإنتاج الأفلام لحسابه الخاص . أعجب نصر بالرواية وهو يستمع اليها فى الإذاعة ولاحظ أنها تصلح لأن تكون فيلما سينمائيا ، وقام بالاتفاق معى واشترى الرواية لاستغلالها سينمائيا فى أواخر الخمسينات ، وأسند الإخراج لصلاح أبو سيف وكتابة السيناريو لصلاح عز الدين ، ولم أشارك كتابة سيناريو هذا الفيلم ، ولم أشارك فى كتابة السيناريو لأى عمل سنيمائى مأخوذ عن رواية لى ومع ذلك أعتبر نفسى من خلال أعمالى الأدبية ومساهماتى فى كتابة سيناريو عدد من الأفلام من أكثر الأدباء الذين أفادوا السينما ولا يسبقنى فى ذلك الا إحسان عبد القدوس"
وهكذا امتدت رحلة نجيب محفوظ مع السينما حتى نهاية الثمانينات تقريبا ، ويلخص الناقد والمخرج التسجيلى هاشم النحاس هذه الرحلة حيث يقول "إذا تأملنا أعمال نجيب محفوظ السينمائية نجد أنها مرت بأربع مراحل متمايزة ، يمكن التعرف عليها بوضوح على النحو التالى ..
المرحلة الأولى : رحلة الكتابة المباشرة . وتمتد لمدة 15 عاما ابتداء من 1945 حتى 1959 قدم فيها 17 فيلما ، كتب أو شارك فى الكتابة لها مباشرة ، القصة السينمائية أو السيناريو أو هما معا ، ومن أفلام هذه المرحلة (لك يوم يا ظالم ) (ريا وسكينة ) (الوحش ) (شباب امرأة ) (الفتوة ) (بين السماء والأرض ) (درب المهابيل ) .
المرحلة الثانية : وتبدأ بفيلم ( بداية و نهاية ) 1960 وتمتد بصفة متصلة  لمدة 14 سنة حتى فيلم ( السكرية) 1973 تقدم فيها 13 فيلما عن روايات نجيب محفوظ ومن أفلام هذه المرحلة  ( القاهرة 30 ) ( خان الخليلى ) (الص والكلاب ) ( الطريق ) (ميرامار ) ( ثرثرة فوق النيل ) (السراب ) ............
المرحلة الثالثة: تبدأ بأول فيلم مأخوذ عن قصة قصيرة هو فيلم ( صورة ) 1972 وتمتد هذه المرحلة لمدة سبع سنوات فقط حتى فيلم (المجرم ) 1978 لتشمل تسعة أعمال منها (الحب تحت المطر) ( الكرنك ) .....وفى هذه المرحلة تتداخل الرواية مع القصة القصيرة .
المرحلة الرابعة :  مرحلة القصة القصيرة .. وتبدأ بفيلم ( الشريدة ) 1980 وبعده تتوالى الأفلام المأخوذة عن القصص القصيرة وحدها ، فتسود بشكل مطلق أو تكاد ، حيث يتم إنتاج 15 فيلم منها خلال 9 أعوام فقط ومن أفلام هذه المرحلة (أهل القمة ) عن قصة من مجموعة ( الحب فوق هضبة الهرم ) وفيلم ( الجوع ) عن حكاية سارق النعمة من (ملحمة الحرافيش ) .
وهكذا نرى كم هى مليئة بالعطاء والإبداع رحلة هذا الأديب الفذ فى كل من الأدب والسينما على السواء ، ولذلك فزعت الأوساط الثقافية فى مصر والعالم حينما جرت محاولة لاغتياله يوم الجمعة 14 أكتوبر 1994 ولكنها بفضل الله باءت بالفشل فمنذ حصوله عام 1988 على جائزة نوبل فى الأدب وهو يتعرض لحملة شرسة من أنصار التيار الدينى المتطرف بحجة أن حصوله على الجائزة بسبب رواية (أولاد حارتنا) وهى الرواية التى يعتقدون أنها كفر صريح ، وفى هذا الصدد أود أن أسوق مثالا من أدب نجيب محفوظ  ذاته ولمن يستطيع أن يتذوق فن الأدب الرفيع ليحكم بعدها على الرجل  أو ليشق قلبه إن استطاع  ، حيث يكتب فى أصداء السيرة الذاتية وعلى طريقة نفى النفى إثبات وتحت عنوان "فيلسوف صغير جدا":
(يطاردنى الشعور بالشيخوخة رغم إرادتى وبغير دعوة ، لا أدرى كيف أتناسى دنو النهاية وهيمنة الوداع . تحية للعمر الطويل الذى أمضيته فى الأمان والغبطة . تحية لمتعة الحياة فى بحر الحنان والنمو والمعرفة .الآن يؤذن الصوت الأبدى بالرحيل . ودع دنياك الجميلة واذهب إلى المجهول . وما المجهول يا قلبى الا الفناء . دع عنك ترهات الانتقال إلى حياة أخرى . كيف ولماذا وأى حكمة تبرر وجودها ؟ أما المعقول حقا فهو ما يحزن له قلبى. الوداع أيتها الحياة التى تلقيت منها كل معنى ثم انقضت مخلفة تاريخا خاليا من أى معنى . ( من خواطر جنين فى نهاية شهره التاسع)
    وفى النهاية لا يسعنا الا أن ننظر بافتنان إلى أدب هذا العبقرى والذى ستستمتع به الأجيال على مر العصور.
مراجع:
1_ نجيب محفوظ يتذكر .. جمال الغيطانى
2_ نجيب محفوظ  .. رجاء النقاش
3_ نجيب محفوظ فى السنيما المصرية .. هاشم النحاس
4 _ أصداء السيرة  الذاتية  .. نجيب محفوظ .

نجيب محفوظ .. رائد السينما الشعبية بقلم: فيفيان محمود


نجيب محفوظ .. رائد السينما الشعبية
بقلم: فيفيان محمود

- خلال عدة أيام أعدت مشاهدة أربعة أفلام شارك فيها الأديب نجيب محفوظ بكتابة السيناريو وهي " ريا وسكينة " سنة 1953 عن تحقيق صحفي للطفي عثمان وبمشاركة المخرج صلاح أبو سيف ، والثاني " جعلوني مجرما " وكان ترتيب اسمه كاسيناريست الأول يليه السيد بدير ثم مخرج الفيلم عاطف سالم ، والثالث " درب المهابيل " عن قصته وشاركه السيناريو مخرج الفيلم توفيق صالح والحوار للأديب عبد الحميد جودة السحار وأخيرا الفتوة عن قصة لمحمود صبحي وفريد شوقي وجاء ترتيب محفوظ رقم 3 كسيناريست يسبقه أسم صاحب القصة والسيد بدير ويليه المخرج صلاح ابو سيف
- وجمع السيد بدير بين ثلاثة أفلام كحوار لها ويكاد يكون صاحب النصيب الأكبر لحوار سيناريوهات نجيب محفوظ فقد تعدي الـ12 فيلما أغلبها في فترة الخمسينيات وآخرهم عام 1978 وكان إعادة  لفيلم "لك يوم يا ظالم" بعنوان " المجرم " لحسن يوسف وشمس البارودي ومحمد عوض وأمينة رزق ولنفس المخرج أيضا صلاح ابو سيف من مجمل 30 فيلما قدمهم محفوظ للفن السابع كسيناريست أو كصاحب إعداد للقصة السينمائية .
- ونعود لمشاهدة الأفلام الأربعة فقد استمتعت بمشاهدتها من جديد وكنت قد نسيت الكثير من أحداثها وخاصة فيلم جعلوني مجرما لفريد شوقي وهدي سلطان والفذه نجمة إبراهيم وللحق كنت أمام سينما تحترم مشاهدها وتقدر ذكاءه من حيث البناء الدرامي وتطور الأحداث انتهاء باختيار المواضيع وللحق أيضا أضاف نجيب محفوظ الكثير للسينما المصرية كسيناريست " ناهيك عن أن هذه الافلام الأربعة كانت في بداياته قبل أن يتمكن من الحرفية " مما يؤكد أنه مبدع وبالفعل أبدع عددا لا يستهان به في عالم السينما واستحق منا أن نقف عندها ونفتش فيها لربما اكتشفنا جديدا على ما تم اكتشافه وتحليله من قبل.
- ولنعد إلى إسهاماته ودوره وتأثيره من خلال هذه المجموعة من الأفلام التى يجمعها عامل مشترك ميز سينما نجيب محفوظ ألا وهي البيئة الشعبية فهذه الأفلام الأربعة تدور داخل الحوارى والأزقة وفيها انحاز محفوظ للطبقة المتوسطة والفقيرة وهذا كان طابعه سواء كسيناريست لها أو كأفلام منقولة عن رواياته.
- فهو أصلا من أسرة متوسطة في حي الحسين ومن هذا الحي الشعبي والتاريخي الذي ولد فيه كان إحساسه العالى بهذه البيئة والتى منها أيضا استوحي روايات مثل خان الخليلي وزقاق المدق وبين القصرين فكلها أسماء لحوارى ضيقة داخل حي الحسين.
- وفي رأيي يرجع اهتمام محفوظ بهذه البيئة الشعبية في أفلامه إلى عدة عوامل :
- أولها :- نشأته في حي الجمالية أحد أحياء منطقة الحسين الشهيرة بمدينة القاهرة والتى ألهمته الإلمام بمعالم هذه الحياة وأدق تفاصيلها سواء في أفلامه أو رواايته كما سبق القول ولذلك عندما طلب منه صلاح أبو سيف أن يجرب نفسه في كتابة السيناريو بناءً على وضوح الصورة وتفكير محفوظ بها عبر الكتابة لرواياته فكر محفوظ فى الاستفادة من واقعنا المحلى وخاصة أن السينما حينذاك كانت تعتمد اعتمادا كليا على الاقتباس من السينما العالمية سواء افلام أو روايات وهو ما حرك نجيب للبحث عن سينما مغايرة تنم عن واقعنا المحلى وعن مشاكلنا وتكون ذات طبيعة مصرية خالصة فكانت البيئة الشعبية وكانت البداية مع المنتقم ولك يوم يا ظالم وصولا إلى باقي أفلامه وعندها وجد صلاح أبو سيف نفسه أمام سينما جديدة تلعب على وتر موجود لديه بالفعل سمي فيما بعد بالواقعية ورأي إمكانيات إبداعية لنجيب محفوظ تجاه فن السيناريو بحس المخرج وعلمه أصول هذه المهنة وهو بدوره اجتهد فيها وعلم نفسه ناهيك عن سبب دفين داخل نجيب محفوظ وجد هوي في نفسه لهذا المجال وهو حبه منذ الصغر لفن السحر ومداومته على مشاهدة السينما الصامتة صغيرا وقد حكي ذلك بالتفصيل للكاتب رجاء النقاش(1) عندما سأله عن علاقته بالسينما فرد قائلاً " بدأت علاقتي بالسينما في سن مبكرة جدا كنت لا أزال في الخامسة من عمرى عندما دخلت سينما الكلوب المصري في خان جعفر المقابل لمسجد سيدنا الحسين ومنذ اللحظة الاولى عشقت السينما وكنت أتمني أن أمضي اليوم كله داخل دار العرض وتمنيت لو أنني أسكن في دار عرض سينمائي فلا أخرج منها أبدا "
وهذا الرد فيه الإجابة على إجادة نجيب محفوظ لمجال السيناريو وارتباطه بهذا الفن وإبداعه فيه على مدار 30 فيلما حملت ثلاثة أعمال فقط قصته بالإضافة إلى السيناريو وهي درب المهابيل والوحش وفتوات الحسنية والباقي 27 فيلما أعد لأغلبها السيناريو عن روايات وأفكار غيره أو ساهم في إعداد القصة السينمائية لها.
 - ونعود لسينما محفوظ المغايرة لنوعية أفلام فترة الخمسينيات وتغييره لمفهومها ونمطها بمواضيع جديدة من داخل الحارات المصرية فأضاف بهذا الاختيار مفهوما جديدا لفن السينما يعتمد على واقع محلى وجد رد فعل من المهتمين بهذا الفن وصدي متأخر لدي المشاهدين الذين اعتادوا صورا منقولة عن السينما العالمية وتدريجيا تم التجاوب مع السينما النابعة من همومهم والتفت المخرجون لهذا الواقع الجديد النابع من الحارة وسوق الخضار والأحياء الفقيرة وكان نجيب سباقاً لإلمامه بهذه البيئة الشعبية ووقوفه على كل كبيرة وصغيرة منها حيث أنه يكتب عن واقع  عايشه أو كان شاهداً عليه فكانت النتيجة أفلاما مصرية 100×100 نابعة من أرضها وأبطالها يعيشون ويتنفسون هواءها وبذلك أغلق باب الاقتباس أمام كتاب ومخرجي السينما وبدأوا يتجهون إلى الواقع المصري والبحث عن مشاكله وهمومه.
- ونعود لسمات السينما الشعبية لنجيب محفوظ وأول ما يميزها " المكان " وهو الحارة في درب المهابيل وجعلوني مجرما بالإضافة إلى أحياء القاهرة القديمة مسرح أحداث تعليم أطفال الشوارع السرقة لنفس الفيلم وكان السوق هو المكان في الفتوه وفي ريا وسكينة كان حي اللبان وزنقة الستات بالإسكندرية .
- وفي رأيي من يريد أن يتعرف على الحارة المصرية القديمة بعد اندثارها نتيجة العمران وأطباق الدش ووصلاته وقهاوى النت كافيه التى حلت مكان القهوة البلدي عليه أن يشاهد فيلم " درب المهابيل " ويري الحارة على أصولها حيث مع نور الشمس تبدأ الدكاكين في فتح أبوابها طه العجلاتي يفتح محل الأسطي عمارة وبجواره محل فول بالهنا الشفا وعلى بعد منه عطارة الحاج عزوز وعلى بعد منها محل الموبيليا لعرض الأسرة النحاس ونسمع أصوات الباعة الجائلين في الخلفية ينادون على الطماطم والبطاطس والأسبتة تتدلي من الشرفات لشراء الطلبات مع ظهور المجذوب قفه وخلفه الأطفال منطلقين من الكتاب يجرون ورائه ويهللون مع رش المياه من السطل أمام الدكاكين انتظارا لجلب الرزق وقدوم الزبائن
- صور ثرية جدا ومتكاملة ولا يستطيع رصدها إلا من عاشها واختلط بناسها
- فالحارة هنا صورة حية وواقعية من المجتمع المصري حيث رأيناها في سكونها وفي صراعها وتربص كل فرد منها بالآخر خوفا منه لاستحواذه على المجذوب قفه وفوزه بالأف جنيها.
- ولاحظ أن حارة درب المهابيل هي المكان الرئيسي والوحيد لأحداث الفيلم كلها
- وفي حارة فيلم " جعلوني مجرما " نجد صورة أخري للحارة ولنتذكر مرور الشيخ حسن ( يحي شاهين ) على أهل حارته من بقال وتأكيده عليه لحضور عقد قران ابنته للمكوجي وطلبه منه التدخل لحل مشكلة ما للبان والسؤال عن أحواله صورة تظهر مدي الحميمية بين أهل الحارة وهو ما افتقدناه في هذا الزمن بحيث أصبحت هذه السلوكيات ذكري لانشغال الكل بالجري وراء مارثون ارتفاع الأسعار يوما عن يوم.
إنها صورة حية لحارات حي الحسين تمثل صورة مصغرة للمجتمع تظهر عيوبه ومزاياه وللعالم إن جاز لنا هذا التشبيه.
ولنتذكر أيضا المستوقد بيت المعلمة دواهي في نفس الفيلم القابع في منطقة القلعة المهجورة حينذاك حيث السلم الخشبي والشبابيك تتوسط السقف منها للسماء وعنابر نوم الأطفال مغطاه بالكليم والمكان كله يعج بالمسروقات من شماسي إلى شنط السيدات إلى عجلات السيارات ولاشك أن لمخرج العمل دور أيضا في هذه الصورة.
- أما فيلم الفتوة فكان السوق هو مسرح الأحداث الرئيسي حيث نجد أمامنا هذه الصورة عند دخول هريدي عمران للسوق أول مرة .. عربات الكارو محملة بالخضار والبائعون ينادون وآخرون يغنون ومحلات يتدلي منها أسبتة شراء الخضار وحمالون ينقلون أقفاص الخضار والفاكهة ومزادات البيع وحولها التجار وحركة الشراء مستمرة والكادر ملئ بالحركة لا يهدأ وللمخرج دور أيضا هنا.
- مسرح لطبقة كادحة ومنسية من شرائح المجتمع لناس تجري على رزقها يوما بيوم وسط ذئاب تستحل حاجتهم وتدوس عليهم وتتحكم في رزقهم بغض النظر عن رمزية السوق للسلطة وتقلبها ما بين العدل والظلم والشهامة التى بدأ منها هريدي والندالة التى انتهي إليها.
هذه هي البيئة الشعبية التى انحاز اليها نجيب محفوظ في أفلامه وعشقها ودافع عنها.
 تلك الطبقة التى كان الكثيرون مشغولين عنها إلى أن لفت الأنظار إليها.
-       وفي ريا وسكينة كان المكان حي اللبان وزنقة الستات بتفاصيل تنقل الإسكندرية فى الأربعينيات من الأزقة الضيقة للحارات المليئة بحركة البشر والضفائر الطويلة للبنات والملابس المحتشمة.
-       ناهيك عن بيت ريا وسكينة وظهوره بهذه التفاصيل التى تضفى جوا من الرهبة والتوحش بدءً من السلم الخشبى الموصل للدور الثانى حيث حجرة ابنتها بسيمة بالسرير المفروش بملاءة كاروهات والعفش المتواضع للحجرة وفى الأسفل طاسة البخور النحاس التى تتوسط المدخل وصينية القلل النحاس والشبابيك المفتوحة على الحارة، كلها تفاصيل تضفى واقعية على الفيلم وتقرب الصورة للذهن.
-       وفى رأيى الخاص أن صلاح أبو سيف الذى لقب برائد الواقعية فى السينما المصرية يرجع لنجيب محفوظ دور كبير فى هذا اللقب حيث قدما معا 12 فيلما سينمائيا سواء كان محفوظ سيناريست لها أو صاحب القصة أو منقولة عن رواياته كفيلم بداية ونهاية.
-       ونرجع للمكان فى سينما نجيب محفوظ والذى لا يقل أهمية عن شخصياته.
-       فأنت تشعر عند مشاهدتك لتلك الأفلام بأنك تسمع أصوات ساكنى هذا المكان وتعرف طريقة حياتهم من خلال تفاصيل صغيرة لا يدركها غير شخص له عيون ثاقبة كالهدهد يبحث عن أسرار لا يعرفها غيره ويسجلها فى مشاهد بطبيعية وسلاسة مع حوار للسيد بدير الذى ينطقها بلغتها الحقيقية كما فى ريا وسكينة والفتوة.
-       وعن المكان فى سينما نجيب محفوظ يؤكد السيناريست محسن زايد رحمة الله عليه فى حديث له بجريدة الحياة اللندنية (24 يوليو 1991) قائلا نجيب محفوظ بارع فى تصوير المكان الذى يعتبر بطلا لمعظم أعماله وتكاد تشم عبق المكان الذى يصفه.
-       فالمكان عنصر له أهمية كبرى وأولويه منه يبدأ وإليه ينتهى كالدائرة كله يسلم بعضه.
-       فى درب المهابيل بدأنا بالحارة وبحركتها المعتادة صباحا وانتهينا إليها بنفس المشهد.
-       وفى السوق كانت بداية هريدى عمران فى فيلم الفتوة حيث دخله حافيا ووصل منه إلى البكوية وانتهى داخل السوق بعد أن خسر وعاد إلى نقطة الصفر .
-       وسلطان شريف فى جعلونى مجرما بدأ من الحارة إلى الإصلاحية وخرج من الإصلاحية للحارة التى شهدت نهايته داخل الجامع الكائن بها بالقبض عليه وتسليمه للعدالة.
-       وريا وسكينة بدأ من بيت بحى اللبان بجوار قسم يحمل نفس الاسم وانتهيا داخل هذا البيت بالقبض عليهما فى السرداب الذى دفنا فيه جميع ضحاياهم وكأنه قد كتب على أبطاله أن يعيشوا ويموتوا فى نفس المكان الذى شهد بدايتهم.
-       وكما كانت البيئة الشعبية هى القاسم المشترك لمعظم أعمال نجيب محفوظ فمن الطبيعى أن يكون أبطاله نتاج هذه البيئة .. ابطال شعبيون.
-       ولنتذكر المجذوب قفه فى درب المهابيل ورسمه لهذه الشخصية من ملابسه المرقعة وكم السبح المعلقة على صدره وطريقة كلامه انتهاء بالعنزه التى تصاحبه كظله ولنسترجع شخصية شيخ الكتاب التى جسدها المخرج المسرحى (سعد أردش) وحركة شمة للنشوق وعطسه ونعود لطفولة نجيب وذهابه لكتاب الشيخ بحيرى الذى كان يقع فى حارة الكبابجى بالقرب من درب قرمز وأكيد أخذ محفوظ الكثير من الشيخ البحيرى لشيخ درب المهابيل .
-       ونصل إلى بطلنا طه العجلاتى وبنطلونه المرقع وقميصه الذى أكل عليه الدهر وشرب والذى يعمل مقابل ثلاثة  شلنات عند المعلم عمارة ويدخر منها وكله أمل أن يلم شمله على خديجة بنت المعلم عزوز العطار.
-       وهريدى عمران فى الفتوة الهارب من فقر الصعيد ليدخل إلى عالم متصارع يتحكم فيه شخص واحد فى أرزاق هذا الجمع الغفير فى السوق وهو لا يملك سوى عافيته وملابسه التى عليه.
-       ورأينا تطور شخصيته بدء من شده لعربات الخضار مكان الحمار زعتر إلى ركوب السيارة عندما تغلب على أبو زيد وأخذ البكوية ثم عودته إلى البداية من جديد وكل ذلك فى لوكيشن واحد وهو السوق.
-       ونصل إلى ريا وسكينه فى الفيلم الذى حمل اسمهما وحقق نجاحا جماهيريا كبيرا فى ذلك الوقت ويعد البداية الحقيقية لنجيب محفوظ كسينارست شرب الصنعة ووضع يديه على سلم الاحتراف لهذا الفن.
-       ولقد شد انتباهى فى فيلم ريا وسكينة رسم شخصياتهما من طريقة اللبس ملابس بسفرة عادية جداً ولم يصبغا شعرهما بالأصفر كالنجوم ولم يقلما أظافرهما ولا هما بمكياج يظهر أنثوتهما بل على طبيعتهما وعلى رأسيهما المنديل أبو أويا ولنتذكره وهو معقود من الأمام أعلى رأس ريا...
-       شخصيات على طبيعتها كما تم وصفها فى التحقيق الصحفى وهو ما حافظ عليه نجيب فى رسمه لهما وأكده صلاح ابو سيف فى إخراجه والتزمت به كل من نجمة إبراهيم وزوزو حمدى الحكيم فكنا أمام هذا الكم من الطبيعية وكأننا أمام ريا وسكينة الحقيقيين من كثرة ما شاهدناه منهما على الشاشة وهنا تحضرنى مقولة للسينارست محسن زايد من نفس المصدر السابق يؤكد على هذا المعنى عندما قال نجيب محفوظ بارع فى رسم الشخصيات التى يصورها لدرجة أنها تكاد تنطق بذاتها وليس بما يريد أن يقوله الكاتب ويصبح صوتها من داخلها وليس من لسان الكاتب.
-       وأخيرا وليس بآخر نصل إلى شخصية سلطان فى فيلم جعلونى مجرما والذى ولد نتيجة زواج عرفى واستولى عمه على ميراثه لعدم اعتراف القانون بشرعيته ودخوله إصلاحية الأحداث وعندما خرج منها رفضه المجتمع لهذه السقطة ونبذه ليعود إلى طريق الإجرام من جديد.
-       شخصية حققت نجاحا مدويا عند عرضها وارتبطت بها الجماهير وتعاطفوا معها ضد قسوة القانون الذى كان من الممكن أن يسقط هذه السابقة عن سلطان ويغلق أمامه باب الإجرام.
-       ولاحظ تطور شخصية سلطان وتحولها تدريجيا نحو الجريمة يخطوات مقنعة فلم نجده بين مشهد وآخر وقد تحول إلى نشال بل سبقته مقدمات كثيرة ساقته لهذا المصير.
-       ومما سبق نجد أننا أمام شخصيات عادية من قلب المجتمع تتحدث عن أناس نعرفهم ونتقابل معهم مما يجعلنا نرتبط بهم ونشعر معهم بالألفة.
-       فمن منا لم يتعامل مع عجلاتى أو معلم فى سوق الخضار أو بائع سريح، من منا لم يصادف مثل شخصية حسنه قى فيلم الفتوة أو الشيخ حسن فى جعلونى مجرما أو شيخ الكتاب لمن لحق بهذا الزمن فى درب المهابيل كلها شخصيات تحيا بيننا وقريبة منا وصادفناها فى حياتنا .
-       ويستوقفنى هنا حديث للممثل عزت العلايلى(2) معلقا على إجادة نجيب محفوظ لرسم شخصياته قائلا "عندما كنت أقرأ روايه أو سيناريو لنجيب محفوظ فإننى كنت أرى شخصياته وأشمها وأشوفها صورة وأستمتع بها وعندما كنت أدخل البلاتوه لأجسد شخصية من شخصياته كنت أشعر بأنها أسعد لحظة من لحظات عمرى".
-       وعلق أيضا المخرج توفيق صالح(3) على إجادته فى رسم شخصياته قائلا "إن محفوظ له قدرة على رسم الشخصية بدقة من حيث تاريخها وسلوكها وتصرفاتها وقد ظهر ذلك جليا فى سيناريو فيلم درب المهابيل".
-       وفى رأيى يرجع ذلك إلى كون نجيب محفوظ من هذه الطبقة وبالتالى انحاز لها فى أفلامه وصور مشاكلها وهمومها على الشاشة فظهرت على سجيتها بحيث تشعرك أنك أمام شخصيات حقيقية وليست من بنات افكار الكاتب.
-       ولكن يؤخذ عليها أنها شخصيات تعيسة غير مقدر لها النجاح.
-       شخصيات ترضى بنصيبها غير قادرة على الخروج من مكانها فهى خلقت لتموت فى نفس المكان التى نشأت منه فهريدى عمران جاء بغباره من الصعيد للعمل بإحدى أسواق القاهرة ليجد لنفسه مكانا فى ظروف صعبة ونجح ولكن طمعه ووقوف أبو زيد غريمه له بالمرصاد جعله يعود لنقطة الصفر وفعلا عادت حياته إلى الصفر كما بدأها.
-       وطه العجلاتى فى درب المهابيل كاد عقله يطير من فرحة فوزه بجائزة ورقة اليانصيب البالغ قدرها ألف جنيه ولكن فرحته لم تكتمل لضياع الورقة منه وظل فى صراع مع نفسه ومع كل من حوله ناقما على أهل حارته ولكنه عاد فى النهاية راضيا بالمقسوم وربح قطيع الماعز الألف جنيه فى وليمه جماعية.
-       وسلطان شريف فى فيلم جعلونى مجرما عندما وجد ضالته فى ياسمين وشعر بأن الحياة بدأت تبتسم له وتصالحه لكى يصلح من حاله ظهر له عمه مصارعا إياه عليها واقفا فى طريقة إلى أن أوصله لقتله.. فهى شخصيات تسعى لتغيير قدرها ولكن القدر كان لها بالمرصاد.
-       ومن وجهة نظرى نجاح نجيب محفوظ فى إتقان فن السيناريو واستمراره فيه يرجع لكونه أديبا فمن السهل على الأديب أن يصبح سيناريست نظرا لوجود علاقة وطيدة بين فن السينما وفن الرواية فكلاهما يجمعهما رسم الشخصيات والبناء الدرامى وتطور الأحداث وخيال وحبكة وبداية ونهاية رغم اختلاف الوسائل والأدوات فى كل وسيط ولكنهما يتفقا فى الحكى والوصف بدليل أن كثيرا من أدبائنا اتجهوا لكتابة السيناريو ومنهم سعيد سالم والراحل خيرى شلبى وإبراهيم عبد المجيد ويوسف السباعى وأمين يوسف غراب وفتحى غانم ولكن نجيب محفوظ نجح وبرع وتميز وأبدع لحبه للسينما بشكل خاص بدليل استمراره ونجاحه فى هذا المجال موازيا لنجاحه فى فن الرواية.
-       إن سمات سينما نجيب الشعبية إن جاز لى هذا التعبير هى سينما تراكمية بمعنى أنه كلما شاهدت فيلما له ستكتشف جديداً فيه قد غاب عنك فى المشاهدة السابقة فموهبته فى رسم الشخصية ونقل المكان بحذافيره بطبيعة وواقعية تجعلنا دائما لا نمل من مشاهدة هذه الأفلام وتجعلنا دوما نكتشف الجديد فيها.

فيلمو جرافيا أفلام نجيب محفوظ
كسينارست أو كصاحب الإعداد السينمائى للقصة
(1) "كتابة سيناريو بالاشتراك مع آخرين"
1-    المنتقم  (السيناريو مع صلاح ابو سيف) 1947م
2-    مغامرات عنتر وعبلة (السيناريو مع صلاح ابو سيف) 1948
3-    لك يوم يا ظالم  (السيناريو مع صلاح ابو سيف) 1951
4-    ريا وسكينة (السيناريو مع صلاح ابو سيف) 1953
5-    الوحش (قصة والسيناريو مع صلاح ابو سيف) 1954
6-    جعلونى مجرما (السيناريو مع سيد بدير) 1954
7-    فتوات الحسنية (قصة والسيناريو بالاشتراك مع نيازى مصطفى) 1954
8-    درب المهابيل (قصة والسيناريو بالاشتراك مع توفيق صالح) 1955
9-    النمرود (السيناريو بالاشتراك مع السيد بدير ومحمود صبحى) 1956
10-      الفتوه (السيناريو بالاشتراك مع صلاح ابو سيف ومحمود صبحى) 1957
11-      مجرم فى أجازة (السيناريو مع كامل التلمسانى) 1958
12-      الهاربة (السيناريو مع حسن رمزى) 1958
13-      جميلة بوحريد (السيناريو على الزرقانى وعبد الرحمن الشرقاوى) 1959
14-      المجرم (السيناريو مع صلاح ابو سيف) 1978
(2) كتابة سيناريو بمفرده
1-    الطريق المسدود 1958
2-    أنا حره     1959
3-    الله أكبر 1959
4-    أحنا التلامذه 1959
(3) إعداد القصة السينمائية
1-    بين السماء والأرض  1959
2-    الناصر صلاح الدين 1963
3-    ثمن الحرية  1964
4-    بئر الحرمان  1969
5-    دلال المصرية 1970
6-    الاختيار 1971
7-    الخيط الرفيع 1971
8-    امبراطورية ميم 1972
9-    ذات الوجهين 1973
10-          حب تحت المطر 1975
11-          توحيدة 1976
12-          وكالة البلح 1982
13-          الخادمة 1984
ملحوظة: ورد فى كثير من المقالات والدراسات عن سينما نجيب محفوظ كسيناريست اشتراكه فى سيناريو فيلم (شباب أمرأة) للمخرج صلاح أبو سيف، وقد شاهدت الفيلم وأعدت تتره أكثر من مرة فلم أجد اسم نجيب محفوظ عليه لا من قريب ولا من بعيد.
فتترات الفيلم تقول.. أفلام وحيد فريد تقدم.. شباب امرأة – قصة أمين يوسف غراب- سيناريو أمين يوسف غراب وصلاح أبو سيف- حوار السيد بدير.
السند الثانى كان قاموس السينمائيين المصرين للمخرجين وكتاب السيناريو ولم أجد فيه أى إشارة لفيلم شباب امرأة كأحد أعمال نجيب محفوظ ولذلك وجب التنوية لمعرفة مصدر هذه المعلومة.
(1) نجيب محفوظ وعلاقته بالسينما للكاتب رجاء النقاش
(2) فى ندوة بالقاهرة احتفالا بمئوية نجيب محفوظ فى الصالون الثقافى للمجلس الأعلى للثقافة وقدم من أعمال نجيب  (الاختيار- أهل القمة- التوت والنبوت وحضرة المحترم)
(3)            فى حوار له عن فيلم درب المهابيل

الخميس، 15 ديسمبر 2011

رواية النفق " الجزء الأول "



النفق

رواية
محمود قنديل







إهداء ..

إلى العابرين نفقاً لا يهدم
                   محمود


(1)
 خرجتْ من بين المقابر ليلاً، عجوز ذات وجه مشرق، تلف رأسها بمنديل أرجوانى، وترتدى ثوباً أسود، تتوكأ على منسأة نحيلة، وفى عنقها مسبحة كبيرة، نادتنى وهى تخطو ناحيتى، فوضعتُ الجوال عن كتفى، حيتنى بكلمات طيبة، وضمتنى كأم حانية، وعاتبتنى ببسمة مشفقة:
-        ألا تعرفنى يا سالم؟
مَنْ أخبرها باسمى؟، ومَنْ تكون؟
-        مكتوبٌ أن تغادر هذا المكان.
-        لماذا؟
-        لا تسأل الآن.
أمسكتُ بالجوال، وأحكمتُ فوهته، فأعانتنى على رفعه، وسارت بجانبى.
كنت أحفظ الطريق الذى جئت منه؛ نفق طويل تعلوه بيوت لعناكب سامة، وأعشاش لطيور جارحة، وأسلاك مكهربة عارية، وكان السقف قد لفظ حدائد خرسانته، وانحنت أعمدته.
وخارج النفق شريط ترابى يمينه قضبان حديدية رقد فوقها قطار أعيته ساعات السفر، ويساره مساحات متسعة من أراض رملية تأوى عقارب، وتحتضن نباتات شوكية.
 وعلى مسافة غير قصية تبرز لى أشهاد المقابر، وتومض أمامى عيون الكلاب، ويعلو عواء الذئاب، ويخفُض مواء القطط.
تستقبلنى المقابر، فأسمع صفير ريح وحفيف يابس، وأشم رائحة لشواء ودخان، ومسك وريحان.
فى كل زيارة أرى نفس الرؤى، وأسمع ذات الأصوات، وأشم تلك الروائح. لكننا حين تركنا المقابر لم أر أثرا للشريط الترابى، ولا الأراضى الرملية، أو القضبان الحديدية، أو النفق الذى كنت أعبره.
توقفتُ لعل العجوز تشاطرنى الدهشة فلم تفعل، بدت وكأن المكان مألوف لها، تخطو بثقة، فتزيل أحجارا، وتميط أشواكاً، وتطفئ جمرات.
-        أين طريقنا يا خالة؟
-        ذاك سبيلنا يا ولدى.
-        فى أى مكان سينزلنا؟
تسكت، فأسمع ضحكات مجنونة. ومناجاة مجهولة، صرخات مشحونة ونداءات محمومة، لا أدرك سببا، أو ألمس تفسيرا.
نمر بأشباح ونرصد أشخاصاً، فتطلب منى ألا أبالى، وتمرق نيازك وشهب، فتحثنى على النظر أمامى، وأرمق سفوحاً تتسامق وجبالاً تتهاوى، فتخفف عنى عبء ذهولى، وتهوّن علىّ رهبة الارتطام.
-        ألا تفزعى؟
-        الفزع فازع!
-        فازع؟
-        نعم فازع.
-        ممَنْ؟
-        من حروف ناطقة بلطائف.
-        بلطائف؟
-        اللطائف أطياف.
-        تظنينى فاهماً؟
-        الفهم لا يفهم سرَّنا.
الجوال على كتفى لا يزال، والعجوز ماضية بجوارى، تعيننى حين أوشك على السقوط، وتعدل من وضع الجوال كلما انحرف، وتمحو كلمات مسطورة، وتسطر حروفاً زائلة.
*       *        *         *

(2)
تتوالى صرخات الأم فوق الفراش، والطبيب يحاول إخراج الوليد، ترتفع الأكف بالدعاء، وتخفق القلوب بالأمنيات، ويطول الانتظار.
-        لطفك يا رب، لطفك.
يصرخ المولود رفضاً للميلاد، فيحمد الجميع رباً كريماً، وتمتلئ الدار بالزغاريد، وتبش الوجوه، وتتصافح الأيادى:
-        ألف مبروك.
-        مولود سعيد إن شاء الله.
-        اللهم اجعله باراً بأمه.
-        الفاتحة لروح أبيه.
يشحب وجه الأم، وتبرد أطرافها، ويشخص بصرها، والطبيب يمسك بمعصمها، ويهز رأسه:
-        البقاء لله.
تستحيل الزغاريد عويلا، وتنتفض الصدور، وتَجمُ الوجوه، وتتحرك الشفاه:
-        لا إله إلا الله.
-        لا حول ولا قوة إلا بالله.
-        إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون.
-        ربُنا يتولى أمر عباده.
تشق الزحام طفلة هزيلة، تندفع ناحية الجسد المسجى، تقبل الوجه والصدر، والكفين والقدمين، وأنينها لا ينقطع:
-        أمى، أمى، لا تتركينى ...
برفق يشدها أحد الجيران، ويجفف العم دموعها، ويضمها خالها:
-        لله الأمر يا سلمى.
-        أمى ماتت يا خالى، ماتت ...
-        قضاء لا يُرد يا ابنتى.
تتوسل ابنة الأربعة عشر ربيعاً لأقاربها ألا تترك دارها.
-        والمولود يا سلمى؟
-        أربيه.
-        كيف وأنت صغيرة، ووراءك مدرستك.
-        والنبى يا خالى، والنبى يا عمى، والنبى يا خالتى.
يرءفون بنشيجها، فتترك الدراسة رغم اعتراض المعلمين، وإلحاح الأتراب، واستنكار الجيران.
تولى ظهرها لجوائز منتظرة، وشهادات تفوق، وآفاق ممتدة.
تتولى الصغيرة تربية أخيها؛ تهدهده، تجفف دموعه، تؤرجحة، تعد له الحليب، تحمله إلى العيادة، تعطيه الدواء فى مواقيته، تتعيش على ما تيسر من عطاء الأقارب وأهل الخير.
يشب الصغير، فتصحبه إلى النهر، تجلسه بجانبها، يراقب جريان الماء والأسماك، تغسل الثياب والأوانى، يحمل عنها بعض المتاع، يعودان قبل الغروب.
يؤذن المؤذن، توضئه، تعلمه الصلاة، ترسله إلى الكتَّاب، يحمل القرآن ولوح الكتابة، يمشى وحيداً، لا يصادق أحداً، أو يصاحب نفراً، يردد وراء الشيخ السور والآيات.
-        سمَّع يا سالم سورة "الفجر"
-        ........................
-        طيب، سمَّع "والشمس وضحاها" .
-        ..........................
-        إذن ماذا تحفظ يا ولد، هه؟
-        أحفظ سورة "الإنسان"، وسورة "النَجْم"، وبعض الآيات.
-        فقط؟
-        نعم يا سيدنا.
-        والله فالح، غدا ترسل لى أختك.
تذهب سلمى إلى الكُتَّاب متحسرة، يلقى الشيخ على مسامعها ما تكره:
-        لا فائدة، أخوك غير نافع معنا.
-        أخى نبيه يا سيدنا.
-        نعم نبيه، لكن إهماله للحفظ مصيبة، وسرحانه مصيبة أكبر.
-        البركة فيك.
-        لم تعد فىّ بركة.
-        كيف يا سيدنا؟
-        الولد لا يشجع إطلاقا.
-        أرجوك، اعط له فرصة أخيرة.
-        خذى أخاك من أمامى الآن، وتوكلى على الله، هيا توكلى.
كان الصغير منزوياً لا يحب اللعب، أو الصيد، أو الاستحمام فى النهر. كان يخجل من رقاع ملابسه، وشعوثة شعره، والمشى حافياً. كان يتأمل الأشجار والطيور والدواب، ويحب خضرة الحقول، وأزهار البساتين، وألوان الفراشات.
وكان يعشق تسابيح الكراوين، وهديل الحمائم، وسقسقة العصافير، كان مولعاً بحكايا جارته المسنة، يستمع إليها، ويعود ليحكى لأخته عن الشاطر حسن وذات الهمة، والملك سيف وبهية، والسندباد وعبلة، كما كان يحكى لها عن التياتن والعنقاء، والغول والظباء.
لذلك قررت أخته – بعد مداولة معه – الاستجابة لرغبته فى ترك الكُتَّاب.
*      *      *      *

(3)
اعترضنا بيتٌ بدا كمقبرة كبيرة، معلق على بابه فانوس كيروسينى يؤرجحه الهواء فلا يسقط، وتصيبه الأمطار فلا ينطفئ، وأمام البيت تجمعت نسوة عواقر، وبنات هزيلات، ورجال نواحل، وصبية يعلقون تمائم.
توقفت العجوز قليلاً:
-        لماذا تبكى يا سالم؟
-        تذكرتُ أختى سلمى، واشتقت لابنتى.
-        الصبر صابر يا ولدى.
وتقدمت نحو الباب الحديدى، طرقتْه عدة مرات، فسمعنا – بالداخل – وقع خطوات كأنها ارتطام أحجار، وانفتح الباب، ومَثُل شخص أمامنا، أفزعتنى ملامحه، فكدتُ أتراجع، لكن العجوز أحست بى، فربتت على يدى، وأمسكت بكفى، وطلبت منى أن أدخل.
كان الرجل لا يزال واقفاً بجسده الضخم فى انتظار ولوجنا، وقد حاول أن يحيينا بابتسامة مشرقة وكلمات عطرة، فكشف عن فم نتن، وأسنان صدئة ، وعجز عن إخفاء غلظة تكوينه.
-        الجزع جازع يا بُنى.
وخطت، وخطوت معها، وأنا أصارع مجهولاً يريد سحقى، وأتطلع إلى أطواق تطفو بى.
أنزلتُ الجوال، وتفقدت عيناى البيت، كان فسيحاً، محاطاً بأرائك مصنوعة من عظام آدمية، ومخضب بطلاسم من دم، ومن فتحة بالسقف أطل ثعبان ضخم، وعلى الأرض تناثرت أشياء كثيرة.
كان الرجل قد جلس وسط الفسحة، مولياً وجهه تجاه غرف ثلاث، تصدر عنها همهمات.
-        أود أن أهرب يا خالة.
-        الهروب ....
قاطعنا:
-        فى حضورى أرجو ألا تتكلما، أو تفكرا إلا بإذنى.
قلتُ:
-        هل تأذن لى ...
-        انتظر لحظات .
وكان يشهق ويزفر، ويسعل، ويبصق دماً:
-        لك أن تتكلم.
-        نود أن نخرج من هنا.
-        المكان يحتاج قربانا.
وقبل أن أستفسر صاحت العجوز:
-        القربان مكروب.
نظر إلىّ طويلاً:
-        لابد من شئ نذبحه.
احترتُ، وانتظرت من العجوز رداً، فقال:
-        لا حيرة، فهذه أول مرة تمرون بى.
وتمتم، فانفتحت إحدى الغرف، وخرج منها أشيب يرتدى فراء ثعلب، ويلبس تاجاً من ريش صقر، وفى قدميه نعلان كحوافر البقر، وعلى يديه رضيع ينتفض؛ مشى به، وأمام الرجل انحنى يضعه، فصرخ الوليد، فكدت أستنكر، فابتسم ساخراً، ومد إصبعه ناحيتى:
-        لا .. لا تستنكر.
كان الرضيع لا يزال يصرخ، فانفتحت غرفة أخرى، وظهر منها أشيبٌ آخر، قدم للرجل سكينا، فأزاح الرجل ذقن الرضيع، ومرر السكين على رقبته، فاجتاح البيت صمت مروِّع.
-        أنهينا أهم إجراء.
قالها، فلم أنطق بحرف، ولم تنبس العجوز، فمد يده الى قطعة كتان، لف بها جثة الذبيح، واحتفظ بدمه فى إناء فخارى:
-        هذا دم حقيقى.
-        أخرجنا من هنا.
-        هناك إجراء آخر.
ظلت العجوز واجمة .
-        لابد أن نرى دمك.
ارتعدتُ.
-        لا تخف، فلن نذبحك كما ذبحنا الوليد.
وضحك حتى سال لعابه، فكدت أتقيأ، لكنه لم يعبأ، وواصل ضحكاته، ثم هدأ فجأة، وجذب بنصرى الأيسر، ووخذه بشوكة، وضغط عليه بشدة، حتى سالت قطرات من دمى، أمعن النظر فيه:
-        دمك صناعى.
-        ماذا؟
-        قلت دمك صناعى.
-        كيف؟!
-        دمك ماء ولون.
-        ماء ولون؟
-        هيا .. هيا انطلقا.
*      *      *        *

(4)
كان شاردا وأخته سلمى تؤكد له أن المدرسة غير الكُتَّاب، فلا مجال للتدليل، ولا تفكير فى الإهمال.
فلما انتبهتْ إلى شروده تنهدتْ، وأطبقت فكيها بشدة، وصاحت توبخه، إلى أن أومأ لها مبتسما، فأنهى حدتها.
كان فرحاً برداء المدرسة، وسعيداً بحقيبته، ومسروراً بكتبه التى استثارت حبه بصورها الملونة، وكلماتها الواضحة.
كان يستيقظ ملهوفاً، فتأمره سلمى بالصلاة، فيتوضأ فى عجل، ويلبس رداءه بشغف، ويحمل حقيبته متحفزاً، فتودعه، وتدعو له.
كان الذهاب إلى المدرسة رحلة يستلذها سالم، يفكر فيها ليلا، ويحرص عليها بَُكْرةً.
-        ما الذى أيقظك؟
-        المدرسة.
-        اليوم إجازة.
-        إجازة؟ لمَ؟
-        مثل اليوم كان نصراً.
عاد سالم إلى فراشه مكتئبا، لا يقبل كلاماً من أخته، أو يطلب طعاما من يدها. كان السير إلى المدرسة طقساً يستطيبه الصغير، فللصباح رائحة مميزة، والحقول يكسوها ضباب تصارعه أشعة شمس واهنة، وأوراق الأشجار نثرت عليها قطرات الندى، والعصافير تسقسق فى نشاط حميم، وتبدأ مع الطيور رحلة التقاط الرزق.
كان الصغير مشدودا لطابور الصباح، ينصت لإذاعة المدرسة، ويؤدى التمارين بقوة، ويهتف للعلم بثبات، ويردد – مع زملائه – النشيد بحماس.
وكانت أمل – رفيقة فصله – تتابعه، وتضع يدها على فمها وتضحك، فلا يلتفت، وتدفعه بكتفها، فلا يتحرك.
-        مالك يا سالم؟
ملامح الجد لا تفارق وجهه رغم سعادته بدُعاباتها، وارتياحه إليها.
لم تبخل عليه أمل بشئ، تقدم له البراية حين يقصف قلمه، وتعطيه الممحاة عندما يخطئ، وتضع أمامه الألوان قبل أن ترسم، وتناوله الزمزمية ليروى عطشه، وَتُقْسم ليشاطرها فطورها.
حكت أمل لأمها كل شئ عن سالم، وعن ظروفه، فكانت أمها تغتنم كل مناسبة لتقدم ما يعينه على المعيشة ومتطلبات الدراسة، فتقبل أخته بعد رفض ومجادلات.
ولما توطدت العلاقة أصبح قبولها يسيراً، وسعيها لرد شئ من الجميل غير عسير.
-        سأذاكر اليوم مع أمل.
-        لقد كبرتَ، ألا يوجد ولدٌ مثلك تذاكر معه.
-        الأولاد لا يألفوننى.
-        وأمها؟
-        تثق بى.
-        ووالدها؟
-        يعرفنى جيداً، ويرانى ابنه.
*      *      *        *
-        سالم، عند أى درس توقفنا؟
-        لا أذكر يا أمل.
-        المذاكرة فى حاجة الى تركيز.
-        لا أستطيع مقاومة التفكير والحيرة فيما يدور حولنا.
-        أغلق الراديو هذه الأيام، والتلفاز، ولا تستمع إلى نشرات الأخبار، فنحن على أبواب الامتحانات.
-        الأمر لا يتوقف على الراديو والتلفاز فقط.
-        علام يتوقف أيضا؟
-        خالى ...
-        ما له خالك؟
-        خالى تسلل ليجاهد.
-        الله معه.
*       *       *        *
أشارت نتائج الامتحانات إلى تفوق أمل ، ونجاح سالم.
*      *      *       *
-        سالم، مَنْ يصدق؟، أسبوع ويبدأ امتحان الثانوية.
-        الأيام تمر بسرعة.
-        أنا واثقة أنك ستُعوض.
-        أعوض؟
-        كن واثقا فى نفسك.
-        من أين تأتى الثقة؟
-        من إيمانك، ثم مذاكرتك.
-        سأحاول قدر استطاعتى.
*      *      *       *

(5)
قلت للعجوز:
-        لماذا سكتِّ؟
-        سكتُ لأتكلم.
-        إنه سافك.
-        السافك مسفوك.
-        ما المعنى؟
-        المعنى فى معية أكبر.
وطأنا مكاناً به صخور ضخمة تشكل طبقات مبعثرة، وكان علينا أن نخطوا فوقها.
-        ما اسم هذا المكان يا خالة؟
-        الاسم سمة.
-        المكان ليس غريباً عنى.
-        تمهل يا ولدى.
خرجتْ من بين الصخور ثعابين كثيرة، شكلت كتلاً ملفوفة، رمادية، وبنية، وخضراء.
-        لا ترتعد، فلن تصيبك بشئ.
زحف – من فوق صخرة – ثعبان ضخم، انقض على فريسة، عصرها، ضربت الفريسة الأرض بأرجلها، وحاولت أن تخلص جسدها، لكن العصر كان أقوى، فبدأت حركاتها تهدأ، إلى أن شُلَّتْ، ففتح الثعبان فمه والتهمها.
-        ألم تر ثعابين من قبل؟
-   مرة رأيتُ ثعباناً يتسلل إلى بيتنا، فهببتُ جارياً، لكن سلمى أختى أمسكت "بلطة" وقطعت رأسه، وقالت: جيل جبان. ولما حكت لعمى أشار نحوى وهو يقول: هؤلاء سيحررون الأرض، ويحفظون العرض، ثم هتف: عاش جيل اليوم .. عاش جيل اليوم. وبكى عمى، فلم أفهم شيئاً.
-        الميلاد مولود يا بُنى.
-        كيف؟
-        من أرحام ماتت.
-        الموت حق.
-        والميلاد صدق.
حولنا ثعابين لا تحصى، تأكل ثعالب وتعلو صخوراً، تلتهم فئراناً وتتسلق أشجاراً، تبتلع ضفادع وتترك قروداً.
-        لحظات ونجتاز المكان يا سالم.
أسمع فحيحاً، وأبصر سموماً، وأخطو، فيلتف ثعبان حول ساقى.
-        لن يؤذيك.
يتركنى الثعبان، ويمشى خلفنا، وكأنه يتابعنا ونحن نجتاز المكان.
-        ما النهاية يا خالة؟
-        النهاية بداية يا سالم.
-        النهاية حلم.
-        البداية حقيقة.
-        الحقيقة وهم.
-        الوهم خيال.
-        الخيال واقع.
كان الجوال قد أتعب كاهلى، فأنزلتْه، ووقفتْ تحملق فى وجهى:
-        ملامحك مثل ملامح ولدى.
-        وأين هو؟
-        بعث ثم مات، لكنه – يوماً – سيأتى.
أضواء خافتة تحيط المكان، ورجل وامرأة يسيران على مسافة غير بعيدة، يخطوان مثل خطونا، ويرتديان نفس ملابسنا، يقتربان ويقفان قبالتنا؛ قسماتهما تطابق قسماتنا، يبتعدان عنا، ويسيران فى طريق يوازى طريقنا إلى أن اختفيا.
-        مَنْ يكونان يا خالة؟
-        السؤال مسئول.
-        كأنهما نحن.
-        نحن لا نملك أنفسنا.
-        وهما؟
-        لا يملكان شيئا.
-        الرجل يملك جوالا كجوالى.
-        الجوال مالك لا مملوك.
-        والمرأة تمسك منسأة كمنسأتك، وتعلق مسبحة كمسبحتك.
-        هذا فى عالم غير عالمنا.
-        غير عالمنا؟
-        ارفع معى الجوال يا سالم وسر، ففى السير أسرار أسيرة.
وأصرت على المشى خلفى، فلما سكت وقع قدميها التفتُ، فلم أرها، كانت قد اختفت.
*       *        *        *

(6)
-        أمل، أى رغبات ستكتبين.
-        شئ يحير، فالكليات كثيرة يا سالم.
-        لكنك كنت تميلين إلى الطب، أو الصيدلة.
-        لأن أمى ترغب أن أكون دكتورة.
-        الطب عمل إنسانى عظيم، يكفى أن تزيحى ألم إنسان، أو تخففى من أوجاعه.
-        على بركة الله، سأكتب الطب رغبة أولى، وأنت؟
-        عندما يأتى تنسيق المرحلة الثانية سوف آخذ رأيك.
-        لولا انشغالك الدائم لكنت مثلى؛ مرحلة أولى.
-        ألست مهمومة بما يدور حولنا؟
-        للهم وقت، وللمذاكرة وقت آخر.
*        *        *          *
رنَّتْ الزغاريد عالية فى بيت أمل لالتحاقها بكلية الطب، وكانت فرحة سلمى كبيرة لقبول سالم بكلية الآداب.
-        سلمى، من اليوم يمكننى الاعتماد على نفسى، ويمكنك الاعتماد علىّ، سأنظم حياتى لأدرس وأعمل معاً.
-        لا .. لا يا سالم.
-        أرجوك .. أرجوك لا تجادلينى فى هذا الموضوع، فهو منته.
-        لكن ...
-        لكن ماذا يا سلمى؟، كفاك شقاءً، ولقد آن الأوان لتتزوجى.
-        أتزوج؟، مَنْ قال أننى أريد الزواج؟
-        ليست المسألة مَنْ قال؟، المسألة أن السنوات تمر، وفرص اليوم غير فرص الغد.
-        انتظر يا سالم حتى ...
-        لقد قررت الذهاب إلى سعيد لأعطى له موافقتك على الزواج منه.
-        لكن ...
-        لا تقولى "لكن" مرة أخرى، إننى ذاهب الآن.
لمعت عيناها، وحاولت أن تخفى فرحة استقرت داخلها، وارتعشت شفتاها، ولم تطاوعها الكلمات:
-        تعال يا سالم، تعال يا ولد، تعال .....
كان سالم قد خرج، وأغلق الباب، وبالقرب من منزل "سعيد" تنامى إلى سمعه صوت رقيق:
-        سالم .. يا سالم ..
-        أمل؟
-        ماذا تفعل هنا؟
-        غدا أقول لك.
-        ولماذا لا تقول الآن؟
-        الموضوع يخص سلمى.
وكانت فى يده مجلة، على غلافها لقطات لمعارك.
-        ما أخبار الحرب يا سالم؟
-        بيننا مَنْ يساعد عدونا على ضرب شقيقنا.
-        هذه خيانة.
-        يسمونها سياسة.
-        السياسة لعبة قذرة.
-        والحفاظ على كرسى الحكم بأى ثمن لعبة أقذر.
*        *        *          *
فرَّت دمعتان من عينى سلمى، وسعيد يقدم لها دبلة وخاتماً، وقرطاً ومصحفاً، والزغاريد ترن، والموسيقى تعلو، والغناء يتواصل.
-        المأذون وصل، من فضلكم يا جماعة هدوء.
-        أين وكيل العروس؟
وقبل أن يتقدم سالم همس:
-        عقبالنا .. عقبالنا يا أمل .
*        *          *        *