بحث هذه المدونة الإلكترونية

الخميس، 15 ديسمبر 2011

الجزء الثاني من رواية النفق



(7)
أهرول فى جنبات المكان، أنادى العجوز، أتتبع آثار قدميها، أجدها منتشرة، أتحير، أحاول ثانية؛ أقتفى أثر منسأتها على الأحجار، ألمح مواضع قبضها على الرمال، أشاهد قسماتها على جذوع الأشجار، أنطلق، أبلغ بحيرة تطل من مياهها أفواه تماسيح، ورءوس ثعابين، وعلى سطحها أشواك تعوم، وزبد يذهب، وأبصر – فى الماء – وجه العجوز يواسينى، فتفر التماسيح، وتبتعد الثعابين، وتغرق الأشواك، ويختفى الزبد، فتدعونى بصوت خفيض:
-        انزل يا ولدى .. انزل .
أضع الجوال عن عنقى:
-        لا أستطيع.
تضحك، فأسمع صدى ضحكاتها، وبحة صوتها:
-        الاستطاعة مطاعة يا ولدى.
-        قدرتى تعصانى يا خالة.
-        أتخاف؟
-        أكاد أموت.
-        تموت؟
تقهقه، وتعود إلى قاع البحيرة، فأضرب الشط بيدىَّ، وأنادى وأبكى .. أنادى وأبكى، ولما بدأ الجنون يغلبنى وجدتها خلفى، تضع كفها على كتفى، تجذبنى وتجفف جبينى، وتُحكم فوهة جوالى.
-        أين كنتِ؟
-        المكان مجهول، والاسم غير معلوم.
-        لولا ظهورك لفقدتُ وعيى.
-        الوعى لا يعى.
-        عاهدينى على ألا تغيبى.
-        العهد معهود.
-        أفهمينى.
-        البحيرة لن تفيض.
الوقت لا يزال ليلاً، وأعمدة قليلة تشكو وهن مصابيحها، وظلال لأشجار لا وجود لها، وأكوام من ثرى.
نسير فنرى جموع أشباح تشيّع نعوشاً لا تحصى، ملفوفة بأعلام سوداء، ورايات بيضاء، موضوعة فوق عربات مدافع، ومحمولة على الأعناق، مصحوبة بشهيق مكظوم، وزفير مكتوم، وموسيقى جنائزية.
-        لنشيع قتلانا يا بنى.
-        كيف قتلوا يا خالة؟
-        فى معارك زجوا إليها.
تدوس أقدامنا فوارغ طلقات ونجوم نحاسية، نسور مذبوحة وسيوف متقاطعة، سنابل قمحية ونياشين ورقية.
تُعرَّى النعوش، تُرفع الجثث والأشلاء، توارى التراب، أريج المسك يسكن النسيم.
-        ادعو لإخوانكم إنهم الآن يُسألون.
ألسنة تتمتم، وأطراف ترجف، ومآقى تسح، وأفئدة تطلب الثأر.
-        الفاتحة.
نقرأها وحولنا الأفواه مغلقة، والأيادى تأبى التعازى، والجموع تنصرف، تسعى مسرعة، تتلاشى فى الآفاق.
-        أريد العودة يا خالة.
-        إليها تسير يا سالم.
-        متى أصل؟
-        الحساب فى معية حسيب.
-        وكيف نَعْلَمه؟
-        العلم عند معلم عليم.
-        أريد أن أعود لابنتى.
-        العود عائد يا ولدى.
-        متى؟ .. أقول متى؟
-        ليكن صبرك صابراً.
(8)
وجد سالم فى كلية الآداب كتباً يعشقها، ومواضيع يحبها، وبحوثا يعتز بها، وقصصاً أعادته إلى طفولته، أيام كان يستمع لحكايا جارته المسنة عن بطولات ضائعة، وتحديات مفقودة، ورؤى مأفونة.
ورأت أمل أن التحاقها بالطب – رغم صعوبته – كان صواباً؛ فقد أرضى طموحها، وحقق حلم والدتها، وأمنية أبيها، وتطلعات أقاربها ومحبيها، فراحت تواظب على الحضور، وتذاكر الدروس، وتراجع المحاضرات.
كانت المعامل تجذبها، والأنسجة تستهويها، والمشرحة تثير فضولها.
-   هل تصدق يا سالم أن كلية الطب عالم ثانٍ؟، لكن كل ما فيها كوم، والمشرحة كوم آخر، فى البداية كنت خائفة .. سالم، سالم أين سرحت؟
-        أبـ .. أبدا .. قولى .. أنا أسمعك.
-        لا يهم أن تسمعنى، ولكن المهم أن تنصت للمستقبل وهو يناديك، فكُليتك محتاجة انتباهك وتركيزك.
-        من أين يأتى الانتباه أو التركيز، وكل يوم يُعتدى علينا تحت اسم مختلف، وشعار متباين.
-        ربنا موجود وقادر.
-        ربنا لا يرضى أن نُضْرب، ولا نفعل شيئاً.
-        المظاهرات تعُم الشوارع والمدارس والجامعات.
-        لقد رفضت الاشتراك فى هذا الهزل.
-        المظاهرات وسيلة من شأنها إعلام الآخرين بموقفنا.
-        وماذا فعلت المظاهرات؟، هل منعت تهمة ظالمة ضدنا، أو دفعت إدانة، أو أنهت احتلالا.
-        وماذا بيدنا؟
-        خالى فعل شيئا، ونجح – بأعجوبة – فى التسلل ليجاهد.
-        وما الذى نستطيع نحن عمله؟
-        هذا ما يجعل تفكيرى مشتتاً.
-        إذن لنلتفت إلى دروسنا حتى نحصل على الشهادة.
-        ومواقفنا يا أمل؟
-        نظل عليها.
-        ولا نتحرك؟
-        الحماس الزائد – قد يستثمر – من قبل أعدائنا فى غير مصلحتنا، وقد يؤدى إلى تصرفات غير مأمونة العواقب.
-        معنى ذلك أن نجلس ونشاهد، ونحن مكتوفو الأيدى.
-   لا أقصد هذا، ما أقصده هو أن نعبر عن رؤيتنا ومواقفنا بما تيسر لنا من إمكانات فى هذه المرحلة، والمظاهرات السلمية هى إحدى هذه الإمكانات، مثلها مثل المقالات التى تنشر، أو الندوات التى تقام.
-        كلامك جميل، ولكنه يحيرنى.
-        لا تتحير يا سالم، ولا تجاملنى.
-        معكِ أقول الحق.
ووضع يدها بين كفيه، وضغط عليها برفق.
-        أتحبنى يا سالم؟
-        اسمحى لى أن أقول أن سؤالك فى غير موضعه.
-        لماذا؟
-        لأن ما بداخلى نحوك أكبر من أن يكون مجرد حب.
-        صدقنى يا سالم، إذا قلت لك إن شعورى نفس شعورك.
انقشع الهم فى أعماقه.
-        دع يدى يا سالم، ألم تمل؟
-        معكِ يموت الملل ولا يبعث.
-        ألم أقل إنك شاعر؟
علت شفتيه ابتسامة طال غيابها.
-        ابتسم، واضحك، ولا تكن متشائماً.
-        لازلت أرى خيطاً من نور فى الظلمة الحالكة.
*        *        *       *


(9)
 جلست العجوز فوق جذع مجتث أمام نهر كبير، وأبيت مشاطرتها الجلوس، فقد كانت المياه راكدة سوداء، تسبح فيها كائنات غريبة، وعلى الضفة الأخرى كنت أشاهد أشباحاً وهياكل تتحرك، وتحت قدمى كنت أبصر لمعان حشرات تمرق بين أغصان واقعة، وأوراق يابسة، والمكان يسوده شخير ضفادع، وصفير.
أمسكت العجوز مسبحتها، وحركت شفتيها، وأنا واقف بجسد يضغط على قدمى فأكاد أسقط، تشدنى العجوز، فأهوى قاعداً.
نقطة ضوء وحيدة تتحرك على سطح النهر كبندول ساعة، وقوارب غارقة تطفو، ومجاديف مكسورة تغوص، وقلوع قديمة تعوم، والعجوز لا تزال تتمتم.
-        لننصرف يا خالة.
-        صبراً يا سالم.
ترمق أفقاً بعيداً، لا تلتفت أو تطرف، وكأنها فى انتظار قادم حان موعده.
-        أشعر بظمأ.
انحنت تغترف غرفة وتضعها أمام فمى، فأرتشف؛ للماء رائحة العطن، وطعم العلقم.
-        معدتى تؤلمنى، وأمعائى تتقطع.
-        فى الماء داء ودواء.
أتقيأ، ويسيل عرقى، وتبرد أطرافى، فتصيح العجوز صيحة يتردد صداها طويلاً، وتعقبها بصيحات وصيحات، فيظهر – من بعيد – قارب يشق ركود النهر، ويتجه نحونا، تسندنى العجوز، وتحمل عنى الجوال، تدعونى مبتسمة فأخطو معها، تتقدم، فأقاوم التعثر، تعطينى منسأتها فأتوكأ عليها، تشجعنى فأرمى بنفسى فى القارب، تمسح على رأسى فتهدأ أنفاسى، تربت على يدى فيخف إعيائى.
يسرى بنا القارب بطول النهر، فأرى على شطيه أشجاراً نبذت أوراقها، وعلى أغصانها تدلت طيور ذبيحة.
-        دعينى أحاول التجديف، لنترك المكان بسرعة.
-        القارب مسيَّر يا بُنىَّ.
نمر بألسنة لهب، ونباتات شوك، وحطام، تتدافع من قاع النهر وجوه لا أذكرها، تطل علينا، وتهبط إلى مساكنها.
تظهر مراكب صيد وتختفى، عليها شباك ممزقة، وعلامات دامية، وجثث عارية.
ومن حافة الشطين تنبت أياد، تتطاول، تدنو من القارب.
-        لو أمسكت بالقارب لشطرته يا خالة.
-        الحفيظ حافظ يا ولدى.
قطرات من المطر تتلاحق، وريح تثير رماداً، وبرق ورعد وغيث، والقارب يتأرجح، والعجوز ساكنة.
-        البرد يقتلنى.
تشير إلى السحاب فيقلع، وإلى الريح فترقد، وإلى الرماد فيخمد، وإلى البرق فينطفئ، وإلى الرعد فيَخْرَس.
-        الجوع يعصرنى.
تظهر امرأة سوداء الوجه، شعثاء الرأس، حمراء العين، كريهة الملبس، تتزين بحلى، وتحمل طعاماً، تقدمه إلىّ، ألتقطه، تصيح العجوز:
-        لا تأكله ...
-        الجوع يقهرنى.
-        لا تأكله ...
-        سأموت جوعاً يا خالة.
-        قلت لك لا تأكله، إنه لحم موتاك.
*       *        *         *


(10)
-        سالم، انظر ها هى شهادة البكالوريوس، وهذه أوراق التقديم لفترة الامتياز.
-        مبروك .. مبروك يا دكتورة أمل.
-        أمى لا تصدق، وبكت من الفرحة، وأبى كاد يقفز من فوق كرسيه المتحرك.
-        الفرحة فعلاً كبيرة.
-        وأنت ماذا قررت؟
سكت، وحملق فى الزحام، والباعة الجائلين.
-        سالم، أقول ماذا قررت؟
-        قررتُ العمل بالصحافة.
-        آه، اخترت مهنة البحث عن المتاعب.
-        إنها الأنسب لى لأتمكن من عمل شئ.
-        بأفكارك هذه؟
-        نعم، إنها فرصة لتنصهر أفكارى فى بوتقتها.
-        ألم ينصحك أحد بأن تكتب فى الأدب مثلاً؟
-        الأدب لا يحقق طموحى فى هذا العصر، ولن ينفس عما بداخلى.
-        يا رب سترك، يا ا ا ا رب، يا ا ا ...
-        أمل، انتظرى لحظة.
-        ماذا .. ماذا يا سُلُم.
-        انتظرونا مساءً، سنأتى إليكم، أنا وسلمى.
*         *         *         *
أسلمت أمل يدها لسالم، ليضع فى إصبعها دبلة، وحول معصمها حلية، وأمالت رأسها ليعلق على صدرها لفظ الجلالة.
باركت سلمى الخطبة، وقبلت جبين أمل:
-        لولا وجودك ما تزوج سالم أبداً.
فقالت والدة أمل:
-        فولة وانقسمت نصفين.
وسقطت دمعتان، وهى ترمق زوجها على كرسيه المتحرك:
-        كان ينتظر هذا اليوم.
عاتبتها أمل بنظرة حنون، فمسحت وجنتيها، وبسطت قسماتها، بينما والد أمل يجلس بجسد كان يود لو رقص، ولسان تمنى أن يهتف، وقلب مفعم بالفرح.
يهمس سالم:
-        عندى لك خبر، لكنه ليس كأى خبر.
-        ما هو؟
-        قريبا سيتم زفافنا.
-        أنت تمزح.
-        أبدا والله.
-        اضحك علىّ .. اضحك.
-   أمل أنا أتكلم بجد، سعيد زوج أختى يعرف صاحب معرض موبيليا، وقد وافق على تقسيط جهازنا تقسيطاً مريحاً، وأختى سلمى تنازلت عن حقها فى البيت كهدية لنا.
تشابكت أصابع كفيهما.
-        لا تتعجل يا سالم، براحتك.
-        أسمعت المثل الذى يقول خير البر عاجله؟
لم تستطع مقاومة فرحتها.
-        تعرف يا سالم ما أتمناه الآن؟
-        ماذا؟
-        أتمنى لو أحضنك، وأقبلك.
وضع سالم رأسها بين أنامله، ومال ليقبل جبينها.
*       *        *           *


(11)
يستحيل الليل رماديا، وكأن الوقت غروب أو بدايات شروق، والقارب يتهادى إلى شاطئ عريض.
-        هذا مهبطنا يا سالم.
-        أى شاطئ هذا يا خالة.
-        اصبر على صبر صبور.
أرفع الجوال إلى عنقى، وننزل، فيهتز القارب بقوة، ويرتفع ويعلو، إلى أن يختفى.
-        تقدم يا ولدى.
أمامنا مساحات واسعة، تنتشر عليها بنايات قصيرة، يتسع بعضها ويضيق الآخر، نتحقق منها، فإذا هى مقابر، على أبوابها أعلام منكسة، ولافتات مطموسة.
-        من طمسها؟
-        الطامس مطموس.
نمشى، فإذا بصبار منزوع، وشتلات مقلوعة، وبذور منثورة.
-        من نثرها يا خالة؟
-        نثرها ناثر منذ ألف عام أو يزيد.
-        لماذا لم تنبت؟
-        لم يأت أوانها بعد.
وإذا بأيد غليظة تقبض مقامع، وتمد خطاطيف.
-        لمن المقامع يا خالة والخطاطيف.
-        لخيول وهنت، وحمير هزلت.
-        وأين هى؟
-        ماتت مرة، وستموت مرات.
أطفال صغار يلبسون بياضا، يحملون شموعاً لا يطفئها هواء، ويطوفون وكأنهم يؤدون فرائض وشعائر.
-        مَنْ هؤلاء؟
-        هؤلاء هم الآتون.
تراتيل هامسة لا أعرف مصدرها، وأحواض من ماء معطر، وأجواء صافية عبقة.
-        هذا الهمس من أين يأتى؟
-        من أعماق طافية.
-        ظمآن يا خالة، من أى حوض أشرب.
-        هذه ليست للعطشى.
-        الأجواء صارت مترَّبة.
-        ها هى الآن صافية.
نشاهد أراضٍ خربة، ومستنقعات عكرة، ونساءً حوامل لا تلدن، وأخريات لا يرضعن، وأثداء تقطر دماً، وأجنة نبذتها أرحام قبل موعدها.
-        أتشاهدين ما أشاهده؟
-        ماذا؟
-        الأراضى ...
-        مالها؟ .. إنها معمورة.
-        والمستنقعات ...
-        أراها سحيقة.
-        والنساء ...
-        منتفخات لا حوامل.
-        والرضاعة ...
-        ماءٌ آسن.
-        والأجنة ...
-        حُملت سفاح.
-        أخرجينى من هذا المكان.
-        ستخرج كما تخرج الأجنة من الأرحام.
*      *      *        *



(12)
صدر قرار بإعفاء سالم من عمله بصحيفة "الحقيقة" لاحتجاجه - بحدة – على رئيس التحرير الذى أمر بإيقاف مقالاته.
-   فيما أجرمت يا أستاذ ليصدر هذا القرار؟، هل أجرمت لأننى قلت لك: أن الكلمة أمانة أمام هذا الجيل والأجيال القادمة، إن هذا هو قولك الذى كنتَ تردده فى كل اجتماع تدعونا إليه، هل أخطأت لأننى أكدتُّ لك ثوابت تظنها أنت متغيرات؟ هل أذنبت لأننى قلتٌ: أن الكلام يعد متنفسا طبيعيا لضيق صدورنا بما يدور من أحداث؟ ثم ماذا يضرك من نشر كلمة حق نصارح بها أنفسنا، ونكشف بها عن مؤامرات تدبر لاقتلاع جذورنا؟، لماذا يقصف قلمى بهذا الشكل؟، أهو الخوف؟، ممن تخاف، هه؟، ممن تخاف يا أستاذ؟، ممن تخاف؟.
بذل الزملاء جهودا مضنية فى تهدئة سالم، فرفع قرار الإعفاء:
-        هذا القرار لن يثنينى، ولن يغيرنى.
ثم مزقه، وداس عليه:
-        نصيحتى الأخيرة لك أن تغير اسم صحيفتك.
*       *        *         *
-        لا تحزن يا سالم، وإن شاء الله يعوضك الله خيراً.
-        أملى فى الله كبير يا أمل.
-        إلى أين ستذهب؟
-        إلى عامر فى صحيفته، فلى معه موعد بعد قليل.
-        ليوفقك الله.
*      *       *          *
-        ألم أقل لك إن الله سيعوضك خيرا.
-        حمداً لله يا أمل.
-        ولكن لى عندك رجاء ...
-        قولى.
-        أرجو أن تخفف من حدة مقالاتك يا سالم.
-        عامر وعدنى أن تُنْشَر كل مقالاتى، وقال إن صحيفتنا معارضة بحق.
*       *       *       *
كان سالم يجلس أمام كاميرات إحدى القنوات الفضائية، ليشرح وجهة نظره فى أول كتاب يصدر له، عَنْوَنَه بـ "غياب القوة .. الأسباب والنتائج".
وكانت أمل قد نشرت نبأ استضافته – لأول مرة – بالتلفاز، فحرص الجميع على متابعته.
وجلست أمل أمام الشاشة تنصت إليه، وكلما سكت لحظة عقّبتْ:
-        مثقف، واع، مقنع، هائل.
وقبل نهاية البرنامج سألته المذيعة:
-        نود أن نعرف اسم كتابكم القادم؟
-        "مشروعية القوة"، وأهديه لكل المتحدثين بلغتى.
-        إذن لمن تهدى هذا الكتاب الذى بين أيدينا؟
انبسطت قسمات سالم، ونظر إلى الكاميرا، فرأته أمل ينظر إليها، فأشار بإصبعه:
-        أهديه إليها ...
*       *        *         *
-        لقد قررتُ يا سالم أن أخاصم كل صديقاتى، لقولهن أنك كنت رائعاً.
-        وماذا فى هذا؟، إنهم يجاملونك.
-        إننى أغار، وأخاف عليك منهن.
-        لا تضخمى الأمور يا أمل حتى لا تضايقينى.
-        لنترك هذا الموضوع يا سالم.
-        يكون أفضل.
-        كنتُ ...
-        أكملى .. كنت ماذا؟
-        كنت أود أن أقول أن كل شئ تم تجهيزه.
ضحك طويلا:
-        حددى، أى وقت يناسب زفافنا؟
 (13)
ألقت العجوز منسأتها على الأرض، وجلستْ على بقعة خضراء وليدة، علقتْ مسبحتها فى أصابعها، وشرعتْ تطوى بأناملها الحبَّة تلو الأخرى، ولسانها رطب بكلمات طهورة، وبصرها يتقلب فى فضاء واسع، وحولنا نُقَرٌ بها ماء من مطر قديم، تهبط إليه طيور عطشى، ترتوى ثم تنطلق إلى تخوم بعيدة.
استلقيت أتأمل السماء بلونها الرمادى، وبقايا سحب تنحسر – فى هلع – عن وسطها، وقد ظهر نجم وحيد يؤكد وجوده.
اتكأتُ لأرى فى الأفق أشجاراً سامقة، تحيطنا كسور دائرة كبيرة، ولأول مرة أشعر بشئ من راحة تمتزج برغبة فى العودة إلى شقيقتى سلمى، وابنتى.
أستدير إلى الجوال وأقربه، فتغلبنى دمعتان، تحثنى العجوز على النهوض، فأقوم مثقلا:
-        منذ متى ونحن نسير يا خالة؟
-        منذ عام كان مخبوءاً فى سراديب الزمن.
-        مَنْ خبأة؟
-        خبأ نفسه ليحيا من جديد.
-        عام طويل .. طويل ...
-        عام عجوز شاب قبل أوان المشيب.
-        العام يشيب؟
-        يشيب ويحتضر.
-        الموت حق.
-        والروح باقٍ.
عناكب تنسج فخاخا، تأكل حشرات وتصيد ذبابا، فأسأل نفسى: لماذا لا تقع العنكبوت فى فخ نسيجها؟
-        الصائد مُصاد يا سالم.
عناكب ضخمة تتربص بفئران، تبصق عليها، فتشل حركتها، تضع فوقها خمائر فتذيبها، تمد أفواهها فتلتهمها.
-        الحذر لا يمنع قدراً يا ولدى.
عناكب أخرى تفترس أفراخ طيور.
-        الطيور لم تعد تطير يا سالم.
وعناكب تبتلع الفراشات.
-        الجمال دائم يا بُنى.
-        أين نحن يا خالة ؟
-        نحن فى وادى العناكب.
-        متى نخرج منه؟
-        حين نبلغ أرض العقارب.
نمشى على جسر طويل، عليه أعمدة محنية، وكابلات مقطوعة، وأسوار حديدية، وأرصفة متهالكة، وتحت الجسر نهر جفَّ ماؤه، فبانت مراكب غارقة، وأشرعة مطوية، ومجاديف مكسورة، وأجساد موتى، وتماسيح حيَّة.
نشاهد أقنعة تُلقى إلينا، ونسمع همساً:
-        تنكروا .. تنكروا ...
-        لنتنكر يا خالة ...
-        ....................
-        يبدو أننا مقبلان على خطر.
-        لن نتنكر.
أصوات مخيفة تلاحقنا، تزعق العجوز، تشيح بيدها، فتَخْفُض الأصوات.
ننتهى من عبور الجسر، ونطأ مكاناً، أحس بحرارته:
-        الحر يخنقنى يا خالة.
-        النار أشد حراً يا ولدى.
-        سلمى تعشق الصيف.
-        وأمل؟
-        أكنت تعرفينها؟
-        .................
-        كان الربيع عشقها.
-        الربيع مات.
-        لكن "أمل" لم تمت.
*       *         *       *


(14)
-        أمل، لا تتعجلى الحمل، فكل شئ بميقات.
-        أريد طفلاً أسميه سالما.
-        ولو طفلة؟
-        نسميها .. نسميها .. نعم نسميها سلمى.
-        سلمى حلَّفتنى أن نترك لها اختيار الاسم إن كانت بنتا.
-        لكن متى يحدث يا سالم؟
-        قلتُ كل شئ بميقات يا أمل.
-        أقول لك شيئاً ولا تغضب؟
-        قولى.
-        طيب، اقسم لى.
-        وحياتك عندى.
-   اليوم زارنا بالمستشفى دكتور استشارى كبير، متخصص فى علاج العقم، أريته نتائج الأشعة والفحوصات والتحاليل، فطلب أن يفحصنى، وبعدما انتهى أكد أنه ليست لدى أى موانع للحمل.
-        معقول؟
-        هذا ما أكده، لدرجة أنه قام – بنفسه – بعمل أشعة جديدة لى ردا على دهشتى.
-        والعمل يا أمل؟
-        لا تنسى أنك أقسمت ألا تغضب.
-        لن أغضب.
-   زميلاتى الطبيبات قلن لى من قبل لابد من إجراء فحوصات لزوجك أيضاً، حتى تكون خطوات العلاج سليمة، وكنتُ مترددة أن أفاتحك، واليوم أكد الدكتور هذا الكلام، وحدد الأسبوع القادم موعدا لنزوره.
-        أمل، لستُ متعجلاً.
-        أنا المتعجلة لا أنتَ، أريد أن يكون عندى طفلاً أناديه بـ "سالم"، أرجوك يا سالم .. أرجوك يا سالم .. أرجوك ..
-        خلاص يا أمل، موافق.
*       *         *       *
أظهرت الفحوصات، والتحاليل التى أجريت لسالم أنه صحيح تماما، ونصح الدكتور أمل بأن تكف عن تناول أى عقاقير قد تضر بها مستقبلاً.
-        إذن نفوض أمرنا إلى الله يا أمل.
-        سأدعو الله ليل نهار أن يرزقنا ولو بطفل واحد، فالشهور تجرى.
-        تزوجنا منذ عامين فقط، وهناك مَنْ تزوجوا منذ أعوام بعيدة، وحتى الآن لم ينجبوا.
-        لا قدر الله .
*       *         *       *
حبست أمل دموعها، وأسرَّت فرحتها، وتقطع صوتها، وهى تزف لسالم نبأ حملها.
-        أخيرا، بعد ثلاث سنوات يا أمل، معقول؟
-        معقول يا سالم ، حامل فى سبعة أسابيع.
راح يقبلها، ومآقيه تسح، وأنامله ترجف، وهو يستحلفها أن تلزم البيت، وتركن إلى الراحة.
*       *         *       *
أقبلت سلمى ببشاشتها:
-        بنت مثل القمر يا أمل، أحلى من ابنى بكثير.
-        ليست أجمل منك يا سلمى.
-        ربنا يحميها لكما يا سالم.
-        أنا عند وعدى لك يا سلمى، اختارى لها اسماً.
-        ما رأيكما فى اسم "أمال"؟
*       *         *       *


(15)
سحبٌ كثيفة تفر من وسط السماء، وأسرابُ طيور هدها التحليق، ومدائن لا تنير.
-        النور قابع يا سالم.
فتياتٌ تُزف بدفوف حزينة، وزغاريد حبيسة.
-        الفتيات عواقر يا ولدى.
عقارب تنتشر فوق الرمال، تلتهم عناكب، وتأكل قوارض.
-        لله فى كونه آيات.
صور معلقة على الأعمدة لأطفال، وشيوخ، ونساء.
-        دمهم معلق يا بنى.
-        كيف يا خالة؟
-        لا يصعد سماءً، ولا يهبط أرضاً.
أعلام خافقة ولوحات شاجبة، صيحات مبحوحة وتشنجات غاضبة، إطارات مشتعلة وآهات مكظومة.
-        ليته واقع.
-        أى شئ يا خالة؟
-        الزلزال يا سالم.
آذان كثيرة تتنصت.
-        الآذان صماء.
عيون مبعثرة تبحلق.
-        العيون عمياء.
أقدام خفيفة تتسلل.
-        الأقدام مشلولة.
قيود تصلصل.
-        الحديد فليل.
أسوار تُنْصَب.
-        النسف معطل.
عقارب تسعى.
-        السُّمُ دواء ...
نصال تُشْهر.
-        النصال ورق.
قلوب تخفق.
-        القلوب صدأ.
سواعد تؤكد.
-        السواعد واهية ..
فوهات تُصَوَب.
-        البنادق فارغة.
عصى تُرْفَع.
-        الأيدى مغلولة.
غازات تُلقى.
-        لا تُسيّل دمعاً، أو تخنق شيئاً.
تتفرق الجموع.
-        فراق صبر نافد.
تخلو الميادين.
-        خلو المقابر من الموتى.
يسود السكون.
-        سكون يسبق هبوب الحقائق.
*       *         *       *


(16)
كأن دعوة أمل قد أُجيبت، وأبى رحمها أن يحمل جنينا آخر، وتسللت إليها المتاعب والآلام، وتبين الأطباء أن ثمة تليف أصاب رحمها، وأنه فى حاجة إلى استئصال.
ونظراً لذلك ألغى سالم سفره إلى إحدى المحطات الفضائية حيث انعقاد مناظرة حول الأوضاع الراهنة التى وصفها – فى حوار معه – بأنها عار، وأن استمرارها يؤصل لنظرية غريبة علينا أسُسها التهاون والتراخى والاستسلام، وهو ما يترتب عليه اقتلاع الجذور، وفقد الهوية، وقتل الأحلام بداخلنا.
كانت أمل ترجوه ألا يتخلف عن مناظرته، لكى لا يفسر الأمر فى غير صالحه، لكنه أصر على البقاء معها فى رحلة علاجها حتى تتعافى.
فلم تكن سلمى مهيأة للقيام بدور لمساعدة أمل، فقد أثَّر فيها كثيراً موت زوجها المفاجئ، فأحدث لها انطواء، وولَّد لديها كآبة، ودفعها إلى بحار حيرة لا شواطئ لها.
-        لا أريد أن تُجرى لى عملية يا سالم.
-        ماذا لو لم تكونى طبيبة يا أمل؟
-        أرغب فى إعطاء فرصة للعلاج التحفظى.
-        الدكتور صارحنى بأن الجراحة هى الحل الأمثل.
-        أشعر ببعض المخاوف.
-   أمل، أنتِ مؤمنة، وعن نفسى لا يراودنى أدنى شك فى نجاح العملية، فهناك أعداد من السيدات تجرى لهن هذه الجراحة كل يوم، ولم نسمع عن حالة واحدة فشلت، وأنت تعلمين هذا جيدا.
-        وابنتنا آمال، مَنْ يرعاها طوال فترة رقودى؟
-        أمال تجد راحة فى بيت سلمى، وتحب اللعب مع ولدها سالم.
*       *         *       *
خرجت أمل من غرفة العمليات بوجه ممتقع، وعينين غائرتين، وشفاه باهتة، انتظر سالم إلى أن أفاقت.
-        مبروك يا أمل، مبروك نجاح العملية.
هزت رأسها، فتحسس وجنتيها:
-        الدكتور قال الخروج بعد غد.
أقبلت سلمى تصحب ولدها سالم، وابنة أخيها آمال.
-        سلامتك يا أمل .. ألف سلامة.
خرجت كلمات سلمى هزيلة منكسرة، وعيونها شاردة، وفكرها يعاتب قدراً لا مفر منه، وعودها لا يقوى على الوقوف.
كانت آمال قد انحنت على صدر أمها:
-        متى ستعودين للبيت يا أمى؟
-        سريعاً إن شاء الله.
وأشارت إلى سلمى:
-        اقعدى يا سلمى، قرِّب الكرسى يا سالم.
-        لا تشغلى بالك يا أمل، سأمشى الآن، أهم شئ سلامتك.
-        أتعبناكِ كثيراً بآمال.
-        لا تقولى هذا، فليس هناك أطيب منها.
*       *         *       *
عادت أمل إلى عملها، لكنها لم تشعر أنها عادت إلى صحتها، أو رجعت إليها عافيتها.
-   ليس هناك تحسن يذكر يا دكتور، لقد كان مقرراً أن أُشفى، وأستعيد قواى بعد خمسة أسابيع تقريبا، وقد مرَّ أكثر من شهرين ولا جديد.
-        علينا الاستمرار فى العلاج فترة أخرى، بعدها نقرر ماذا نفعل؟
*       *         *       *
صرَّح الدكتور المعالج أنه لا يجد تفسيراً علمياً لاستمرار تعرض أمل لهذا النزف، فالرحم قد استؤصل، والفحوص لم تكشف عن وجود خلايا سرطانية.
وقد وصف الدكتور حالتها بأنها فريدة، الأمر الذى جعل سالم يقترض من زملائه، ومن أحد البنوك، ويبيع بعض أمتعته، ويسارع فى تجهيز أوراق السفر لتُعَالج أمل بالخارج.
*       *         *       *


 (17)
سهام تنطلق من الأرض إلى الفضاء، وخفافيش تبحث عن ملاذ آمن، ونسور تنبذ جيفاً، وصقور لا تجد فرائس، وهداهد تحلق.
-        لقد اقتربنا يا سالم.
-        كلما أتذكر أمل فى غيبوبتها أتعذب.
-        العذاب يتعذب.
ديناصورات تقف فى السفوح، وحمائم تحلق فى السماء.
-        لا فرق بين بداية ونهاية يا ولدى.
-        البداية ميلاد، والنهاية موت.
-        الميلاد يعانق الموت.
بومٌ يتساقط، وعقبان تَعْمَى، وحيّات تنسلخ.
-        الدوام باطل.
حفريات آدمية تحاصر المكان.
-        الحصار زائل.
نباتات شوكية تتسلق الأحجار.
-        الشوك لا يدمى.
حيوانات تشرب من مياه بئر.
-        البئر نافد.
أطفال يحملون شموعاً لا تنطفئ أو تذوب، يزفون عرائس، يتلاشون عند الأفق.
-        الغاية مُدْرَكة.
شلالات ماء، وجداول عذبة، حبوب ملقاة، وعصافير جنة.
-        البدء ماء، والكون كلمة.
قصاصاتُ ورق، طيرتها الحروف.
-        الحروف مجموعة.
مخالب منزوعة، وألواح محفوظة.
-        المحفوظ ناطق.
كتبٌ تتطاير، ووجوه ممقوتة.
-        الحساب محسوب.
أترنح، أكاد أسقط، تسندنى العجوز، تضبط الجوال على عنقى:
-        الجوال كنز، والمسيرة عبء.
-        لنستريح قليلاً يا خالة.
-        الراحة لا تريح.
يتساقط رذاذ، تحتضنه الأرض، تنبت زهوراً، تتفتح.
-        المميت باعث.
يخرج نباتاً، يستحيل أشجاراً، تتسامق، تظللنا.
-        الظل غير ظليل.
-        النهار تأخر يا خالة.
-        النور حاضر يا سالم.
-        أين يوجد؟
-        الواجد موجود.
-        لا أرى نورا، النور غائب.
-        الحاضر لا يغيب.
-        ربما غاب.
-        أنسيت البداية يا سالم؟
-        أمل لا تنسى يا خالة.مأ
*       *         *       *


(18)
أسابيع ثلاثة أمضتها أمل فى إحدى المستشفيات بالخارج بغير فائدة، فالنزف كان يعاودها، وقواها مازالت غائبة، والآمال – فى الشفاء - متضائلة، الأمر الذى جعل سالم يحجب عنها خبر مصادرة كتابه الأخير، كما جعلها تحثه على العودة:
-        أريد أن أموت فى بلدى، وعلى فراشى.
-        لا تذكرى الموت يا أمل.
-        لا أشعر بأى تقدم.
-        الأمل كبير.
-        لقد وحشتنى ابنتنا آمال، وأمى وأبى وسلمى وابنها سالم، وحشونى كلهم.
-        لقد هاتفوك بالأمس فقط.
-        اشتقتُ لرؤيتهم، لنعود يا سالم، أرجوك لا ترفض طلبى.
*       *         *       *
كان الجميع فى استقبال أمل عند باب البيت، فعانقت والدتها، وضمت ابنتها، وصافحت الصغير سالم، وقبلت سلمى وأمسكت بيدها فى شوق، ثم دخلت لتلزم الفراش، فبادرت سلمى شقيقها:
-        ماذا فعلتم؟
-        لم يضف الأطباء جديداً، أرادوها عينة بحث، أو حقل تجارب.
-        حالتها النفسية متدهورة، ومحتاجة رعاية.
-        سأكون بجانبها معظم الوقت، وسأتصل بطبيب صديقى ليتولى متابعتها يوميا.
لم يستسلم سالم، فكان كلما سمع عن دكتور كبير يثنى عليه الناس، عرض أمل عليه.
-        سالم، لم نعد نملك شيئاً ، كفى علاجا ومصاريف.
-        معك يا أمل إلى آخر يوم فى حياتى.
-        صدقنى، ليست هناك فائدة.
-        لا تقولى هذا يا ست أمل، فالأمل فى الله كبير.
-   اليوم شُفتُ – فى المنام – سعيد زوج أختك ينادينى، فقلت له لا أستطيع أن أترك سالم لحظة، فإذا كنت تحتاج شيئا انتظر، فسأنادى لك سلمى. فقال: أنا لا أريد سلمى ...
-        الأحلام هذه الأيام لا تتحقق، فوالدتك تقول إن المحاريث فى الغيطان.
اتصلت سلمى بسالم – فى الصحيفة – ترجوه أن يترك أى عمل، ويأتى فورا، فأمل تعبة جداً.
طلب سالم منها الاتصال بالدكتور، وترك كل ما يشغله، وأسرع إليها.
-        ما لك يا أمل .. ما لك؟
كان الطبيب يتفحصها، وهى لا تدرى شيئاً.
-        ما لها يا دكتور؟
-        لابد من نقلها الآن للمستشفى، وبسرعة.
-        ماذا بها؟
-        محتاجة عناية مركزة.
*       *         *       *
انطلقت سيارة الإسعاف تطوى المسافات طيَّاً، وكان صوت سرينتها كصفَّارة خطر تعلن عن اقتراب غارة، وضوؤها كفلاش كاميرا تلتقط ما حولها.
فُتحت أبواب المستشفى لتدخل السيارة التى عجزت عن مقاومة الفرامل، فاهتزت بعنف وتوقفت.
كانت أمل قد دخلت غرفة الإنعاش، وأبى الأطباء دخول سالم معها، علقوا لها المحاليل، وأوصلوا إليها التنفس، وقاموا بتدليك القلب.
كان سالم جالساً أرضاً، واضعاً وجهه بين كفيه، يوارى دموعاً لا تكف ويدعو، لحظات وخرجت إليه ممرضة:
-        اطمئن يا أستاذ، نحن نقوم بعمل كل اللازم لها.
-        أأستطيع رؤيتها؟
-        ليس قبل 48 ساعة.
*       *         *       *


(19)
أضرحة يطوف حولها فتيان وصبايا، يلتمسون بركات، ويتعلقون بآمال، وبخور يطلق، وعطور تُرَش، ونفحات تنتشر.
-        ماذا يبغون يا خالة؟
-        الحكيم حكم يا سالم.
قباب مرصعة بمصابيح، ومآذن تنادى، وأناسى تهرول، ودعوات تلبى، وعيون تتوسل، وقلوب تخفق.
-        ماذا دهاهم؟
-        الرقيب مجيب.
مدائن مزينة بومضات شموع، وخيالات لباعة مسك وعطور، ومسابح وأيقونات، وقواقع ومحارات.
-        لنشترى يا خالة .
-        القابض باسط يا ولدى.
قلاع محصنة راسية، وسفائن عائمة، وحيتان مستأنسة، وأمواج لا تُغْرق، وبحار لا تُهلك.
-        لا أصدق.
-        المقتدر قادر.
نباتات صائدة لا تصيد، وطحالب محسورة، ومراصد شاهقة، وأطياف متعددة، ومخالب هاوية.
-        كأنى أحلم.
-        الخافض رافع يا بنى.
قنافد بحر تعوم، وتماسيح تحطم بيضها، وموانئ تتسع، وأصداف تلمع، ورمال تمحو آثار النعال.
-        لولا شوقى للعودة لمكثتُ هنا.
-        الباطن ظاهر.
نساء لا تعجز، ورجال لا تشيب، وشباب لا يهرم، وأطفال لا تضيع، وودٌ لا يريم.
-        أواقع هذا؟
-        المبدئ معيد.
طرق متشعبة، وأراض معبدة، ونخيل شاهق، وثمار نضرة، ومياه عذبة، وسماء رحبة،  ويجاعٌ ترنم.
-        لمن كل هذا؟
-        الوارث باق.
نسلك طريقاً مزيناً، نرى أفقا عليه دائرة داكنة.
-        ما هذه يا خالة؟
-        الدائرة نفق وصولك يا سالم.
-        أخيراً سأعود .
-        المؤخر مقدم يا ولدى.
-        أحقاً سأعود؟
-        الأول أخر.
-        هيا .. هيا لنجرى يا خالة.
-        الواجد جامعٌ يا بُنى.
*       *         *       *


(20)
خرج جثمان أمل فى عربة إسعاف حيث المقابر، وكان قد غُسِّل، وكفِّن، ورُشَّ بالطيب. تشق السيارة طرقاً كانت أمل تحبها، وتمر بميادين عشقت السير فيها، وحدائق جمعتها وسالم أيام الجامعة.
تتوقف العربة، وينزل النعش، ويُرفع الجسد المسجى، وسالم يلقى عليه نظرة وداع أخيرة، وسلمى تقبل الجثمان فى نوبة بكاء لا تهدأ.
كان سالم لا يزال واقفاً فى ذهول حاد، ووجوم رهيب، وحبيبة عمره توارى الثرى. والشيخ يلقن، والدعوات تُرفَع، والأنين يزداد، والفاتحة تُقْرأ.
يحملق سالم فى وجوه معزيه، ويبسم، تقترب منه سلمى:
-        لا تكتم فى نفسك يا سالم .. ابك .. ابك يا سالم.
أذنه لا تسمع شيئاً، ودموعه لا تسيل، وحرائق بداخله تلتهم الأخضر واليابس. وتأتى سيارة، تندفع منها امرأة لا تلبس نعلاً، عرقها يسيل، ودموعها تهطل:
-        دعونى أراها.
كان باب المقبرة قد أغلق.
-        دعونى أراها.
تضمها سلمى:
-        إنا لله وإنا إليه راجعون.
-        أمل ابنتى ماتت يا سلمى .. ماتت؟
*       *         *       *
عاد سالم ليقول لابنته آمال أن أمها قد سافرت وسوف تعود، وأكدت سلمى لولدها سالم أن زوجة خاله فى رحلة قد تطول.
*       *         *       *


(21)
-        أعرف أن الجوال قد أجهدك يا سالم.
-        رُفات أمل تستحق يا خالة.
-        ها هو النفق، خطوات ونبلغه.
كان النفق أُسطوانيا حالكا.
-        النفق مُعبَّد يا ولدى، لا حواجز فيه، أو عراقيل.
على بابه مكث حيوان عملاق.
-        إنه أخطبوط، تقدم فلن يضرك.
وتسمرتْ أمام النفق، وشهقتْ، ثم أشارت:
-        هيا اعبره يا سالم لتصل.
-        وأنت يا خالة؟
-        مكتوبٌ أن تمر وحدك.
-        وأنتِ؟
-        مكتوبٌ أن أعود.
حين اجتزتُ النفق وجدتُ سلمى وابنها سالم، وآمال ابنتى، وكأنهم فى انتظارى.
-        أين أمى يا أبى؟
ضممت الجوال، ونظرت إلى مقبرة كنتُ قد شيدتها:
-        لقد عادت من سفرها، وستكون معنا.
وراعتنى صورة كبيرة فى يد سلمى.
-        صورة مَنْ هذه يا سلمى؟
-        لا أعرف، لقد رأيتها موضوعة أمام هذا النفق.
كانت الصورة للعجوز التى كانت معى، وأسفلها كُتِبَ تاريخ وفاتها.
                        انتهت
                 بنها فى 8 يوليو 2004
*       *         *       *


الكاتب فى سطور:
·        عضو اتحاد الكتاب.
·        عضو نادى القصة بالقاهرة.
·        مواليد مدينة بنها عام 1962.
صدر له:
1-  ترانيم الخروج والموت – قصص – 1992.




                                         
2-  أصداء التراتيل الصامتة – قصص – هيئة قصور الثقافة – سلسلة إبداعات – 1998.
3-  وأد الأحلام – رواية – هيئة الكتاب – سلسلة اشراقات – 2002.
4-  قراءة فى صفحات الأدب – نقد – هيئة قصور الثقافة – فرع القليوبية – 2002.
تحت الطبع:
1-  سؤال الفتى – قصص.
2-  هوامش حول الإبداع – نقد.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق