بحث هذه المدونة الإلكترونية

الثلاثاء، 27 ديسمبر 2011

نجيب محفوظ والسينما .. فيلسوف صغير جدا د.أشرف محمد




  دعونا نعترف منذ البداية أن ثقافة الصورة طغت فى عالمنا اليوم على ثقافة الكلمة إلى الدرجة التى أصبحت معها عادة القراءة تعانى من الهزال والضعف الشديدين لدى الكثيرين، إلا أن نجيب محفوظ الذى اتخذ من الكلمة طريقا للتعبيرعن أفكاره ورؤيته للحياة من حوله ، ومن فن الرواية وسيلة لرسم وتشريح قطاعات عريضة من المجتمع المصرى ، وطبقته الوسطى على وجه الخصوص ،هذا الأديب قد جمع الحسنيين معا حينما قادته الظروف فى منتصف القرن الماضى تقريبا للتعامل مع الفن الوليد والذى لم يتجاوز عمره الآن مائة عام وبضع سنيين وهو فن السنيما ، وقد كان هذا هو السبب فى انتشار اسم نجيب محفوظ على هذا المستوى العريض ليس بين المثقفين وحسب ولكن بين العامة وحتى الذين لا يجيدون القراءة والكتابة ، فمن لم يستطع أن يقرأ كلماته فقد شاهد شخوصه وهى تتصارع  وأحداث قصصه وهى تنمو على الشاشة الفضية معبرة عن أفكاره ، والفضل يرجع بالطبع للسينما ذلك الفن الجماهيرى الساحر .
 وعن علاقة نجيب محفوظ بالسنيما يقول جمال الغيطانى فى كتابه (نجيب محفوظ .. يتذكر ) وعلى لسان نجيب محفوظ نفسه  "  السينما أثمرت فى سنوات اليأس الأدبى .. السينما دخلت حياتى من الخارج ، لم أكن أعرف عنها شيئا ، نعم كنت أحب أن أشوف سينما ، لكن كيف يعد هذا الفيلم ؟ لا أدرى ..كل ما أعرفه أن هذا الفيلم لرودلف فالنتينو ، لمارى بيكفورد .. ألخ ،لا أعرف أن هناك كاتب سيناريو أوغيره ، فى سنة 1947 ، صديقى فؤاد نويرة قال لى : صلاح أبو سيف المخرج عايز يقابلك ، فى هذه الفترة كانت لى عدة روايات آخرها زقاق المدق .. رحت مع فؤاد ، كنا فى الصيف ، قابلنا صلاح أبو سيف فى شركة تلحمى السينمائية ، قال لى الواقع أنا قرأت لك عبث الأقدار وتبينت منها أنك ممكن تكون كاتب سيناريو كويس ، قال لى أن لديه قصة عنترة وعبلة ، قلت له : أنا ليس لدى فكرة عن هذا الموضوع قال : معلش ستعرف السيناريو ، بدأ أبو سيف يطلب منى حاجة حاجة ، مثلا يقول لى موضوع عنترة وعبلة كذا أو كذا أكتبه لنا  فى عشر صفحات ، اكتب القصة أذهب لتسليمها وأنا أظن أن مهمتى قد انتهت ، يقرأها ، يوافقون ، وإذا به يقول ، لا .. نحن لم نبدأ بعد ، إن هذه فكرة الموضوع ، نريد تحويلة الى سيناريو ، تخيل الفيلم ، أى نقطة  سنبدأ بها وبدأ يشرح

الموضوع ، وأنا أطبق ذلك عمليا ، بعد المعالجة ، علمنى  عن ذلك تقسيم المناظر ، وبعد أن قرأ نتيجة عملى أهدى لى كتبا فى فن السنيما ، واشتريت أنا بعض الكتب الأخرى ، حقيقة تعلمت السينايو على يدى صلاح أبو سيف "  وهكذا انطلق نجيب محفوظ إلى عالم السينما عبر بوابته الرئيسية وهى السيناريو وكتب العديد من السيناريوهات الناجحة ولكن هل أشبع ذلك نهمه الفنى؟ وهل استأثرت به السينما واجتذبته كليا من عالم الرواية؟ ويخبرنا جمال الغيطانى برد نجيب محفوظ حيث يقول " لم أكتب سيناريو إلا فى الوقت الذى كنت غير مشغول فيه بالأدب ، ولو أن ظروفى فى العمل مع صلاح أبو سيف كانت ملائمة لى لما دخلت هذا المجال أبدا ، ومما لا شك فيه أننى لم أكتب أى شىء فى حياتى وعينى على السينما ، لم يحدث هذا مطلقا ، الأدب أدب ،والدليل أن الروايات التى تحولت إلى أفلام تحولت بصعوبة ومعجزة ، هل ممكن لمؤلف أن يكتب ثرثرة على النيل وعينه على السينما ؟ بالقطع لا " وهذا إن دل فإنما يدل على مدى إخلاص نجيب محفوظ للأدب بل إخلاصه إلى فكره وقناعاته الشخصية بالأساس وليس هذا عيبا فى فن السيناريو ولكن الضوابط والقيود الفنية هى التى تجعل الكاتب بشكل عام يشعر بمدى الاختلاف فى مساحة الحرية الفنية المتاحة من وسيط لآخر ، ففى الأدب ليس هناك طرف ثالث بين المرسل والمستقبل أو بين الأديب والقارىء فالرسالة أو الرواية بعنى أدق يشكلها الكاتب كيفما أراد سواء من حيث الطول أو أسلوب الحكى أو أية مضامين أخرى يراها الكاتب ويريد أن يضعها فى عمله ، أما فى كتابة السيناريو فالأمر يختلف فى فنياته قليلا ، فالسينما إبداع جماعى متراكم الأساس فيه للسيناريو لاجدال ، ولكن السيناريو لا يكتب ليقرأه الجمهور ، السيناريو يكتب خصيصا لطاقم  الفيلم الفنى أى للممثل والمصور ومهندس المناظر وفنان المكياج .. ألخ لكى يقوموا بتحويله إلى شريط سينمائى يشاهده الجمهور ،وهنا علينا أن نلحظ الفرق بين المتلقى فى الحالتين ، ففى الحالة الأولى المتلقى قارىء يجيد اللغة العربية وفى الحالة الثانية المتلقى مشاهد قد لا يجيد القراءة والكتابة، وهنا يلعب السناريو دوره كوسيط لتوصيل الرسالة عبر اللغة أيضا ولكنها هنا هى لغة صورة لها أدواتها ومفرداتها وأيضا قواعد النحو الصرف الخاصة بها ، ولذلك كان حتميا أن يشعر نجيب محفوظ أو أى أديب غيره بالحرية المطلقة فى مجال الأدب بينما يتقلص هذا الدور قليلا فى مجال السيناريو ، ولكن يبرز هنا سؤال هام حول مدى تأثر نجيب محفوظ بكتابة السيناريو وانعكاس ذلك على كتاباته الأدبية ؟ ويجيب نجيب محفوظ فى كتاب الغيطانى حيث يقول " السينما تؤثر من ناحية أخرى ،الإيقاع السريع والتركيز وهذا تأثير عام للسينما على الأدب ، إننى أتساءل ، لماذا اتجهت إلى التركيز بعد الإسهاب ، هناك جملة أسباب ، على رأسها الزمن وإيقاعه ، يعنى لو أنا فى عمر مناسب لا يمكننى كتابة الثلاثية الآن مع هذا الإيقاع وتلك الظروف المحيطة بنا الآن ، أضف إلى ذلك تأثير السينما والتليفزيون وما يتميزان به من تركز ، وهذا يؤثر فى أذواق الناس ، وبالتالى فإن القراءة تتأثر أيضا ، إن الجملة التى تغنى عن صفحة هى الأفضل الآن ، فضلا عن ذلك فإن أدبى كان طبيعيا وأصبح الآن فكريا ، والفكر لا يحتاج إلى إسهاب ، كل العوامل أدت إلى التركيز ، فيه ناس يقولون أن المونتاج أخذه الأدب من السينما ، لكن هذا غير صحيح ، أنه فى الأدب قبل أن يكون فى السينما ، كذلك الرجوع إلى الماضى ، على أية حال فإن الفنون تؤثر فى بعضها " و على ذكر التركيز فإننى أود أن أتطرق إلى تجربتى الخاصة مع أدب نجيب محفوظ ، ليس على المستوى الفنى ومحاولة الاقتداء به ككاتب سيناريو ولكن أيضا على مستوى التدريس الأكاديمى لمادة السيناريو لطلاب معهد السينما وأيضا لمحبى هذا الفن والراغبين فى تعلمه فى أماكن أخرى ، فتدريس السيناريو يعتمد فى بعض مراحله على القدرة على تحليل النص الأدبى لاستنتاج المعنى أو المغزى أو الرسالة التى يضمنها الأديب فى نصه للعمل على ترجمتها سينمائيا مع الحفاظ على هذا المضمون وعدم الانحراف به إلى مسار آخر وذلك كضرورة أدبية تحتم الإخلاص للنص الأدبى وعدم تحريفه ، ولا أقول تبديله لأن مقتضيات الترجمة السينمائية تدفعنا أحيانا إلى الحذف أو الإضافة أو التبديل لبض الشخصيات أو الأحداث الروائية وقليل من كتاب الأدب من يدرك هذه الضرورة الفنية ولا تصيبه بأى امتعاض ومنهم بل وعلى رأسهم نجيب محفوظ نفسه لأنه مارس الإبداع فى المجالين ويدرك تماما الفرق بينهما ، ولهذا نجد أن مسألة تحليل نص أدبى (رواية مثلا تقع فى 150 أو تزيد) يصبح غير عملى داخل قاعات المحاضرات ، ولذلك نلجأ إلى القصة القصيرة كشكل أدبى أقل طولا ، حتى وجدت ضالتى فى شكل فنى أكثر تكثيفا وتركيزا وهو الأسلوب الذى اتخذه نجيب محفوظ  فى كتاب (أصداء السيرة الذاتية) فنجيب محفوظ لم يكتب سيرته الذاتية بالمعنى المعروف لهذا الشكل الأدبى ولكنه حدثنا بشكل مكثف ومجرد عن شخصيات ووقائع وأحداث رآها فى حياته وأثرت فيه بالضروره وأطلعنا على وجهة نظره ورأيه فيها دون أن يكشف لنا عن مكان الأحداث ولا زمانها ولا من هم هؤلاء الشخصيات  وهل هم نجيب محفوظ ذاته فى توقيتات وأزمنه وأمكنة مختلفة ؟ لم يفصح عن شىء من هذا مطلقا وكأنه أرد أن يضعنا أمام تجارب إنسانية خالصة صالحة لكل زمان ومكان ، ودعونى أسوق لكم مثلا لا يتعدى نصه بضعة أسطر ولكنه
مع ذلك يضعنا أمام تجربة حياتية كاملة وهنا مكمن عبقريته .. حيث يقول فى نصه المعنون باسم  (هيهات):
ما ضنت على بشىء جميل مما تملك .
فنهلت من ينبوع الحسن حتى ارتويت .
ولكن البطر بالنعمة قد يرتدى قناع الضجر .
ومن أمارات خيبتى أنى فرحت بالفراق .
وعلى مدى طريقى الطويل لم يفارقنى الندم .
وحتى اليوم يرمقنى هيكلها العظمى ساخرا .
فإذا نظرنا إلى هذا النص وحاولنا تفسيره فسوف نجد كلا منا يفسره بطريقة مختلفة ، فمنا من سيقول أنه يحدثنا عن قصة حب كان البطر سببا فى انتهائها ، ومنا من سيقول أنه يتحدث عن علاقة إنسان بوطنه ، وإلى ما غير ذلك من تفسيرات ، ورغم اختلافها إلا أن الشىء الوحيد الذى يجمعها هو أنها كلها صحيحة ، والوحيد الذى يعرف حقيقتها الأصلية هو نجيب محفوظ ذاته ، ولكنه لم يفصح عنه ، ولهذا كان هذا الشكل الإبداعى هو الشكل الأكثر ملائمة داخل قاعات الدرس نظرا لقصره وثرائه الدرامى.
وإذا عدنا الى علم السيناريو ورحلة نجيب محفوظ معه ، فإننا نلحظ أنه قام بكتابة العديد من السيناريوهات قبل أن تلتفت السينما لكنزه الأدبى المكنون فى رواياته ، وعن هذا يحدثنا رجاء النقاش  فى كتابه( نجيب محفوظ ) وعلى لسان نجيب محفوظ ذاته حيث يقول  " تم اللقاء بين الأدب والسينما عن طريق الصدفة وذلك عندما قام أحمد عباس صالح بتحويل رواية ( بداية ونهاية ) الى مسلسل إذاعى فى صوت العرب وتصادف أن تابع المسلسل المنتج والمصور السينمائى عبد الحليم نصر . ونصر هو نابغة التصوير السينمائى فى عصره على الرغم من أنه كان أميا لا يقراء ولا يكتب والى جانب التصوير كان يقوم أحيانا بإنتاج الأفلام لحسابه الخاص . أعجب نصر بالرواية وهو يستمع اليها فى الإذاعة ولاحظ أنها تصلح لأن تكون فيلما سينمائيا ، وقام بالاتفاق معى واشترى الرواية لاستغلالها سينمائيا فى أواخر الخمسينات ، وأسند الإخراج لصلاح أبو سيف وكتابة السيناريو لصلاح عز الدين ، ولم أشارك كتابة سيناريو هذا الفيلم ، ولم أشارك فى كتابة السيناريو لأى عمل سنيمائى مأخوذ عن رواية لى ومع ذلك أعتبر نفسى من خلال أعمالى الأدبية ومساهماتى فى كتابة سيناريو عدد من الأفلام من أكثر الأدباء الذين أفادوا السينما ولا يسبقنى فى ذلك الا إحسان عبد القدوس"
وهكذا امتدت رحلة نجيب محفوظ مع السينما حتى نهاية الثمانينات تقريبا ، ويلخص الناقد والمخرج التسجيلى هاشم النحاس هذه الرحلة حيث يقول "إذا تأملنا أعمال نجيب محفوظ السينمائية نجد أنها مرت بأربع مراحل متمايزة ، يمكن التعرف عليها بوضوح على النحو التالى ..
المرحلة الأولى : رحلة الكتابة المباشرة . وتمتد لمدة 15 عاما ابتداء من 1945 حتى 1959 قدم فيها 17 فيلما ، كتب أو شارك فى الكتابة لها مباشرة ، القصة السينمائية أو السيناريو أو هما معا ، ومن أفلام هذه المرحلة (لك يوم يا ظالم ) (ريا وسكينة ) (الوحش ) (شباب امرأة ) (الفتوة ) (بين السماء والأرض ) (درب المهابيل ) .
المرحلة الثانية : وتبدأ بفيلم ( بداية و نهاية ) 1960 وتمتد بصفة متصلة  لمدة 14 سنة حتى فيلم ( السكرية) 1973 تقدم فيها 13 فيلما عن روايات نجيب محفوظ ومن أفلام هذه المرحلة  ( القاهرة 30 ) ( خان الخليلى ) (الص والكلاب ) ( الطريق ) (ميرامار ) ( ثرثرة فوق النيل ) (السراب ) ............
المرحلة الثالثة: تبدأ بأول فيلم مأخوذ عن قصة قصيرة هو فيلم ( صورة ) 1972 وتمتد هذه المرحلة لمدة سبع سنوات فقط حتى فيلم (المجرم ) 1978 لتشمل تسعة أعمال منها (الحب تحت المطر) ( الكرنك ) .....وفى هذه المرحلة تتداخل الرواية مع القصة القصيرة .
المرحلة الرابعة :  مرحلة القصة القصيرة .. وتبدأ بفيلم ( الشريدة ) 1980 وبعده تتوالى الأفلام المأخوذة عن القصص القصيرة وحدها ، فتسود بشكل مطلق أو تكاد ، حيث يتم إنتاج 15 فيلم منها خلال 9 أعوام فقط ومن أفلام هذه المرحلة (أهل القمة ) عن قصة من مجموعة ( الحب فوق هضبة الهرم ) وفيلم ( الجوع ) عن حكاية سارق النعمة من (ملحمة الحرافيش ) .
وهكذا نرى كم هى مليئة بالعطاء والإبداع رحلة هذا الأديب الفذ فى كل من الأدب والسينما على السواء ، ولذلك فزعت الأوساط الثقافية فى مصر والعالم حينما جرت محاولة لاغتياله يوم الجمعة 14 أكتوبر 1994 ولكنها بفضل الله باءت بالفشل فمنذ حصوله عام 1988 على جائزة نوبل فى الأدب وهو يتعرض لحملة شرسة من أنصار التيار الدينى المتطرف بحجة أن حصوله على الجائزة بسبب رواية (أولاد حارتنا) وهى الرواية التى يعتقدون أنها كفر صريح ، وفى هذا الصدد أود أن أسوق مثالا من أدب نجيب محفوظ  ذاته ولمن يستطيع أن يتذوق فن الأدب الرفيع ليحكم بعدها على الرجل  أو ليشق قلبه إن استطاع  ، حيث يكتب فى أصداء السيرة الذاتية وعلى طريقة نفى النفى إثبات وتحت عنوان "فيلسوف صغير جدا":
(يطاردنى الشعور بالشيخوخة رغم إرادتى وبغير دعوة ، لا أدرى كيف أتناسى دنو النهاية وهيمنة الوداع . تحية للعمر الطويل الذى أمضيته فى الأمان والغبطة . تحية لمتعة الحياة فى بحر الحنان والنمو والمعرفة .الآن يؤذن الصوت الأبدى بالرحيل . ودع دنياك الجميلة واذهب إلى المجهول . وما المجهول يا قلبى الا الفناء . دع عنك ترهات الانتقال إلى حياة أخرى . كيف ولماذا وأى حكمة تبرر وجودها ؟ أما المعقول حقا فهو ما يحزن له قلبى. الوداع أيتها الحياة التى تلقيت منها كل معنى ثم انقضت مخلفة تاريخا خاليا من أى معنى . ( من خواطر جنين فى نهاية شهره التاسع)
    وفى النهاية لا يسعنا الا أن ننظر بافتنان إلى أدب هذا العبقرى والذى ستستمتع به الأجيال على مر العصور.
مراجع:
1_ نجيب محفوظ يتذكر .. جمال الغيطانى
2_ نجيب محفوظ  .. رجاء النقاش
3_ نجيب محفوظ فى السنيما المصرية .. هاشم النحاس
4 _ أصداء السيرة  الذاتية  .. نجيب محفوظ .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق