بحث هذه المدونة الإلكترونية

الخميس، 15 ديسمبر 2011

رواية النفق " الجزء الأول "



النفق

رواية
محمود قنديل







إهداء ..

إلى العابرين نفقاً لا يهدم
                   محمود


(1)
 خرجتْ من بين المقابر ليلاً، عجوز ذات وجه مشرق، تلف رأسها بمنديل أرجوانى، وترتدى ثوباً أسود، تتوكأ على منسأة نحيلة، وفى عنقها مسبحة كبيرة، نادتنى وهى تخطو ناحيتى، فوضعتُ الجوال عن كتفى، حيتنى بكلمات طيبة، وضمتنى كأم حانية، وعاتبتنى ببسمة مشفقة:
-        ألا تعرفنى يا سالم؟
مَنْ أخبرها باسمى؟، ومَنْ تكون؟
-        مكتوبٌ أن تغادر هذا المكان.
-        لماذا؟
-        لا تسأل الآن.
أمسكتُ بالجوال، وأحكمتُ فوهته، فأعانتنى على رفعه، وسارت بجانبى.
كنت أحفظ الطريق الذى جئت منه؛ نفق طويل تعلوه بيوت لعناكب سامة، وأعشاش لطيور جارحة، وأسلاك مكهربة عارية، وكان السقف قد لفظ حدائد خرسانته، وانحنت أعمدته.
وخارج النفق شريط ترابى يمينه قضبان حديدية رقد فوقها قطار أعيته ساعات السفر، ويساره مساحات متسعة من أراض رملية تأوى عقارب، وتحتضن نباتات شوكية.
 وعلى مسافة غير قصية تبرز لى أشهاد المقابر، وتومض أمامى عيون الكلاب، ويعلو عواء الذئاب، ويخفُض مواء القطط.
تستقبلنى المقابر، فأسمع صفير ريح وحفيف يابس، وأشم رائحة لشواء ودخان، ومسك وريحان.
فى كل زيارة أرى نفس الرؤى، وأسمع ذات الأصوات، وأشم تلك الروائح. لكننا حين تركنا المقابر لم أر أثرا للشريط الترابى، ولا الأراضى الرملية، أو القضبان الحديدية، أو النفق الذى كنت أعبره.
توقفتُ لعل العجوز تشاطرنى الدهشة فلم تفعل، بدت وكأن المكان مألوف لها، تخطو بثقة، فتزيل أحجارا، وتميط أشواكاً، وتطفئ جمرات.
-        أين طريقنا يا خالة؟
-        ذاك سبيلنا يا ولدى.
-        فى أى مكان سينزلنا؟
تسكت، فأسمع ضحكات مجنونة. ومناجاة مجهولة، صرخات مشحونة ونداءات محمومة، لا أدرك سببا، أو ألمس تفسيرا.
نمر بأشباح ونرصد أشخاصاً، فتطلب منى ألا أبالى، وتمرق نيازك وشهب، فتحثنى على النظر أمامى، وأرمق سفوحاً تتسامق وجبالاً تتهاوى، فتخفف عنى عبء ذهولى، وتهوّن علىّ رهبة الارتطام.
-        ألا تفزعى؟
-        الفزع فازع!
-        فازع؟
-        نعم فازع.
-        ممَنْ؟
-        من حروف ناطقة بلطائف.
-        بلطائف؟
-        اللطائف أطياف.
-        تظنينى فاهماً؟
-        الفهم لا يفهم سرَّنا.
الجوال على كتفى لا يزال، والعجوز ماضية بجوارى، تعيننى حين أوشك على السقوط، وتعدل من وضع الجوال كلما انحرف، وتمحو كلمات مسطورة، وتسطر حروفاً زائلة.
*       *        *         *

(2)
تتوالى صرخات الأم فوق الفراش، والطبيب يحاول إخراج الوليد، ترتفع الأكف بالدعاء، وتخفق القلوب بالأمنيات، ويطول الانتظار.
-        لطفك يا رب، لطفك.
يصرخ المولود رفضاً للميلاد، فيحمد الجميع رباً كريماً، وتمتلئ الدار بالزغاريد، وتبش الوجوه، وتتصافح الأيادى:
-        ألف مبروك.
-        مولود سعيد إن شاء الله.
-        اللهم اجعله باراً بأمه.
-        الفاتحة لروح أبيه.
يشحب وجه الأم، وتبرد أطرافها، ويشخص بصرها، والطبيب يمسك بمعصمها، ويهز رأسه:
-        البقاء لله.
تستحيل الزغاريد عويلا، وتنتفض الصدور، وتَجمُ الوجوه، وتتحرك الشفاه:
-        لا إله إلا الله.
-        لا حول ولا قوة إلا بالله.
-        إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون.
-        ربُنا يتولى أمر عباده.
تشق الزحام طفلة هزيلة، تندفع ناحية الجسد المسجى، تقبل الوجه والصدر، والكفين والقدمين، وأنينها لا ينقطع:
-        أمى، أمى، لا تتركينى ...
برفق يشدها أحد الجيران، ويجفف العم دموعها، ويضمها خالها:
-        لله الأمر يا سلمى.
-        أمى ماتت يا خالى، ماتت ...
-        قضاء لا يُرد يا ابنتى.
تتوسل ابنة الأربعة عشر ربيعاً لأقاربها ألا تترك دارها.
-        والمولود يا سلمى؟
-        أربيه.
-        كيف وأنت صغيرة، ووراءك مدرستك.
-        والنبى يا خالى، والنبى يا عمى، والنبى يا خالتى.
يرءفون بنشيجها، فتترك الدراسة رغم اعتراض المعلمين، وإلحاح الأتراب، واستنكار الجيران.
تولى ظهرها لجوائز منتظرة، وشهادات تفوق، وآفاق ممتدة.
تتولى الصغيرة تربية أخيها؛ تهدهده، تجفف دموعه، تؤرجحة، تعد له الحليب، تحمله إلى العيادة، تعطيه الدواء فى مواقيته، تتعيش على ما تيسر من عطاء الأقارب وأهل الخير.
يشب الصغير، فتصحبه إلى النهر، تجلسه بجانبها، يراقب جريان الماء والأسماك، تغسل الثياب والأوانى، يحمل عنها بعض المتاع، يعودان قبل الغروب.
يؤذن المؤذن، توضئه، تعلمه الصلاة، ترسله إلى الكتَّاب، يحمل القرآن ولوح الكتابة، يمشى وحيداً، لا يصادق أحداً، أو يصاحب نفراً، يردد وراء الشيخ السور والآيات.
-        سمَّع يا سالم سورة "الفجر"
-        ........................
-        طيب، سمَّع "والشمس وضحاها" .
-        ..........................
-        إذن ماذا تحفظ يا ولد، هه؟
-        أحفظ سورة "الإنسان"، وسورة "النَجْم"، وبعض الآيات.
-        فقط؟
-        نعم يا سيدنا.
-        والله فالح، غدا ترسل لى أختك.
تذهب سلمى إلى الكُتَّاب متحسرة، يلقى الشيخ على مسامعها ما تكره:
-        لا فائدة، أخوك غير نافع معنا.
-        أخى نبيه يا سيدنا.
-        نعم نبيه، لكن إهماله للحفظ مصيبة، وسرحانه مصيبة أكبر.
-        البركة فيك.
-        لم تعد فىّ بركة.
-        كيف يا سيدنا؟
-        الولد لا يشجع إطلاقا.
-        أرجوك، اعط له فرصة أخيرة.
-        خذى أخاك من أمامى الآن، وتوكلى على الله، هيا توكلى.
كان الصغير منزوياً لا يحب اللعب، أو الصيد، أو الاستحمام فى النهر. كان يخجل من رقاع ملابسه، وشعوثة شعره، والمشى حافياً. كان يتأمل الأشجار والطيور والدواب، ويحب خضرة الحقول، وأزهار البساتين، وألوان الفراشات.
وكان يعشق تسابيح الكراوين، وهديل الحمائم، وسقسقة العصافير، كان مولعاً بحكايا جارته المسنة، يستمع إليها، ويعود ليحكى لأخته عن الشاطر حسن وذات الهمة، والملك سيف وبهية، والسندباد وعبلة، كما كان يحكى لها عن التياتن والعنقاء، والغول والظباء.
لذلك قررت أخته – بعد مداولة معه – الاستجابة لرغبته فى ترك الكُتَّاب.
*      *      *      *

(3)
اعترضنا بيتٌ بدا كمقبرة كبيرة، معلق على بابه فانوس كيروسينى يؤرجحه الهواء فلا يسقط، وتصيبه الأمطار فلا ينطفئ، وأمام البيت تجمعت نسوة عواقر، وبنات هزيلات، ورجال نواحل، وصبية يعلقون تمائم.
توقفت العجوز قليلاً:
-        لماذا تبكى يا سالم؟
-        تذكرتُ أختى سلمى، واشتقت لابنتى.
-        الصبر صابر يا ولدى.
وتقدمت نحو الباب الحديدى، طرقتْه عدة مرات، فسمعنا – بالداخل – وقع خطوات كأنها ارتطام أحجار، وانفتح الباب، ومَثُل شخص أمامنا، أفزعتنى ملامحه، فكدتُ أتراجع، لكن العجوز أحست بى، فربتت على يدى، وأمسكت بكفى، وطلبت منى أن أدخل.
كان الرجل لا يزال واقفاً بجسده الضخم فى انتظار ولوجنا، وقد حاول أن يحيينا بابتسامة مشرقة وكلمات عطرة، فكشف عن فم نتن، وأسنان صدئة ، وعجز عن إخفاء غلظة تكوينه.
-        الجزع جازع يا بُنى.
وخطت، وخطوت معها، وأنا أصارع مجهولاً يريد سحقى، وأتطلع إلى أطواق تطفو بى.
أنزلتُ الجوال، وتفقدت عيناى البيت، كان فسيحاً، محاطاً بأرائك مصنوعة من عظام آدمية، ومخضب بطلاسم من دم، ومن فتحة بالسقف أطل ثعبان ضخم، وعلى الأرض تناثرت أشياء كثيرة.
كان الرجل قد جلس وسط الفسحة، مولياً وجهه تجاه غرف ثلاث، تصدر عنها همهمات.
-        أود أن أهرب يا خالة.
-        الهروب ....
قاطعنا:
-        فى حضورى أرجو ألا تتكلما، أو تفكرا إلا بإذنى.
قلتُ:
-        هل تأذن لى ...
-        انتظر لحظات .
وكان يشهق ويزفر، ويسعل، ويبصق دماً:
-        لك أن تتكلم.
-        نود أن نخرج من هنا.
-        المكان يحتاج قربانا.
وقبل أن أستفسر صاحت العجوز:
-        القربان مكروب.
نظر إلىّ طويلاً:
-        لابد من شئ نذبحه.
احترتُ، وانتظرت من العجوز رداً، فقال:
-        لا حيرة، فهذه أول مرة تمرون بى.
وتمتم، فانفتحت إحدى الغرف، وخرج منها أشيب يرتدى فراء ثعلب، ويلبس تاجاً من ريش صقر، وفى قدميه نعلان كحوافر البقر، وعلى يديه رضيع ينتفض؛ مشى به، وأمام الرجل انحنى يضعه، فصرخ الوليد، فكدت أستنكر، فابتسم ساخراً، ومد إصبعه ناحيتى:
-        لا .. لا تستنكر.
كان الرضيع لا يزال يصرخ، فانفتحت غرفة أخرى، وظهر منها أشيبٌ آخر، قدم للرجل سكينا، فأزاح الرجل ذقن الرضيع، ومرر السكين على رقبته، فاجتاح البيت صمت مروِّع.
-        أنهينا أهم إجراء.
قالها، فلم أنطق بحرف، ولم تنبس العجوز، فمد يده الى قطعة كتان، لف بها جثة الذبيح، واحتفظ بدمه فى إناء فخارى:
-        هذا دم حقيقى.
-        أخرجنا من هنا.
-        هناك إجراء آخر.
ظلت العجوز واجمة .
-        لابد أن نرى دمك.
ارتعدتُ.
-        لا تخف، فلن نذبحك كما ذبحنا الوليد.
وضحك حتى سال لعابه، فكدت أتقيأ، لكنه لم يعبأ، وواصل ضحكاته، ثم هدأ فجأة، وجذب بنصرى الأيسر، ووخذه بشوكة، وضغط عليه بشدة، حتى سالت قطرات من دمى، أمعن النظر فيه:
-        دمك صناعى.
-        ماذا؟
-        قلت دمك صناعى.
-        كيف؟!
-        دمك ماء ولون.
-        ماء ولون؟
-        هيا .. هيا انطلقا.
*      *      *        *

(4)
كان شاردا وأخته سلمى تؤكد له أن المدرسة غير الكُتَّاب، فلا مجال للتدليل، ولا تفكير فى الإهمال.
فلما انتبهتْ إلى شروده تنهدتْ، وأطبقت فكيها بشدة، وصاحت توبخه، إلى أن أومأ لها مبتسما، فأنهى حدتها.
كان فرحاً برداء المدرسة، وسعيداً بحقيبته، ومسروراً بكتبه التى استثارت حبه بصورها الملونة، وكلماتها الواضحة.
كان يستيقظ ملهوفاً، فتأمره سلمى بالصلاة، فيتوضأ فى عجل، ويلبس رداءه بشغف، ويحمل حقيبته متحفزاً، فتودعه، وتدعو له.
كان الذهاب إلى المدرسة رحلة يستلذها سالم، يفكر فيها ليلا، ويحرص عليها بَُكْرةً.
-        ما الذى أيقظك؟
-        المدرسة.
-        اليوم إجازة.
-        إجازة؟ لمَ؟
-        مثل اليوم كان نصراً.
عاد سالم إلى فراشه مكتئبا، لا يقبل كلاماً من أخته، أو يطلب طعاما من يدها. كان السير إلى المدرسة طقساً يستطيبه الصغير، فللصباح رائحة مميزة، والحقول يكسوها ضباب تصارعه أشعة شمس واهنة، وأوراق الأشجار نثرت عليها قطرات الندى، والعصافير تسقسق فى نشاط حميم، وتبدأ مع الطيور رحلة التقاط الرزق.
كان الصغير مشدودا لطابور الصباح، ينصت لإذاعة المدرسة، ويؤدى التمارين بقوة، ويهتف للعلم بثبات، ويردد – مع زملائه – النشيد بحماس.
وكانت أمل – رفيقة فصله – تتابعه، وتضع يدها على فمها وتضحك، فلا يلتفت، وتدفعه بكتفها، فلا يتحرك.
-        مالك يا سالم؟
ملامح الجد لا تفارق وجهه رغم سعادته بدُعاباتها، وارتياحه إليها.
لم تبخل عليه أمل بشئ، تقدم له البراية حين يقصف قلمه، وتعطيه الممحاة عندما يخطئ، وتضع أمامه الألوان قبل أن ترسم، وتناوله الزمزمية ليروى عطشه، وَتُقْسم ليشاطرها فطورها.
حكت أمل لأمها كل شئ عن سالم، وعن ظروفه، فكانت أمها تغتنم كل مناسبة لتقدم ما يعينه على المعيشة ومتطلبات الدراسة، فتقبل أخته بعد رفض ومجادلات.
ولما توطدت العلاقة أصبح قبولها يسيراً، وسعيها لرد شئ من الجميل غير عسير.
-        سأذاكر اليوم مع أمل.
-        لقد كبرتَ، ألا يوجد ولدٌ مثلك تذاكر معه.
-        الأولاد لا يألفوننى.
-        وأمها؟
-        تثق بى.
-        ووالدها؟
-        يعرفنى جيداً، ويرانى ابنه.
*      *      *        *
-        سالم، عند أى درس توقفنا؟
-        لا أذكر يا أمل.
-        المذاكرة فى حاجة الى تركيز.
-        لا أستطيع مقاومة التفكير والحيرة فيما يدور حولنا.
-        أغلق الراديو هذه الأيام، والتلفاز، ولا تستمع إلى نشرات الأخبار، فنحن على أبواب الامتحانات.
-        الأمر لا يتوقف على الراديو والتلفاز فقط.
-        علام يتوقف أيضا؟
-        خالى ...
-        ما له خالك؟
-        خالى تسلل ليجاهد.
-        الله معه.
*       *       *        *
أشارت نتائج الامتحانات إلى تفوق أمل ، ونجاح سالم.
*      *      *       *
-        سالم، مَنْ يصدق؟، أسبوع ويبدأ امتحان الثانوية.
-        الأيام تمر بسرعة.
-        أنا واثقة أنك ستُعوض.
-        أعوض؟
-        كن واثقا فى نفسك.
-        من أين تأتى الثقة؟
-        من إيمانك، ثم مذاكرتك.
-        سأحاول قدر استطاعتى.
*      *      *       *

(5)
قلت للعجوز:
-        لماذا سكتِّ؟
-        سكتُ لأتكلم.
-        إنه سافك.
-        السافك مسفوك.
-        ما المعنى؟
-        المعنى فى معية أكبر.
وطأنا مكاناً به صخور ضخمة تشكل طبقات مبعثرة، وكان علينا أن نخطوا فوقها.
-        ما اسم هذا المكان يا خالة؟
-        الاسم سمة.
-        المكان ليس غريباً عنى.
-        تمهل يا ولدى.
خرجتْ من بين الصخور ثعابين كثيرة، شكلت كتلاً ملفوفة، رمادية، وبنية، وخضراء.
-        لا ترتعد، فلن تصيبك بشئ.
زحف – من فوق صخرة – ثعبان ضخم، انقض على فريسة، عصرها، ضربت الفريسة الأرض بأرجلها، وحاولت أن تخلص جسدها، لكن العصر كان أقوى، فبدأت حركاتها تهدأ، إلى أن شُلَّتْ، ففتح الثعبان فمه والتهمها.
-        ألم تر ثعابين من قبل؟
-   مرة رأيتُ ثعباناً يتسلل إلى بيتنا، فهببتُ جارياً، لكن سلمى أختى أمسكت "بلطة" وقطعت رأسه، وقالت: جيل جبان. ولما حكت لعمى أشار نحوى وهو يقول: هؤلاء سيحررون الأرض، ويحفظون العرض، ثم هتف: عاش جيل اليوم .. عاش جيل اليوم. وبكى عمى، فلم أفهم شيئاً.
-        الميلاد مولود يا بُنى.
-        كيف؟
-        من أرحام ماتت.
-        الموت حق.
-        والميلاد صدق.
حولنا ثعابين لا تحصى، تأكل ثعالب وتعلو صخوراً، تلتهم فئراناً وتتسلق أشجاراً، تبتلع ضفادع وتترك قروداً.
-        لحظات ونجتاز المكان يا سالم.
أسمع فحيحاً، وأبصر سموماً، وأخطو، فيلتف ثعبان حول ساقى.
-        لن يؤذيك.
يتركنى الثعبان، ويمشى خلفنا، وكأنه يتابعنا ونحن نجتاز المكان.
-        ما النهاية يا خالة؟
-        النهاية بداية يا سالم.
-        النهاية حلم.
-        البداية حقيقة.
-        الحقيقة وهم.
-        الوهم خيال.
-        الخيال واقع.
كان الجوال قد أتعب كاهلى، فأنزلتْه، ووقفتْ تحملق فى وجهى:
-        ملامحك مثل ملامح ولدى.
-        وأين هو؟
-        بعث ثم مات، لكنه – يوماً – سيأتى.
أضواء خافتة تحيط المكان، ورجل وامرأة يسيران على مسافة غير بعيدة، يخطوان مثل خطونا، ويرتديان نفس ملابسنا، يقتربان ويقفان قبالتنا؛ قسماتهما تطابق قسماتنا، يبتعدان عنا، ويسيران فى طريق يوازى طريقنا إلى أن اختفيا.
-        مَنْ يكونان يا خالة؟
-        السؤال مسئول.
-        كأنهما نحن.
-        نحن لا نملك أنفسنا.
-        وهما؟
-        لا يملكان شيئا.
-        الرجل يملك جوالا كجوالى.
-        الجوال مالك لا مملوك.
-        والمرأة تمسك منسأة كمنسأتك، وتعلق مسبحة كمسبحتك.
-        هذا فى عالم غير عالمنا.
-        غير عالمنا؟
-        ارفع معى الجوال يا سالم وسر، ففى السير أسرار أسيرة.
وأصرت على المشى خلفى، فلما سكت وقع قدميها التفتُ، فلم أرها، كانت قد اختفت.
*       *        *        *

(6)
-        أمل، أى رغبات ستكتبين.
-        شئ يحير، فالكليات كثيرة يا سالم.
-        لكنك كنت تميلين إلى الطب، أو الصيدلة.
-        لأن أمى ترغب أن أكون دكتورة.
-        الطب عمل إنسانى عظيم، يكفى أن تزيحى ألم إنسان، أو تخففى من أوجاعه.
-        على بركة الله، سأكتب الطب رغبة أولى، وأنت؟
-        عندما يأتى تنسيق المرحلة الثانية سوف آخذ رأيك.
-        لولا انشغالك الدائم لكنت مثلى؛ مرحلة أولى.
-        ألست مهمومة بما يدور حولنا؟
-        للهم وقت، وللمذاكرة وقت آخر.
*        *        *          *
رنَّتْ الزغاريد عالية فى بيت أمل لالتحاقها بكلية الطب، وكانت فرحة سلمى كبيرة لقبول سالم بكلية الآداب.
-        سلمى، من اليوم يمكننى الاعتماد على نفسى، ويمكنك الاعتماد علىّ، سأنظم حياتى لأدرس وأعمل معاً.
-        لا .. لا يا سالم.
-        أرجوك .. أرجوك لا تجادلينى فى هذا الموضوع، فهو منته.
-        لكن ...
-        لكن ماذا يا سلمى؟، كفاك شقاءً، ولقد آن الأوان لتتزوجى.
-        أتزوج؟، مَنْ قال أننى أريد الزواج؟
-        ليست المسألة مَنْ قال؟، المسألة أن السنوات تمر، وفرص اليوم غير فرص الغد.
-        انتظر يا سالم حتى ...
-        لقد قررت الذهاب إلى سعيد لأعطى له موافقتك على الزواج منه.
-        لكن ...
-        لا تقولى "لكن" مرة أخرى، إننى ذاهب الآن.
لمعت عيناها، وحاولت أن تخفى فرحة استقرت داخلها، وارتعشت شفتاها، ولم تطاوعها الكلمات:
-        تعال يا سالم، تعال يا ولد، تعال .....
كان سالم قد خرج، وأغلق الباب، وبالقرب من منزل "سعيد" تنامى إلى سمعه صوت رقيق:
-        سالم .. يا سالم ..
-        أمل؟
-        ماذا تفعل هنا؟
-        غدا أقول لك.
-        ولماذا لا تقول الآن؟
-        الموضوع يخص سلمى.
وكانت فى يده مجلة، على غلافها لقطات لمعارك.
-        ما أخبار الحرب يا سالم؟
-        بيننا مَنْ يساعد عدونا على ضرب شقيقنا.
-        هذه خيانة.
-        يسمونها سياسة.
-        السياسة لعبة قذرة.
-        والحفاظ على كرسى الحكم بأى ثمن لعبة أقذر.
*        *        *          *
فرَّت دمعتان من عينى سلمى، وسعيد يقدم لها دبلة وخاتماً، وقرطاً ومصحفاً، والزغاريد ترن، والموسيقى تعلو، والغناء يتواصل.
-        المأذون وصل، من فضلكم يا جماعة هدوء.
-        أين وكيل العروس؟
وقبل أن يتقدم سالم همس:
-        عقبالنا .. عقبالنا يا أمل .
*        *          *        *    

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق